يوم الجمعة 19/10/2007، الساعة الثامنة والنصف مساء بتوقيت القاهرة، جلست أنتظر اللقاء التلفزيوني، على قناة إم بي سي، للأميرة فريال بنت فاروق، بعد أن قرأت عن لقاء معها بثته قناة العربية وفاتني، لأنني لست من مشاهدي التلفزيون إلا بتوصية من أحد الأصدقاء لبرنامج محدد أو فقرة مهمة أو طامة كبرى. سمعت قريبتي، عرضا، تشير إلى بث للقاء مع الأميرة فريال، فتمسكت بالفرصة، ولم أعرف هل هو لقاء آخر غير الذي فاتني أم أنه إعادة. جلست متوجسة لا أعلم بأي لغة سوف تتكلم فريال وإلى أي مدى سوف يرتفع ضغطي، وكان ضغطي قد ارتفع إلى معدلاته الخطرة 180 على 105، بعد الاستماع إلى كلام متواصل للدكتور محمد عمارة ـ مغرب الاثنين 1/10 ـ مغرب الثلاثاء 16/10/2007 – بإذاعة القرآن الكريم، نسف فيه حضرة الدكتور العلامة سجله المجيد في البحث العلمي ولغة العلماء.
الأميرة فريال، طفلة جيلي الأولى، تصغرني بعام وثلاثة أشهر بالتمام، عن يوم مولدها نشرت مجلة «الهلال» في عددها ديسمبر 1938 في الصفحة الثالثة صورة الأمر الملكي إلى: «حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء، حمدا لله تعالى على ما أنعم وتفضل فقد وهب لنا من لدنه في الدقيقة الأولى من الساعة الرابعة من مساء يوم الخميس المبارك الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة 1357، الموافق للساعة الثامنة من مساء اليوم السابع عشر من شهر نوفمبر سنة 1938 بقصر المنتزه مولودة أسميناها فريال...
في كتاب «قراءة الأطفال»، المقرر علينا في روضة الأطفال 1944 نقرأ: «هذه صورة أميرتنا المحبوبة...» تحت وجه طفلة جميلة باسمة العينين يطوق شعرها المنسدل على كتفيها شريط معقود فوق رأسها على هيئة وردة بيضاء يانعة، طالما حاولنا محاكاتها بنتائج لم تصل أبدا إلى غايتنا. أحببناها بصدق وغنينا لها بشغف، من دون غصب أو نفاق، «فريال يا فريال، يا طلعة الإقبال»، ونحن نرتدي ملابس الزهرات ونتمنى لو كانت «فريال» في وسط الدائرة ونحن محتفلات بها متحلقات حولها. لعلها كانت صلة الوصل في محبتنا للملك والدها والملكة والدتها. لم تستفزنا في خيالاتنا عنها، بل كنا نفرح بكل صورة جديدة لها يسمح بنشرها. في 26 يوليو 1952، لم تكن قد أكملت الرابعة عشرة، وفي صور رحيل الملك السابق فاروق على يخته المحروسة مع زوجته ناريمان ورضيعه الملك أحمد فؤاد، وبناته الثلاثة الأميرات: فريال وفوزية وفادية، كانت عيوننا تبحث عن فريال «وحدها» المأسوف عليها منا. ظهر على «قناة إم بي سي 1» تنويه بصورة الأميرة الصبية فريال مأخوذة من لقطات يوم الرحيل ومعها عنوان «قدر أميرة»، ثم بدأ «ريكاردو كرم» في تقديمه لـ«صاحبة السمو الملكي»، انتقلت الكاميرا بعده إلى «فريال». سبحان الله! أهذه أنت يا «فريال»؟ نعم إنها مقبلة في أقل من شهر على إتمام تسعة وستين سنة بعيدا عن يوم مولدها بقصر المنتزه بالإسكندرية في الردهة القوطية، ونعم، إنها تظهر لأول مرة لنراها بعد خمس وخمسين سنة من امتناع طويل عن الظهور إعلاميا، قررته هي نفسها أو العائلة، لكن ما كنت لأظن................
لم أكمل جملتي، كان يجب أن أتريث لأسمعها تصر على أن تتكلم بالعربية وتصر على أن تشدها من ذاكرتها، ولو بصعوبة، من دون أن تخلطها بأي كلمة من لغة أجنبية، ولو كانت الفرنسية التي هي في الغالب لغتها «الأم».
«فريال»، الطفلة النضرة ذات الشريط المعقود وردة بيضاء فوق رأسها، صاحبة «السمو الملكي» تنسحب «مظهرا»، لتنبعث من روح هذه السيدة البالغة من العمر تسعة وستين عاما، طفلة أكثر نضارة وحيوية ومرحا، تقدم قلبها «وردة بيضاء» وأراها بلقب «صاحبة السمو الإنساني». تقول بعزة: «أنا مصرية مسلمة»، «أنا في يد الله»، «أعوذ بالله»، «أحب الحقول لأنها خضراء ومافيش أسوار»، «السرايات مش ملكنا... ملك الوطن».
وجهها مغسول بعيدا عن محاولات التزين وعمليات التجميل. تتكلم بتلقائية وذكاء وخفة ظل، تتجنب الأذى فلا يصدر عنها أو يأتي إليها. ترفض تعبير «لعنة القدر»، بل تكاد تقنعنا بأن القدر فضل لها الخلاص من القصور الملكية التي تسميها «قفصا» ـ أي سجنا أو معزلا تلفه الأسوار ـ حيث كانت لغة القصر الملكي هي الفرنسية أو التركية، وحيث لم تكن ترى أو تختلط بأطفال في مثل عمرها سوى شقيقتيها، «فوزية» التي ولدت عام 1940، و«فادية» التي جاءت بعدها عام 1942، فهي ضحية تربية ملكية خاطئة وجافة وجانية، تفضل لأطفالها العزل مع مربيات أجنبيات، جنسا ولغة ودينا، لتكرس ذلك الانفصال والتعالي بين الأسرة الملكية، وحاشيتها، وتوابعها، وبين الشعب المصري ولغته ودينه وثقافته.
تنطق حضرة صاحبة السمو الإنساني «فريال» بحلاوة كلمة «الوطن»، وتقول «أنا مصرية والمصريين أخواتي» في سياق كلامها بعامية مصرية ركيكة وضحلة، تلمس مستوى عامية غير المتعلمين الذين كانوا مصدرها الأول في التقاط قدرة التحدث بالعربية، وهي مع ذلك وعلى الرغم من هذا القصور اللغوي الواضح، استطاعت أن تغزل فصاحتها وبلاغتها مع معوقات التعثر في التعبير بلغة عربية، فصحى أو عامية، ترقى إلى مستوى أفكارها النبيلة وسماحتها الإنسانية، متمشية مع المثل المصري الدارج «الشاطرة تغزل برجل حمار»، وأنا أسوق هذا المثل متعمدة لأنني رأيتها فرحة جدا عندما استطاعت أن تستشهد بمثل مصري يقول: «يوم بصل ويوم عسل»، وبعد أن قالت إنها تحب الحيوانات لأنها: «مش بوشين» – أي ليست منافقة بوجهين.
أيتها المواطنة المصرية فريال: يا صاحبة السمو الإنساني، صدقيني لو قلت لك أنه في أيام ارتجافك من البرد والوحدة في «السرايات الملكية»، كنا، وأبسط طفل فلاح فقير في ريف مصر، الذي كان ولا يزال محروما ومهملا، على استعداد لنكون معطفا دافئا لك، فقط لو كانوا قد فتحوا «القفص» لتخرجي إلينا
الأميرة فريال، طفلة جيلي الأولى، تصغرني بعام وثلاثة أشهر بالتمام، عن يوم مولدها نشرت مجلة «الهلال» في عددها ديسمبر 1938 في الصفحة الثالثة صورة الأمر الملكي إلى: «حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء، حمدا لله تعالى على ما أنعم وتفضل فقد وهب لنا من لدنه في الدقيقة الأولى من الساعة الرابعة من مساء يوم الخميس المبارك الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة 1357، الموافق للساعة الثامنة من مساء اليوم السابع عشر من شهر نوفمبر سنة 1938 بقصر المنتزه مولودة أسميناها فريال...
في كتاب «قراءة الأطفال»، المقرر علينا في روضة الأطفال 1944 نقرأ: «هذه صورة أميرتنا المحبوبة...» تحت وجه طفلة جميلة باسمة العينين يطوق شعرها المنسدل على كتفيها شريط معقود فوق رأسها على هيئة وردة بيضاء يانعة، طالما حاولنا محاكاتها بنتائج لم تصل أبدا إلى غايتنا. أحببناها بصدق وغنينا لها بشغف، من دون غصب أو نفاق، «فريال يا فريال، يا طلعة الإقبال»، ونحن نرتدي ملابس الزهرات ونتمنى لو كانت «فريال» في وسط الدائرة ونحن محتفلات بها متحلقات حولها. لعلها كانت صلة الوصل في محبتنا للملك والدها والملكة والدتها. لم تستفزنا في خيالاتنا عنها، بل كنا نفرح بكل صورة جديدة لها يسمح بنشرها. في 26 يوليو 1952، لم تكن قد أكملت الرابعة عشرة، وفي صور رحيل الملك السابق فاروق على يخته المحروسة مع زوجته ناريمان ورضيعه الملك أحمد فؤاد، وبناته الثلاثة الأميرات: فريال وفوزية وفادية، كانت عيوننا تبحث عن فريال «وحدها» المأسوف عليها منا. ظهر على «قناة إم بي سي 1» تنويه بصورة الأميرة الصبية فريال مأخوذة من لقطات يوم الرحيل ومعها عنوان «قدر أميرة»، ثم بدأ «ريكاردو كرم» في تقديمه لـ«صاحبة السمو الملكي»، انتقلت الكاميرا بعده إلى «فريال». سبحان الله! أهذه أنت يا «فريال»؟ نعم إنها مقبلة في أقل من شهر على إتمام تسعة وستين سنة بعيدا عن يوم مولدها بقصر المنتزه بالإسكندرية في الردهة القوطية، ونعم، إنها تظهر لأول مرة لنراها بعد خمس وخمسين سنة من امتناع طويل عن الظهور إعلاميا، قررته هي نفسها أو العائلة، لكن ما كنت لأظن................
لم أكمل جملتي، كان يجب أن أتريث لأسمعها تصر على أن تتكلم بالعربية وتصر على أن تشدها من ذاكرتها، ولو بصعوبة، من دون أن تخلطها بأي كلمة من لغة أجنبية، ولو كانت الفرنسية التي هي في الغالب لغتها «الأم».
«فريال»، الطفلة النضرة ذات الشريط المعقود وردة بيضاء فوق رأسها، صاحبة «السمو الملكي» تنسحب «مظهرا»، لتنبعث من روح هذه السيدة البالغة من العمر تسعة وستين عاما، طفلة أكثر نضارة وحيوية ومرحا، تقدم قلبها «وردة بيضاء» وأراها بلقب «صاحبة السمو الإنساني». تقول بعزة: «أنا مصرية مسلمة»، «أنا في يد الله»، «أعوذ بالله»، «أحب الحقول لأنها خضراء ومافيش أسوار»، «السرايات مش ملكنا... ملك الوطن».
وجهها مغسول بعيدا عن محاولات التزين وعمليات التجميل. تتكلم بتلقائية وذكاء وخفة ظل، تتجنب الأذى فلا يصدر عنها أو يأتي إليها. ترفض تعبير «لعنة القدر»، بل تكاد تقنعنا بأن القدر فضل لها الخلاص من القصور الملكية التي تسميها «قفصا» ـ أي سجنا أو معزلا تلفه الأسوار ـ حيث كانت لغة القصر الملكي هي الفرنسية أو التركية، وحيث لم تكن ترى أو تختلط بأطفال في مثل عمرها سوى شقيقتيها، «فوزية» التي ولدت عام 1940، و«فادية» التي جاءت بعدها عام 1942، فهي ضحية تربية ملكية خاطئة وجافة وجانية، تفضل لأطفالها العزل مع مربيات أجنبيات، جنسا ولغة ودينا، لتكرس ذلك الانفصال والتعالي بين الأسرة الملكية، وحاشيتها، وتوابعها، وبين الشعب المصري ولغته ودينه وثقافته.
تنطق حضرة صاحبة السمو الإنساني «فريال» بحلاوة كلمة «الوطن»، وتقول «أنا مصرية والمصريين أخواتي» في سياق كلامها بعامية مصرية ركيكة وضحلة، تلمس مستوى عامية غير المتعلمين الذين كانوا مصدرها الأول في التقاط قدرة التحدث بالعربية، وهي مع ذلك وعلى الرغم من هذا القصور اللغوي الواضح، استطاعت أن تغزل فصاحتها وبلاغتها مع معوقات التعثر في التعبير بلغة عربية، فصحى أو عامية، ترقى إلى مستوى أفكارها النبيلة وسماحتها الإنسانية، متمشية مع المثل المصري الدارج «الشاطرة تغزل برجل حمار»، وأنا أسوق هذا المثل متعمدة لأنني رأيتها فرحة جدا عندما استطاعت أن تستشهد بمثل مصري يقول: «يوم بصل ويوم عسل»، وبعد أن قالت إنها تحب الحيوانات لأنها: «مش بوشين» – أي ليست منافقة بوجهين.
أيتها المواطنة المصرية فريال: يا صاحبة السمو الإنساني، صدقيني لو قلت لك أنه في أيام ارتجافك من البرد والوحدة في «السرايات الملكية»، كنا، وأبسط طفل فلاح فقير في ريف مصر، الذي كان ولا يزال محروما ومهملا، على استعداد لنكون معطفا دافئا لك، فقط لو كانوا قد فتحوا «القفص» لتخرجي إلينا
صافي ناز كاظم
الشرق الأوسط 30/10/2007
No comments:
Post a Comment