في أحيان عديدة, تبدو لي بعض الممارسات الصحفية الحادة والصاخبة, هي تعبير عن كسل ذهني,
وفقر في الأدوات والمنطق الذي تتأسس عليه, والأخطر أنها تؤدي إلي إلحاق الأذي بهيبة الأمة والدولة, بل والصفوة الحاكمة.
ومن أبرز الأمثلة التغطية والتعليق علي خلية حزب الله, وقبلها معالجة بعض السياسات والأزمات الإقليمية, كالملفات الإيرانية, والسورية, والفلسطينية, والقطرية والسودانية.
المرامي المعلنة من وراء الخطابات الصحفية والسياسية السابقة تتمثل في الذود عن السمعة والمكانة الإقليمية والدولية لمصر, والدفاع عن مقام القيادة السياسية.
أيا كان الرأي حول مشروعية هذا المسعي الخطابي, إلا أن التساؤل الذي يثور هنا, هل تحقق هذا الهدف؟
لا يحتاج المتابع إلي عميق عناء كي يكتشف الفشل الذريع في المعالجة, لأن هذا الخطاب الزاعق الذي يكتسي باللغة الحماسية الهادرة بالألفاظ الخشنة وعنف المفردات المدببة يتجاوز في بعض الأحيان أدب وأخلاقيات الحوار إلي السجال المنفلت, ولا يبقي منه سوي الإنشاء اللغوي لا المعرفة والمعلومات والردود المقنعة علي الآخرين.
نيران اللغة العنيفة الهوجاء, والدخان الأسود والرمادي الكثيف, قد يوحي, لوهلة أن الدوافع المعلنة مبررة ومشروعة, إلا أن نظرة ولو سطحية ولا نقول شبه عميقة ستكتشف وبلا عناء, أن الخطاب يتوجه للقيادة السياسية التي لا تحتاج إلي هكذا طبل اجوف, وأن وظيفة اقناع المستهلك الداخلي لا تتحقق, لأن غالب الجمهور يتعاطف مع بعض الفضائيات وخطابها الغوغائي, والأثاري, لضعف إعلامنا
.بعض الخطابات تميل إلي التملق, ولا تستهدف الدفاع عن مصر الأمة والدولة, ولا إلي تحليل موضوعي للسياسة الخارجية المصرية, ونقد السياسات الإقليمية للدول, وللفواعل ما دون الدول ـ كمنظمتي حزب الله وحماس...إلخ ـ التي باتت تشكل أحد مثيرات الاضطراب, وعدم الاستقرار الداخلي في البلدان التي تنتمي إليها( لبنان/غزة والضفة الغربية), أو إحدي أدوات الدول الإقليمية( إيران/سورية).
هذا التوجه الكتابي ـ ولا أقول سياسة تحريرية-, يكشف بعضه عن ضعف في التكوين والمعرفة والقدرات التحليلية, وغياب تصورات جادة.
هذا التوجه يبدو بمثابة صيد ثمين وسهل لأطراف إقليمية ـ دول وأحزاب وأجهزة إعلامية- تقتنص معالجاته السطحية والغوغائية كأدلة تستخدم في نقد وهجاء ضد الدولة والأمة المصرية والنيل من مكانتها وتاريخها, وذلك دلالة علي تراجع دورها, بل وقد تصل الخفة والغفلة السياسية لدي بعض الحكام واتباعهم في إقليم النفط إلي تصور أن البترودولار, وبعض أقنيته التلفازية, ودبلوماسية الشيكات قادرة علي حجب الدور والمكانة المصرية.
والأخطر أنهم يوظفون بعضا من أعضاء الحزب الحاكم علي أنهم يمثلون وجهة نظر السلطة السياسية, ولا يحتاج المرء إلي جهد كبير ليثبت أن غالبهم أو بعضهم يبدو غير كفء عن الدفاع عن سياسات أو قرارات الحكم, بل لاحظ وبجلاء الخفة والاضطراب في خطابهم, مما يجعل بعضهم مثيرا للأسي والخجل لدي بعض المشاهدين.
خذ علي سبيل المثال المعالجات الرديئة ـ في بعض الصحف القومية والحزبية والمعارضة والخاصة ـ لسياسات حزب الله الداخلية والإقليمية في اتخاذ قرارات حرب بناء علي تحالفات إقليمية سورية ـ إيرانية, في حرب2006, بينما الحزب كان ولا يزال جزءا من التشكيلات البرلمانية والحكومية وجهاز الدولة اللبناني, ثم اتخذ قرار الحرب بعيدا عن مواقع صنع القرار اللبناني.
الممارسة نفسها برزت أثناء الحرب الأخيرة علي قطاع غزة كان القرار الحمساوي إيرانيا وسوريا بامتياز ولأهدافهما أساسا في كلا المثالين. ذهبت بعض الممارسات الإعلامية ـ والسياسية المعارضة والخاصة ـ إلي ممارسة دهمائية ترمي إلي استثارة المشاعر الدينية, والشعارات' القومية' الصاخبة للمصريين, وأسهمت غالب أجهزة الإعلام,
وبعض القوي السياسية ـ في الحزب الحاكم والمعارضات ـ في عمليات تشويه عمدي لوعي الرأي العام المصري, ومن ثم فقدت الصفوة المصرية وأتباعها القدرة علي توجيه الرأي العام المصري وتبصيره وإقناعه بمصالح مصر القومية!
والسؤال الذي يطرح علي بعض قادة المعارضة الرسمية والدينية هل يمكن القبول تحت أي ظرف أو انتماء, أن تدير بعض المنظمات السياسية الحزبية الدينية ـ فواعل ما دون الدولة ـ الإقليم وسياساته في الأوقات التي تراها, ودون استشارة الدول الأخري تحت شعارات الجامعتين الإسلامية أو القومية العربية؟
هل يمكن القبول بأن يقوم حزب ما باتخاذ قرارات حرب من وراء الدولة وأجهزتها, ومؤسسات صنع القرار داخلها؟
هل يمكن للشعار الإيديولوجي أو الديني أن يكون بديلا عن الرابطة القومية المصرية؟
, كما ذهب بعضهم في استعراض صاخب في إعلاء الرابطة الدينية علي الرابطة القومية المصرية!.
يبدو لي أن بعض الخلط في التحليل والشعارات والخطابات السياسية الزاعقة, هو أمر عمدي يهدف إلي إشاعة بعض الفوضي والاختلاطات في المجال العام السياسي المصري ويسهم في عملية استثارة مشاعر' العوام' ـ من النخب والمتعلمين والأميين لا فارق! ـ الذين يجدون في الفوضي الفكرية والسطحية في الأطروحات القائمة فرصة سانحة لكسر القيود القانونية والأمنية علي المجال العام, ومن ثم مباشرتهم للحضور السياسي والإيديولوجي بل والشخصي المكثف في واجهة شاشات الأقنية الفضائية وصفحات الجرائد القومية والمعارضة والخاصة!
هذا النمط من الممارسات السياسية والإعلامية الغوغائية تسئ للدولة والأمة.
ثمة حاجة سياسية لكي تكشف الأقنعة عن عمليات الخلط العمدي بين الارتباطات والمصالح والأهواء السياسية والإعلامية بين بعضنا, وبين مصالح, وخارج نطاق المصالح القومية الحقيقية للأمة المصرية, وهي مصالح وأهداف تتجاوز ظاهر الخطاب والكلام والشعارات الكبري حول الإسلام, والأمة الإسلامية, والعربية, وقناع القضية الفلسطينية التي استباحها الجميع وعلي رأسهم الفلسطينيون!.
الدولة والأمة المصرية لا تحتاج إلي تحمل عبء تقاعس بعض الحكام والقادة السياسيين- وزعماء الطوائف والقبائل والعائلات والأحزاب وأجهزة الإعلام ـ عن أداء واجباتهم القومية. أنهم يتعاملون بخفة وسطحية مع مصر الأمة والدولة, وتشكل خطاباتهم وأقوالهم وكتاباتهم مثالا علي إعادة ترويج تصوراتهم السطحية عن بلادهم المنقسمة والهشة التي تتنازعها طوائفهم وقبائلهم وأعراقهم ومناطقهم وإسقاطها علي مصر والمصريين.
بعض من هؤلاء يتصورون مصر دولة مذاهب وطوائف وقبائل ومناطق وأعراق ترفع علما مثلهم!
مصر السبعة ألفية- وفق أنور عبد الملك ـ أهم وأكثر تركيبا وعراقة من الإقليم كله, لأنها عرفت التجانس الثقافي الاجتماعي, وتعرفت علي الدين, والآلهة, والتوحيد, وطورت المجتمع, والدولة والمؤسسات, والحكم, وأرست تقاليد سياسية راسخة عبر الزمن.يتصور بعض قادة الطوائف والعائلات والمذاهب,' والأحزاب' والجماعات الدينية السياسية ـ داخل مصر وخارجها- أن مصر مجموعة طوائف, وأن الدولة هي كيان هش قابل للاختراق من خارجه, وأن بعض أحزابها وجماعاتها يمكنهم الاستقواء بقوي إقليمية عبر العصبية الطائفية والمذهبية والدينية الممولة من خارج الأطر الوطنية.
دعاة الروابط فوق الأممية الدينية, أو العروبية, يحاولون تناسي أن مصر الدولة والشعب هي الأقدم في تاريخ عالمنا كله ـ مع الصين, ثم اليابان, والهند ـ هي فلتة فذة تاريخيا وجغرافيا وثقافيا.
ثمة احلام عريضة لدي هؤلاء الذين يتصورون امكانية ان نستبدل بهويتنا القومية المصرية الحديثة ـ بها بعد عروبي لا نزاع حوله ـ روابط دينية وعرقية هي أقرب إلي المجازات السياسية المجنحة, منها إلي الواقع الموضوعي.
حتي مفهوم الجامعة القومية العربية, لايزال مشروعا تاريخيا تحت التأسيس, وتعتوره إعاقات عديدة من أصحاب مشروع الجامعة الإسلامية, والأخطر واقع وصعوبات عمليات تشكل الدولة القومية الحديثة, الذي لايزال غالب قادة وقبائل العرب العاربة والمستعربة ـ بكل انقساماتهم الدينية والمذهبية والقومية والمناطقية والعرقية...إلخ ـ يحاولون وبصعوبة التحول من القبيلة والطائفة والعشيرة والانقسامات الداخلية العميقة إلي الحد الأدني من الوحدة الوطنية والاندماج الداخلي, وأمامهم طرق ومسارات معقدة وطويلة عبر الزمن.
انهم يتصورون, وهما أن مفهوم العصبية المذهبية/الدينية, أو الطائفية, أو العرقية, يمكن أن يصوغ هوية وطنية ناجزة, ويحول مشروعاتهم السياسية الكبري من مجال الآمال و'المتخيلات السياسية' ـ وفق اندرسون ـ إلي واقع تاريخي سياسي ـ اجتماعي ـ ثقافي, مجسد في مؤسسات ونظم وبنيات ثقافية وهويات جامعة... إلخ.
لكن الفارق واسع بين اليوتوبيا والجحيم, وبين الآمال والأساطير السياسية الكبري ـ بالمعني الإيجابي-, وبين بؤس الانقسامات, والمجتمعات المجزأة والمتشرذمة, وشظايا ورماد الهويات المتصدعة والانقسامية!
من هنا يمكن تفسير التلاعب بمسألة الهوية ومحاولات تشويهها, والتشويش علي الوعي الجماعي المصري من بعض الجماعات السياسية الدينية, والقومية, وبين نظرائهم وحلفائهم في المنطقة وخارجها!
إن فورة وتمرد بعض الطوائف والمذاهب الدينية والعرقية في المنطقة, هو نتاج عوامل عديدة, علي رأسها أن الدولة كيان هش ومتصدع, ولا توجد أسس للاندماج القومي الداخلي. من هنا نجد تحالفات مذهبية شيعية, وسنية وقومية( كردية) وعرقية متعدية لحدود الدول, وعلي جسد الدول واستقرار بعض المجتمعات في المنطقة.
إن قدرة مصر علي هضم كل المؤثرات لا تحتاج إلي جدال, بل إن مصر أكبر من التعدديات الدينية والمذهبية أيا كانت, ويجب التوقف عن السجال المذهبي السني/الشيعي, فلن يستطيع أحد كائنا من كان أن يضرب طاقة الهضم والتمثل الثقافي المصري للمذاهب والأعراق والاستعارات الثقافية, في الإطار السني ـ بل والأرثوذكسي القبطي ـ المصري.
إن تحويل المذهب الشيعي إلي شيطان كاسر, وهم, يكشف عن خلل في سياسات التعليم المدني,
والديني, وعن أزمة في بعض الخطاب الديني والوعظي والافتائي السني, والأخطر اعطاب في تكوين بعض الدعاة ورجال الدين, وعلينا مواجهة المشكلة بصراحة وبلا تستر وراء' اخطار موهومة, وإنما الخطر يكمن ولا يزال هنا, ويتمثل في ضرورة تجديد الفكر والفقه المصري السني, والأهم تطوير الوحدة الوطنية وأسسها في إطار إصلاح ديمقراطي شامل, يجدد أعصاب الأمة وكوادرها وقادتها وثقافتها, ويضرب أشكال الفساد والانحراف والخروج علي قانون الدولة.
من هنا نبدأ!
بقلم : نبيل عبد الفتاح
نقلا عن الاهرام