Friday, August 31, 2007

حول الفتنة الطائفية في مصر: من المستفيد؟

على طول طريق «الصعيد» الزراعي، أو على الأقلّ حتى مدينة بني سويف التي تقع على بعد حوالى مئة كيلومتر جنوبي القاهرة، يقف أمام كل قرية تقريباً شباب يحملون لافتة :تبرّعوا من أجل بناء مسجد»، مقدّمين إلى السائقين علبة كرتونية يلقون فيها المبالغ المالية
.لم يكن هذا المشهد معتاداً قبل عدة سنوات، وما زال شديد الغرابة في بلد يُعتبر فيه جمع التبرّعات تحت أي غطاء كان، بمثابة قناع لتمويل أنشطة قد تصنّف تحت بند «السعي لقلب الحكم». لكن فجأة، بعد عقود اعتبرت فيها الدولة المساجد بمثابة معاقل للجماعات الإسلامية المسلحة، واعتُبر جمع التبرعات من أجل بناء المساجد بمثابة غطاء لتمويل «الإرهاب»، ترحّب هذه الدولة بجمع التبرّعات علناً في الشارع، من أجل بناء مساجد إضافية، على مسافات متقاربة جداً بعضها من بعض على جانبي طريق الصعيد، الذي يربط جنوب مصر بشمالها.
ولا يخفى على أحد ما قد يحدث إذا ما جرؤ عدد من المواطنين المسيحيين وخرجوا على هذا الطريق نفسه، حاملين لافتة تقول «تبرعوا من أجل بناء كنيسة». فلا تزال حاضرة في الأذهان أحداث قرية «بمها» قرب مدينة «العيّاط»، التي تقع على طريق الصعيد هذا نفسه، على بعد خمسين كيلومتراً جنوبي القاهرة. ففي يوم الجمعة 11 أيار/مايو 2007، تجمّع عدد من أهالي القرية المسلمين بعد الصلاة، واعتدوا على بيوت أهالي القرية المسيحيين، وأحرقوها، ونهبوا المحال التي يملكها مسيحيون، بعد سماعهم خبر تبيّن بعد ذلك أنه كان مجرد شائعة، ويفيد بتحويل منزل إلى كنيسة. وقال الأهالي المسيحيون في شهاداتهم إنهم عندما شعروا بالخطر، أبلغوا قوات الأمن، التي لم تأت في الوقت المناسب لمنع الصدامات. وإذا كانت أحداث «بمها» قد حظيت بتغطية إعلامية واسعة، فهناك العديد من الأحداث المشابهة لا يلتفت إليها الإعلام، منها أخيراً أحداث قرية «الروضة» قرب الفيوم، جنوب غرب العاصمة. ففي يوم الأحد 15 تموز/يوليو 2007، هدمت حشود مهلّلة «الله أكبر، الله أكبر» جدار كنيسة كان الأهالي بصدد بنائه، على رغم حصولهم على تصريح بذلك. وليست هذه إلا أمثلة قليلة تعبّر عن حالة الاحتقان الطائفي العام الذي يعمّ مصر. يصعب تحديد متى بالضبط بدأ هذا الاحتقان يتخذ هذه الصورة. معظم المحللين يرجعونه إلى أحداث «الخانكة» سنة 1972، التي اتخذت تقريباً الشكل نفسه لأحداث «بمها» الأخيرة، أي اعتداء أهالٍ مسلمين على أهالٍ مسيحيين بعد شروعهم في بناء كنيسة. ومنذ ذلك الحين، توالت حلقات مسلسل «الفتنة الطائفية»، من أحداث «الزاوية الحمراء» سنة 1981، التي سببت مقتل 9 مواطنين مسيحيين، حسب الرواية الرسمية، وثمانين مواطناً مسيحياً، في روايات أخرى، مرورا بـ«إمبابة» (1991)، «أسيوط» (1994)، «الكشح» (1998 و2000) و«محرم بك» في الإسكندرية (2005). وفي هذه الأخيرة، أثارت شهادة أحد شباب المدوّنات تساؤلات عديدة عن موقف النظام، إذ حكى كيف أنه رأى، أثناء تشييع جنازة مواطن مسيحي قُتل في أحد الاعتداءات الثلاثة على كنائس، «بلطجية» الحزب الحاكم في زيهم المدني، يتسللون عبر حواجز الأمن المركزي الكثيفة ويعتدون على المحال المملوكة من تجار مسيحيين لتدميرها ـــــ ليُقدّم في اليوم التالي كل شيء في وسائل الإعلام على أن «مواطنين مسلمين اعتدوا على محال المسيحيين». ولكن في أغلب الأحيان لا يقوم «البلطجية» بأفعال العنف الطائفي هذه، بل مواطنون عاديون. فلا شك في أن صورة «الهلال والصليب» التي رفعت أثناء ثورة 1919 فقدت إلى حد كبير معناها، إذ إن جو التعايش والتسامح الذي كانت تعبّر عنه لم يعد سائداً في المجتمع. ومع أن الشعار المرافق لهذه الصورة، «الدين للّه والوطن للجميع»، كان يعبّر في ذلك الحين عن حالة حقيقية من التكاتف في الكفاح ضدّ المحتلّ الإنكليزي، فإنه ظلّ دوماً شعاراً عاماً لم يحلّ مشكلة التمييز ضد المواطنين المسيحيين، ولم يسمح بتجاوز التقسيم الطائفي للمجتمع، ولا بإعادة بناء علاقة الدين بالدولة.
ولم يَحلّ استيلاء الضباط الأحرار على السلطة سنة 1952 أياً من هذه القضايا. فعلى عكس ما قد يتصوره البعض، فإن الدولة الناصرية لم تتخلَّ أبداً عن نظرة الشك والريبة إلى المواطنين المسيحيين. فشهدت الحقبة الناصرية العديد من الإجراءات التي رسّخت الطائفية، منها تحديد نسبة الأقباط المسموح لهم بالدخول إلى كليات الشرطة والجيش، ومنعهم من الالتحاق بجهاز الاستخبارات. ولم يلغ النظام الناصري الشروط العشرة التي وضعت في ثلاثينيات القرن الماضي لبناء الكنائس.
ولم يأت حكم الرئيس السادات ـــــ الذي أعلن نفسه «رئيساً مسلماً لدولة مسلمة» ــــــ والرئيس مبارك بعده، إلا ليزيد الاحتقان الطائفي حدّة. فشهدت فترة السادات ازدهار الجماعات الإسلامية، التي كان يرى فيها حاجزاً منيعاً ضد توسّع نشاط اليسار الشيوعي، والتي ضربت شعار «الهلال والصليب» ضربة قاضية. وعلى الرغم من انغلاق شرائح المجتمع المختلفة على وسطها الديني، فإنّ روح «الهلال والصليب» لم تختفِ تماماً، وهو ما ظهر جليّاً في «العمرانية» أخيراً، حيث قَتل عدد من رجال الشرطة مواطناً، تصادف أنه مسيحي، بإلقائه من الطابق الرابع بعد مداهمة منزله، بسبب تقديمه شكوى ضد أمين شرطة يفرض «أتاوات» على المنطقة كلها. فهجم جيرانه ـــــ مسيحيين ومسلمين ـــــ على سيارة الشرطة، والتفوا حول أهالي الضحية، متضامنين معهم في وجه ظلم ضباط الداخلية. وفي غمرة التحركات والاحتجاجات الاجتماعية والسياسية التي تعم البلاد، من القضاة إلى «كفاية»، مروراً بثورة العطشانين والإضرابات العمالية، فإن الإمكانية بتجاوز «الفتنة الطائفية» وبالاستعانة بروح «الهلال والصليب» لمواجهة سياسات الليبرالية الجديدة وقمع رجال الداخلية ليست احتمالاً مجرداً أو رومانسياً. ولكن هناك أطراف في اللعبة تحرص على عدم انتشار هذه الروح. في «العمرانية» مثلاً، هدّدت عدّة جهات بتدويل القضية، واتّصلت إحدى هذه المنظّمات بزوجة القتيل لتبلغها أنّ «قضية زوجها قد وصلت إلى الرئيس بوش» على أساس أنها قضية اضطهاد ديني، وهو ما لا ينطبق على هذه الأحداث، لأن الشرطة تمارس الترهيب والقتل والتعذيب على المواطنين جميعاً، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين.
وبإدخال «الرئيس بوش» في هذه القضية، تريد هذه المنظمات إيهام المسيحيين بأن خلاصهم سيأتي من واشنطن. وهو المعنى عينه بالضبط ـــــــ وإن كان على نطاق أوسع ــــــ الذي يقف وراء اقتراح أحد المراكز البحثية التابعة للكونغرس الأميركي تخصيص جزء من المعونة للمواطنين المسيحيين. وتسبّب هذا الاقتراح في غضب قيادات جميع الكنائس المصرية التي رأت فيه «محاولة لزرع الفتنة في مصر». وكيف نرى في مثل هذه الاقتراحات شيئاً مختلفاً؟
وكيف لا نرى أنها لا تهدف إلا لمحاولة نشر الفوضى في دولة فهم حكّامها منذ سنوات عديدة مدى الاستفادة التي يمكن أن تجلبها هذه الفوضى. وبالتالي، فإنّ لا مانع من ترسيخ مبدأ الكيل بمكيالين في ما يخص بناء دور العبادة، ولا مانع من منع توزيع كل أنواع المنشورات السياسية، ما عدا تلك التي تحرّض على الهجوم على بيوت يشاع أنها ستحوّل إلى كنائس، ولا مانع حتى من إرسال بعض «البلطجية» كي يقوموا بالتدمير إذا لم يستجب المواطنون العاديون.
لا مانع، لأنّه لا مصلحة لحكّامنا في تهدئة هذه الأوضاع بالذات
بقلم : دينا حشمت
صحيفة "الأخبار" اللبنانية

إنقسام أخلاقي» ينافس «الطبقي» في مصر ... قاهرة «المنتجعات» في العاصمة المصرية تستقطب الأثرياء وتستنسخ الحياة الأوروبية

الحياة هنا تشبه الحياة في المدن البريطانية والفرنسية الصغيرة»، «انسحبت من القاهرة، بل من مصر كلها، وعادت إليَّ صحتي وعافيتي»، «هي صورة مصغرة لنوعية الحياة التي كنت أعيشها في أميركا قبل عودتي إلى مصر».
آراء لأفراد يتحدثون عن حياة جديدة في مصر. في غير مصر التي نعرفها، ولكن في مصر ذاتها. القصة فعلاً معقدة، علماء الاجتماع والاقتصاد تحدثوا حتى وقت قريب عن وجود أكثر من مصر: مصر المناطق الراقية، مثل مصر الجديدة والزمالك والمهندسين، ومصر ذات المواصفات الشعبية مثل شبرا والمنيرة والظاهر، ومصر المعدومة التي ما زال سكانها يعيشون من دون خدمات أساسية من ماء وكهرباء وصرف صحي
لكن قبل سنوات قليلة، ظهرت مصر جديدة ومختلفة، تتبلور معالمها بوضوح هذه الآونة، إنها مصر المنتجعات السكانية.
فعلى مر عقود كان المصريون يعيشون في بيوت، علت قيمتها أو خفضت، عمارات أو فيلات أو حتى «عشش»، لكنها كانت تبنى في الشوارع العامة من دون أسوار أو أسيجة. وعلى رغم أن ظاهرة نمو المناطق الشعبية والفقيرة وأحياناً العشوائية حول المناطق الراقية، كما هو الحال في نمو حي «الكيت كات» الشعبي إلى جانب حي المهندسين، وتضخم حي «بولاق» بفقرائه ومشاكله بمحاذاة حي الزمالك، وولادة منطقة «الكيلو 4 ونصف» بعشوائيتها ومشاكل المخدرات والجرائم فيها على بعد أمتار من مصر الجديدة ومدينة نصر، كانت تؤرق سكان الأحياء الثرية، إلا أن أحداً لم يتصور أن ينزح سكان هذه الأحياء، مفضلين الاحتماء في منتجعات سكنية مغلقة، ذات أسوار عالية وشركات أمن متخصصة تمنع دخول الغرباء، ليكونوا بعيدين عن مصر الأولى الراقية، والثانية الشعبية، والثالثة العشوائية. منتجعات سكنية لا حصر لها في مدن «القاهرة الجديدة» و «الشروق» و «العبور» و «6 أكتوبر» و «الشيخ زايد» وغيرها من تلك المناطق التي بدأت مراحل نموها الأولى قبل ما يزيد على 15 سنة، لكن معالمها ظهرت وزاد الإقبال عليها، هرباً من القاهرة ومشاكلها المستمرة، الآخذة في التضخم خلال السنوات الأخيرة.
أعداد متزايدة من الأسر المصرية وحديثي الزواج من الشباب باتت تنزح إلى تلك المدن، وتحديداً إلى داخل المنتجعات المغلقة، حيث الحياة مختلفة شكلاً ومضموناً عن كل ما هو سائد خارج أسوارها. فيلات فاخرة تتوسط حدائقها مسابح كبيرة.
حتى العمارات السكنية المخصصة للأقل ثراءً، هي ذات ارتفاعات محددة وهندسة أنيقة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالطراز العام للمنتجع، أي إنها تقف على طرف نقيض من السائد داخل القاهرة من أساليب مــعمارية غير متناغمة وأبعد ما تكون عن التناسق في البناء والتصميم.
والمثير أن هذه المنتجعات باتت نقاط التمركز الجديدة للطبقات التي تتبوأ قمة الهرم الاجتماعي والاقتصادي في مصر، لكنها في الوقت نفسه ليست متجانسة في مكوناتها. فهي تضم الأثرياء جداً ممن نزحوا نزوحاً جماعياً إلى هذه المنتجعات، فتجد أسماء كبار رجال الأعمال والمال والتجارة وقد استقروا في أحد هذه المنتجعات مع عائلاتهم في مجموعة متلاصقة من الفيلات والقصور، ويوجد أيضاً ما يسمى «العائدون من الخليج» وهي طبقة متفردة من المهنيين المصريين ممن أمضوا عقوداً طويلة من العمل في إحدى دول الخليج العربي، واختاروا السكن في أماكن أقرب إلى الأماكن التي كانوا يقطنون فيها في هذه الدول الغنية، وهناك كذلك ما يمكن تسميته عناصر «الطبقة المتوسطة الجديدة» ومعظمهم ممن يعملون في شركات أجنبية أو متعددة الجنسيات في مصر ويتقاضون رواتب مرتفعة تمكنهم من ارتقاء الهرم الاجتماعي من بوابة التقسيط، ما يفسر الانتشار الواسع في الإعلانات الصحافية والتلفزيونية عن التسهيلات المصرفية لراغبي اقتناء فيلا أو قصر، إذ باستطاعة الأفراد تقسيط ما يرغبون به على 30 سنة.
لا تقتصر العناصر التحفيزية وعوامل الجذب، على التسهيلات المصرفية والقروض المصرفية فقط، ولكنها تعزف على كل الأوتار التي تؤرق أبناء الطبقتين العليا والمتوسطة في معاناتهم المتفاقمة في القاهرة. ولعل أبرز مثال على ذلك أحد هذه الإعلانات الذي يلخص أوجاع هاتين الطبقتين في ما يلي: «نفسك في شوية خصوصية؟ نفسك في ركنة عربية؟ نفسك تبعد عن التلوث؟ نفسك في نادٍ قريب من بيتك؟ إذاً عليك بالانتقال فوراً إلى (اسم المنتجع)».
وتمثل هذه المنتجعات حلاً سحرياً في ظاهره ومسكناً موقتاً في باطنه لمشاكل الطبقات المقتدرة وتقلص قدرتها على التعايش مع أبناء بقية الطبقات وتحمل سخافاتها على حد قول الدكتور ماهر عزمي أحد قاطني منتجعات مدينة الشروق.
ويضيف: «الموضوع ليس طبقياً بقدر ما هو أخلاقي، فعلى رغم أنني كنت أسكن في أحد أرقى شوارع أحياء مصر الجديدة، إلا أنني وجدت نفسي في مواجهة يومية مع سائقي المــيكروبــاص الذين يــقودون سيــاراتهم بغباء، ومع الجيران الذين غرسوا أعمدة حديد في الأرض ليضمنوا مــكاناً لإيــقاف سياراتهم، ومع البواب الذي يــتحكم في المصعد وكأنه ملك له، والقائمة طويلة لا تنتهي، لذا وضعت الجانب الأكبر من استثماراتي في فيلا في «مدينة الشروق» التي لم تصبها بعد علل القاهرة ولم تفتح أبوابها لهذه الطبقات الطفيلية العشوائية التي أصابت المدن المصرية في المقتل، لا سيما أن المسؤولين تركوهم يرتعون من دون حساب، إن القاهرة الآن هي مرتع للعشوائيين الجدد».
ما قاله الدكتور عزمي هو تحديداً ما يقلق الباحث في علم الاجتماع السيد طارق حليم الذي يحذر من أن هذا «التفسخ» في المجتمع والفصل التام بين الطبقات يعجل بحدوث ثورة اجتماعية، إن لم تكن على أرض الواقع ففي نفوس المواطنين، فقد جرت العادة أن تكون هناك أحياء للفقراء وأخرى للأغنياء وثالثة للأثرياء، وعلى حدودها مناطق وسط تمتزج فيها الطبقات وتتعارف، لكن هذا الفصل التام والمــقصود يــرســل رسائــل واضــحة وصريــحة من الأثرياء إلى الفقراء توضح مشاعر التعالي والرغبة في الانفصال التام لأسباب طبقية بحتة ترتكز بشكل أساسي على عوامل مادية.
من جهة أخرى، يسعى سكان تلك المنتجعات إلى استنساخ الحياة في أوروبا وأميركا من دون توفر العوامل المهيئة لذلك مما يجعلها استنساخاً موقتاً وغير طبيعي».
وسواء كانت مخاوف السيد حليم في محلها، وشــكاوى الــدكتور عزمي مبررة، ومشاكل القاهرة الكبرى متفاقمة أو لا، فإن ذلك كله لا يــغير من حــقيقة الوضع شيئاً. منتجعات المدن الجديدة المحيطة بالقاهرة تشهد انتعاشاً وقبولاً منقطع النظير يعلن عن قرب ظهور «قاهرة المنتجعات» على خريطة مصر
القاهرة - أمينة خيري الحياة
31/8/2007

Thursday, August 30, 2007

نمو الاقتصاد يتحسن في مصر لكن كثيرين يشعرون أنهم منسيون

القاهرة (رويترز) - تشهد مصر أطول فترة نمو اقتصادي متواصل منذ عقود لكن لا يبدو أن حكومتها تكسب الكثير من الدعم الشعبي.
فالاجواء لاتزال قاتمة في أحياء القاهرة بسبب ارتفاع الاسعار وزيادة البطالة وذيوع أنباء انتهاكات الشرطة لحقوق الانسان.
وانقطعت المياه النقية عن مناطق من البلاد لاسابيع هذا الصيف وأغلق مواطنون طرقا سريعة احتجاجا على ذلك. كما نظم موظفون بشركات نسيج واسمنت وغيرها عشرات الاضرابات خلال العام الماضي وغالبا ما انتزعوا تنازلات من الادارة.
وفوق ذلك تسببت طفرة عقارية في جعل شراء منزل أو شقة سكنية أكثر صعوبة بالنسبة لمتوسطي الدخل.
وقال محمد فرج (25 عاما) الذي يدرس تكنولوجيا الاتصالات بجامعة القاهرة "اداء الحكومة رائع على الورق لكن هذا ليس ما يشعر به الناس."
واضاف "الاجور تتدهور مقارنة بالاسعار والمكاسب تذهب الى قلة تسيطر على الاقتصاد."
وفي واقع الامر حصل كثير من الموظفين الحكوميين على زيادة في رواتبهم الاساسية أعلى من معدل التضخم مطلع السنة المالية في يوليو تموز حيث حاولت الحكومة كسب التأييد الشعبي لسياساتها.
وتقول الحكومة انها خفضت معدل البطالة الى أقل من تسعة بالمئة من 11 في المئة في ديسمبر كانون الاول 2005 وان تحرير الاقتصاد لم يقترب من الدعم الكبير للمواد الغذائية وخاصة الخبز مما مكن أشد المواطنين فقرا من تدبير عيشهم.
لكن حكومة الرئيس حسني مبارك وهي أطول الحكومات عمرا منذ حكم محمد علي باشا مصر مطلع القرن التاسع عشر تبقي قبضتها قوية على السلطة.
ورغم أن معارضيه يمكنهم المجاهرة بآرائهم الا أنه ليس لهم تأثير يذكر ويعرضون نفسهم لمخاطر تحرش الامن بهم.
وفي الوقت نفسه تجري تحقيقات مع أفراد من الشرطة بعدما سقط رجل من شرفة مسكنه خلال مداهمة الشرطة له بالقاهرة وايضا بعدما توفي صبي عمره 13 عاما اتهم بالسرقة في منطقة دلتا النيل بعد اسبوع واحد في الحبس.
وقال جمال عيد المدير التنفيذي للشبكة العربية لمعلومات حقوق الانسان "الوضع يزداد سوءا منذ (الفترة) بين 2003 و2006 عندما كانت هناك مظاهرات وحركات مثل (الحركة المصرية من أجل التغيير) كفاية."
واضاف "تتخذ الحكومة حاليا اجراءات قمعية وتقوم بعمل انتقامي شديد. أعتقد أننا ندخل نفقا مظلما."
وبرزت كفاية في عام 2005 عندما عارضت ترشح مبارك لفترة رئاسية خامسة مدتها ست سنوات رغم أن عدد قوات شرطة مكافحة الشغب كان دائما يفوق عدد المحتجين المؤيدين للجماعة.
وحازت الاصلاحات الاقتصادية التي تشمل خصخصة مئات الشركات المملوكة للدولة وخفض الضرائب على الثناء من جانب منظمات دولية من بينها صندوق النقد الدولي.
وحقق الاقتصاد نموا بنسبة 7.1 في المئة في السنة المالية 2006-2007 و6.9 في المئة في 2005-2006 وهما أعلى معدلين في عامين منذ الثمانينات على الاقل.
غير أن كثيرا من المصريين يقولون ان ارتفاع الاسعار يقضي على مكاسب النمو.
وقالت منى أباظة استاذة الاجتماع بالجامعة الامريكية في القاهرة " هناك توتر متزايد ويمكنك أن تشعر به في مناحي الحياة اليومية... شراء المواد الغذائية الاساسية يزداد صعوبة بالنسبة للناس."
وقالت الحكومة ان التضخم ارتفع مدفوعا بشكل رئيسي بالزيادة في أسعار المواد الغذائية والوقود ليصل الى ذروته عند 12.8 في المئة على أساس سنوي في مارس اذار غير أنه تراجع الى ثمانية بالمئة في يوليو تموز.
وقال انجوس بلير رئيس قسم الابحاث في بلتون المالية وهي بنك استثمار بالقاهرة "لم يشعر أغلبية السكان حتى الان بالمزايا لكن هناك كما هائلا من الاستثمارات الاجنبية المباشرة سيأتي الى مصر في العقد القادم وسيوفر وظائف جديدة."
واعتبر بلير أن السخط بالشارع ربما يرتبط بشكل أكبر بالمطالبة بالمزيد من الحريات.
وتابع يقول "الناس يمكنهم الان التعبير عما لم يتمكنوا من التعبير عنه في السابق... هذه الحكومة تحطم 50 عاما من سوء الادارة وهي تفعل كل ما هو صائب."
غير أن محمد مصطفى (28 عاما) ويعمل حارس أمن في مدينة السلام بالقاهرة يشكك في الوعود بالرخاء.
وقال مصطفى ان مياه الشرب منقطعة عن منزله منذ قرابة شهرين وانه يضطر يوميا لشراء الماء من الشارع للاستحمام.
وتسائل قائلا "لو كنا نشعر بمزايا النمو الاقتصادي فهل كنا سنعيش في مثل هذا الوضع..."

من ويل راسموسن - رويترز

الدكتور محمد غنيم في حوار شامل لـ «المصرى اليوم»: التعليم الحكومي إهدار للمال العام.. و«الخاص» مشروع تجاري

الحديث إلي الدكتور محمد غنيم شيق وممتع، فالرجل الذي أسس أكبر مركز في الشرق الأوسط لعلاج أمراض الكلي والمسالك البولية، تأسرك بساطته، وإصراره علي استمرار رسالته في خدمة وطنه.
يتوجه غنيم لمكتبه كل يوم بانتظام، رغم أنه أستاذ متفرغ في كلية الطب بجامعة المنصورة، وخلال حوارنا معه قطع الحديث أكثر من مرة ليباشر الكشف علي مرضاه في مكتبه، أو كان يرفع سماعة التليفون لمتابعة إحدي الحالات والاطمئنان علي سريان العمل بوتيرة منضبطة.
والرجل علي ذلك مهموم بالوطن، وفي حديثه لـ «المصري اليوم» قدم تصوراً يراه ضروريا لقضايا التعليم، بعدما رأي تناقضا يهدد مستقبل أبناء مصر، وفرصهم في مزاحمة أقرانهم في العالم. ويحذر من تلاعب قد يضر بمستفيدي التأمين الصحي، ويحلم بمصر متطورة، لكن الفساد والتردد يكبلان قدراتها، فيما يسبقنا الآخرون.
وتالياً نص الحوار معه:

* تناولت نتائج الثانوية العامة لهذا العام بالتحليل.. وكان من الواضح شعورك بالقلق من مؤشرات سلبية للنتائج.. لماذا هذا الشعور؟
ـ أنا أعتقد أن امتحانات الثانوية العامة بها مشكلة خطيرة، وأنا لا أجد مبرراً للظواهر المصاحبة لها من تجييش الأسر المصرية لمدة عامين، والإنفاق المتزايد علي الدروس الخصوصية، وإهمال الكتاب المدرسي والاعتماد علي الكتب الخارجية، وهذا يؤكد أن الكتاب المدرسي به قصور وعدم وضوح.
وقبل كل ذلك أنا مقتنع تماماً بأن النتائج لا تعكس أي مفهوم علمي، فإذا كان عدد الطلاب الحاصلين علي أكثر من ٩٥% يتجاوز ٢٥ ألف طالب، فهذه نتيجة غير طبيعية والخطورة أن هذه الظاهرة في تزايد مستمر منذ عهد الدكتور حسين كامل بهاء الدين، ويمكننا أن نسميها «السياسة الاسترضائية».

* ماذا تعني بالسياسة الاسترضائية؟
ـ هي ما نراه من رفع شعار «التعليم المجاني» دون أن يكون هناك محتوي حقيقي لهذا الشعار، ثم الإصرار علي نجاح أكبر عدد ممكن من الطلاب في الشهادات النهائية مثل الثانوية العامة، ثم حصول عدد ضخم جدا من الطلاب علي درجات مرتفعة، وهذه نتائج تسعد الجمهور علي المدي القصير جداً، لكنها علي المدي المتوسط والبعيد لها نتائج مدمرة جداً.

* ما الضرر في أن يكمل معظم الطلاب تعليمهم حتي يصلوا إلي الجامعة؟
ـ هذه الظاهرة لها تداعيات كبيرة، من بينها أن الحكومة تضع نفسها في موضع الالتزام بقبول معظم طلاب الثانوية العامة، ولحل هذه الإشكالية تلجأ لوسائل تفسد العملية التعليمية أولاها، زيادة القدرة الاستيعابية للجامعات والكليات الحكومية القائمة، في العام الماضي طُلب من الكليات في الجامعات المصرية الحكومية تحديد عدد الطلاب الذين تستطيع كل كلية استيعابهم، وبالرغم من ذلك استقبلت جامعة المنصورة وكلية الطب بها ضعف القدرة الاستيعابية لهما.

* لكن هناك توجها لإنشاء جامعات حكومية جديدة تستوعب هذه الزيادة؟
ـ هذه في حد ذاتها إحدي السلبيات التي نتجت عن السياسة الاسترضائية التي ذكرتها، لأن هذه الجامعات تنشأ دون الإعداد الكافي لها، من معامل ومكتبات وأعضاء هيئة تدريس وغيرها.

* وهل لضعف هذه التجهيزات تأثير علي الثقة في الشهادات العلمية والمؤسسات الجامعية المصرية عالمياً؟
ـ بالطبع له تأثير سلبي، بمعنيين، الأول: إنه حتي السوق الداخلية أصبحت تشك في قدرات خريجي الجامعات الحكومية المصرية، وأصبحت تفضل خريجي الجامعة الأمريكية، والآخر أن هناك صعوبة متزايدة في الحصول علي وظائف في دول الخليج للشهادات المصرية، وكمثال فإن خريج كلية الطب اليوم، حتي يشتغل في الخليج، لابد أن يجتاز امتحان معادلة محلية هناك، وهذا وضع جديد اتخذته هذه الدول، نتيجة تدني مستوي الخريجين المصريين.

* الملاحظ أن بعض الجامعات الحكومية تضع برامج تعليمية خاصة بمصاريف مثل شعب الدراسات التجارية الإنجليزية.. كيف تري هذه البرامج؟
ـ هل رأيت تناقضا في منظومتنا التعليمية أكثر من هذا، فمن جانب نري هذا التوسع، فيما يعرف ببعض البرامج الخاصة والإضافية مثل التجارة الإنجليزية، والحقوق الفرنسية، وبعض برامج الطب والهندسة المتميزة، وهذه برامج متميزة يسدد لها الطالب مصاريف، وعلي الجانب الآخر هناك برامج عادية، لا يسدد لها الطالب إلا «مصاريف» رمزية، فطالب التجارة في البرنامج العادي إذا سدد، فهذا عمل غير دستوري، لأنه يتناقض مع المجانية، أما زميله الذي دخل تجارة إنجليزية، فيسدد مصاريف تعليمه دون أن يكون هذا مخالفة دستورية، هذه تناقضات غريبة، والأخطر من ذلك هو ما نراه من فتح الباب علي مصراعيه لما يعرف بالجامعات الخاصة.

* هناك زيادة تقدر بسبعة آلاف طالب التحقوا بهذه الجامعات الخاصة مقارنة بالعام الماضي.. ما تفسيرك لهذه الزيادة؟
ـ هذا رقم مرشح للزيادة أيضا مع انتهاء التنسيق، وهذه النظم التعليمية بها تشوهات غريبة، أنت لو سألت أي خريج أو حاصل علي الثانوية من ٢٠ سنة «تحب تروح الجامعة الأمريكية»، لكانت الإجابة بالرفض، اليوم هذه الظاهرة أصبحت معكوسة، الجميع يقبل علي الجامعات الخاصة الكندية أو الفرنسية أو غيرهما، بالرغم من مصاريفها الباهظة.

* تقصد الجامعات الأجنبية؟
ـ لا.. أنا أصر علي تسميتها بالجامعات الخاصة، لأن كل هذه الجامعات تهدف للربح، ولتوضيح ذلك، علينا أن نعرف أنه حتي في أمريكا نفسها وهي أم الرأسمالية لا توجد بها جامعات خاصة، إنما هناك جامعات أهلية، والفرق بينها وبين الجامعات الخاصة التي لا توجد إلا في دولنا العربية أن الجامعة الأهلية لا تهدف للربح، وليس وراءها مستثمرون، وما تحققه من أرباح تعيد ضخه في العملية التعليمية والبحث العلمي، وأنا أريد أن أؤكد أن جميع المعاهد والكليات الخاصة في مصر استثمارية، باستثناء الجامعة الأمريكية في القاهرة والأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا، وتصوري أن الإقبال علي الالتحاق بالجامعة الأمريكية سببه انحدار مستوي جامعاتنا وليس تفوق الجامعة الأمريكية بأي حال من الأحوال.

* لماذا تهاجم الجامعات الخاصة؟
ـ للعيوب الضخمة الناتجة عن أنظمتها التعليمية، لأنه حتي تحقق عوائد ضخمة بصفتك مستثمر، فإنك ستقوم بالاستثمار في تخصصات وكليات قليلة الإنفاق والإنشاء وكبيرة الموارد الدعائية، مثل علوم الحاسب، التجارة والإعلام والميديا، كما تراها في الجامعات، وثانياً، دعني أتساءل: من يقوم بالتدريس في هذه الجامعات؟ أليس هؤلاء أساتذة مصريون منتدبون أو معارون من الجامعات الحكومية المصرية؟
وبالتالي هذا استنزاف داخلي للعقل المصري، كل واحد من هؤلاء، الدولة تنفق علي منحته الدراسية بالخارج مليوناً ونصف المليون دولار، ثم يتخرج في جامعته وبعد عودته يتوجه للجامعات الخاصة، والغريب أنه لم يحدث أن أرسلت الجامعات الخاصة أحداً من أوائل خريجيها في بعثة تعليمية لنيل الدكتوراه من الخارج، وإذا كان الغرض الأساسي من التعليم الجامعي هو البحث العلمي المفيد للتنمية المحلية، فهل تنفق الجامعات الخاصة علي مثل هذا البحث العلمي وتخصص له ميزانية؟ قطعاً.. الإجابة بالنفي.

* أريد العودة إلي تقييم الجامعات الحكومية المصرية.. هناك حديث عن معايير متباينة لمثل هذا التقييم نتمني توضحيها.
ـ هناك أكثر من جهة تقوم بالتقييم أهمها ثلاث جهات، علي رأسها تقييم جامعة شنغهاي الصينية، وهذا يقوم علي أسس علمية بحتة، من النشر العلمي في الدوريات الأجنبية، وحتي سنة ٢٠٠٥، لم تدرج أي جامعة مصرية في قائمة أول ٥٠٠ جامعة، وحتي عندما أدرجت جامعة القاهرة في القائمة برقم «٤٠٣» مكرر، كان السبب حصول ثلاثة من خريجيها علي جائزة نوبل، هم الراحل نجيب محفوظ، والراحل ياسر عرفات، والدكتور محمد البرادعي، وأنا أدعي ادعاء قد يكون مصيبا أو مخطئاً، أن الفضل في هذا الترتيب لا يرجع لجامعة القاهرة، وإنما لجامعة فؤاد الأول التي تخرج فيها عرفات ومحفوظ، والملاحظ أن اثنين نالا الجائزة في السلام، وواحد في الأدب، لكن لم يحصل خريج لجامعة القاهرة علي جائزة نوبل للعلوم.
هناك تقييم آخر في إنجلترا يعتمد علي حجم ما ينشر علي شبكة الإنترنت عن الجامعة، وأول جامعة في مصر دخلت قوائمه هي الجامعة الأمريكية، لنشرها الغزير علي الإنترنت، لكنه تقييم غير علمي، وترتيبها عالميا «١٢٠٠»، لأن أغلب المنشور ليس إنتاجا علميا.
التقييم الثالث تنظمه منظمة المؤتمر الإسلامي واحتلت المراتب الأربع الأولي فيها جامعات تركية، وجاءت الجامعة الأمريكية في بيروت في المرتبة ١٦ وخرجت الجامعة الأمريكية في القاهرة من هذا التقييم، لأنها لا تقوم بالنشر العلمي في الدوريات العلمية الأجنبية، كما أنها لا تعطي شهادات الدكتوراه في العلوم الأساسية، كما خرجت جميع الجامعات المصرية من ترتيب الأوائل.

* ما رأيك في تصريحات الدكتور أحمد نظيف في انتقاده مشروع الدكتور أحمد زويل لتأسيس جامعة تكنولوجية؟
ـ برأيي، هذا تصريح لم يصبه التوفيق علي مستويين، أولهما أن الدكتور زويل لم يتعهد بالإنفاق علي الجامعة، وليس هذا عمله أو مسؤوليته، هو وعد بالمساعدة البحثية والعلمية للمشروع، أما الحكومة فهي التي تتولي جمع التبرعات له، ووجود اسم زويل في قائمة مؤسسي الجامعة سيجذب الأسماء العلمية العالمية للتبرع للجامعة، أما الخطأ الثاني الذي ارتكبه نظيف، فهو أن مثل هذه التصريحات ستؤدي إلي قطيعة مع خبرات مصر الخارجية وكفاءاتنا العلمية بدلا من عودتهما لأرض الوطن والاستفادة منها.

* انتقادك السابق لعدم سداد الطلاب مصاريف الجامعة الحقيقية، ثم ملاحظاتك علي التعليم الجامعي الخاص يدفعنا للتساؤل.. ما رؤيتك للمجانية في التعليم؟
ـ التعليم عدة حلقات متصلة، تبدأ بما قبل السادسة، وما قبل الانخراط في الدراسة الابتدائية المنتظمة، وهي مرحلة الحضانة »، هذه مرحلة مهمة يتم إغفالها في الريف والطبقة المتوسطة المصرية، ويدخل منها كل عام في التعليم النظامي مليون ونصف المليون تلميذ.. وهذه مسؤولية الوالدين، وربة المنزل بشكل أساسي، وهذا يرتبط بضرورة تعليمها تعليماً جيداً، وتأهيلها بصورة كاملة مع ضرورة تنظيم الأسرة حتي تستطيع الأم القيام بهذه المهام، وأنا أتمني عودة المدارس النسوية، التي كانت تتوجه إليها السيدات لتعليم الحياكة والطبيخ وعلم نفس الطفل، والموسيقي، وتنسيق الزهور.
والمرحلة التالية هي التعليم الأساسي، ونحن اليوم في ظل كمية المعارف المتزايدة في القرن الواحد والعشرين يجب ألا تقل سنوات هذه المرحلة عن ١٢ سنة، من التعليم الأساسي الجيد، والمجاني والإلزامي، وهذه مسؤولية الحكومة ويعاقب من لا يلتحق به، وفي نهاية هذه المرحلة الأساسية، إما أن يتوجه خريج الثانوية العامة مباشرة إلي سوق العمل أو يتجه لما يعرف بالتعليم الفني المهني ولا أقصد به المدارس، وإنما التعليم في الشركات والمصانع، والورش لتعلم مهارة معينة، وهذا التعليم قضي عليه تماماً، هو والتعليم الفني العالي، الذي هو مزيج من التعليم الأكاديمي مع التدريب المهني.
ومن يرغب في الالتحاق بالجامعة يلتحق بفترة أخري من التعليم ما قبل الجامعي لمدة عامين يكتسب فيها مهارات البحث العلمي، حتي يحقق التعليم الجامعي أغراضه من نشر المعرفة ونقل التكنولوجيا.

* من يلتحق بالجامعة إذن من وجهة نظرك؟
ـ هنا تتضح مشكلة التعليم الجامعي، وأنا أري أن التعليم الجامعي بصورته الحالية هو إهدار للمال العام، لأنه لا يحقق مبتغاه، و حتي نحسم موضوع المجانية في التعليم الجامعي أنا لدي اقتراح هذا نصه: «يلتحق بالجامعة في هيئة منح حكومية الطلبة الفائقون من الحاصلين علي الثانوية العامة من مصر».

* يعني الحاصلون علي الثانوية من الخارج تقترح أن يدفعوا مصاريف؟
ـ بالطبع، يعني الذي حصل علي الشهادة البريطانية وكان يدفع ١٠ آلاف جنيه في السنة في المدارس الأجنبية واللغات، هل يصح أن نساويه بالحاصل علي الثانوية من مدرسة شبرا مثلا، ينبغي حصر المستحقين لدعم الدولة ـ من وجهة نظري ـ في المرحلة الجامعية علي الطلبة الفائقين الحاصلين علي الثانوية من مصر، ولم يلتحقوا في أي مرحلة من مراحل تعليمهم بمدارس خاصة، وتسحب المنح المجانية لدي تقهقر مستواه العلمي، لأن دافع الضرائب لا ينبغي أن يتحمل تكلفة تعليم الطالب الكسول أو المستهتر.

* هناك مشروع مشترك بين وزارتي التعليم والتعليم العالي لتطوير الثانوية العامة.. هل وجهت لك دعوة للمشاركة في نقاشاته؟
ـ مقترحاتي وغيري من المصريين منشورة في كل وسائل الإعلام وليست العبرة بدعوتي أم لا، المهم أن يتم التعامل مع مسألة التعليم، كما رفعت أمريكا ذات يوم شعار «أمة في خطر» بسبب تدهور مستوي التعليم، والبحث العلمي قاد إسرائيل لتصدير طائرات دون طيار إلي سلاح الجو البريطاني، لأنهم عرفوا أن الإنفاق علي التعليم أولي وأكثر جدوي من الإنفاق علي الدفاع، نحن بحاجة إلي مشروع قومي للتعليم، ينبغي ألا يحمل أي ملامح حزبية ولا يتغير المشروع بتغيير الوزارة أو الحكومة، بدلا من التجارب التي تخضع لها أجيالنا في الثانوية وغيرها.

* نود فتح ملف الصحة في مصر معك وأنت خبير صحي أسس إنجازات وطنية بحجم مركز الكلي في المنصورة.. ما رأيك فيما يقال عن خصخصة التأمين الصحي؟
ـ مصر تستطيع الادعاء بأن بها تأميناً صحياً قائماً، بصرف النظر عن مستوي الخدمة، ومخرجات المشروع الخاص بالتأمين الصحي، يمكن إثارة الجدل حولها، وحتي يمكن أن يصل الدعم إلي مستحقيه يجب علي الحكومة أن تقصر ميزانية التأمين الصحي علي المستشفيات الحكومية فحسب، فإذا مرض شخص مقتدر، وأراد أن يعالج بالتأمين الصحي، فإن ذلك ينبغي أن يكون في أحد مستشفيات الهيئة أو المستشفيات الحكومية مثل أم المصريين وليس علي حساب التأمين الصحي في «دار الفؤاد» مثلا، إلا بعد أن يدفع فرق العلاج.
وأنا أخشي من أن جزءا كبيرا من مدخلات التأمين الصحي بعد القانون الجديد، سوف يذهب إلي المستشفيات الخاصة، ويستمر الوضع السيئ في المستشفيات العامة علي ما هو عليه، بدلا من أن تؤدي هذه الإيرادات إلي تطوير وتحسين المستشفيات العامة، وفي رأيي أن وزارة الصحة ينبغي أن تنشغل بتهيئة بيئة سليمة وصحية، وتهتم بالطب الوقائي، أكثر من توجهها لعلاج أمراض يسببها إهمال الطب الوقائي لمنع البيئة التي تنشأ بها الأمراض، بدلا من الانتظار حتي يفتك المرض بالمواطن، ثم نصرف الملايين علي علاجه، وأنا لو كان معي مليار جنيه، وخيرت بين تحسين المستشفي أو بناء شبكة صرف صحي جيدة في ميت غمر، لاخترت إقامة شبكة الصرف الصحي.

* صرح وزير الصحة بأن هناك نقصا في أكياس الدم يهدد أصحاب الاحتياجات والعمليات الجراحية، كيف يمكن حل هذه الأزمة؟
ـ هذه الأزمة تتعلق برصيد بنوك الدم الصالح للاستخدام ونحن في مركز علاج الكلي والمسالك البولية تمكنا من حل المشكلة بطريقة «عائلية» ووضعنا قاعدة يمشي عليها الجميع، كل مريض يدخل للمركز للعلاج المجاني. يطلب منه شيء واحد هو أن يوفر اثنين متبرعين من أقاربه الأصحاء للتبرع بالدم، وليس شرطاً أن يكونا من نفس فصيلته الدموية، لكن بهذه الصورة استطعنا تأمين كل احتياجاتنا من الدم الطازج، وإذا صدر قانون بذلك، ستحل مشكلة نقص الدم في المستشفيات الحكومية.

* لماذا يتزايد مرض الفشل الكلوي بين المصريين؟
ـ أنا لا أستطيع الإجابة بشكل دقيق عن هذا السؤال، صحيح أن هناك إجابة فلسفية هي أن عدد السكان يزيد، والآن مرض الفشل الكلوي توفرت له وسائل علاج جديدة، وفعالة وبلاشك هناك أسباب بيئية تتصل بسوء وغياب شبكات الصرف الصحي السليمة، ورداءة المياه التي يشربها المصريون، لكن هناك بلاشك أمراضاً تتزايد، مثل التهاب الكبد الوبائي، الذي يترتب عليه أمراض الفشل الكلوي المزمنة.

* ما رأيك في السفر إلي الخارج لزراعة الكبد، وإجراء جراحات نقل الأعضاء؟
ـ في اعتقادي، فإنه لابد من صدور تشريع قانوني لتسهيل وإتاحة وإباحة نقل الأعضاء في مصر، أما إذا كان المجتمع «مش عاوز» لأسباب دينية، أو تاريخية، أو ثقافية، فلا يتم علاج هذه الحالات في الخارج علي نفقة الدولة، وإنما علي حساب المرضي الخاص، حتي نقطع الطريق علي السمسرة في هذه الأمور، وهناك نقطة أخري في حالة إصدار مثل هذا القانون، هي أن تقوم المستشفيات الحكومية فقط بنقل الأعضاء، وألا نسمح للمستشفيات الخاصة بهذا الأمر، لأن هذا هو الباب الأوسع لتجارة الكلي والكبد غير الشرعية، وأنا أصر علي أن تقتصر عمليات نقل الأعضاء داخل المستشفيات الحكومية، وأن يقوم بها الأطباء المتفرغون فحسب، والقصة الشهيرة في الثمانينيات في مشرحة عين شمس حين تمت سرقة قرنية متوفي لزراعتها لمريض في مستشفي خاص تؤكد ضرورة ضبط هذه المسألة.

* كنت في السابق تدعو لتأسيس ما يعرف باليسار المعاصر، ثم أعلنت انضمامك لحزب الجبهة الديمقراطية.. ما الذي حدث لتقدم علي هذه الخطوة؟
ـ أنا لا أري انضمامي لحزب الجبهة الديمقراطية خروجا عن فكرة اليسار الليبرالي، لأن كل عضو بالحزب يعبر عن وجهة نظره بحرية، وأنا أري أن سياسة الحزب العامة لا تتعارض مع ما أدعو إليه من تحديث اليسار ليتواكب مع متغيرات العصر، ولدينا الصين كأفضل نموذج لذلك، فحكومتها الشيوعية تفهمت توجهات الاقتصاد العالمية وتواءمت معها، وهذا ليس عيباً، ثم أنا علي استعداد لترك الحزب إذا فرض علي وجهة نظر معينة أنا لا أقبلها، وعلاقتي بالدكتور يحيي الجمل وأسامة الغزالي حرب قوية، لكنني ضد أن تتحول الأحزاب الجديدة إلي اختصارات تختزل الحزب في شخص رئيسه، لأن ذلك يقضي علي الحياة الحزبية، كما حصل في حزب الغد.

* ما الحلم الذي تتمني أن يتحقق لهذا الوطن كرائد من رواد الطب في العالم؟
ـ أتمني أن يكون هناك حلم واحد، للحاكم والمحكوم، أتمني تحقيق «مصر المتقدمة» علميا خلال العشرين عاما القادمة، لكن هذا الحلم تواجهه مشكلات ضخمة، كالبطالة والمشكلات الصحية والمائية التي لا تخفي علي أحد، وثانياً أنه في الخمس عشرة سنة القادمة سوف يضاف إلي تعداد سكان مصر الحالي ٢٠ مليون مواطن، وإذا استمرت الحركة البطيئة لنمو الاقتصاد الوطني مع خط الزيادة السكانية، فلن ننجح في اللحاق بقطار العالم السريع، وليس صعبا أن نحدث هذا التطوير في العشرين سنة القادمة، وهناك دول مثل جنوب شرق آسيا استطاعت تحقيق ذلك.
لكن الأمر يحتاج إلي رؤية واضحة، وقبل ذلك القضاء علي الفساد أو تقليصه، وهذا ما قام به مهاتير محمد، حين أتي بتكنوقراط لتشكيل الحكومة، وحارب الفساد في ماليزيا
حوار على زلط ٣٠/٨/٢٠٠٧
المصرى اليوم

Sunday, August 26, 2007

ليت السيد نصر الله يفعلها

يقول خبرنا الذي نشرته هذه الصحيفة قبل يومين، إن السيد حسن نصر الله أعاد البيت الذي يستأجره إلى صاحبه، وانتقل إلى مكان آخر غير معلوم، استعدادا لمشروع إعادة إعمار الضاحية التي دمرت إثر الهجوم الإسرائيلي على لبنان في حرب الستة والثلاثين يوما في العام الماضي.
والضاحية، أو المربع الأمني، قصتها أكبر من أنها مساكن مؤجرة، وأعقد من أن يقال عنها إنها حي سكني، فهي كلها منطقة أمنية منزوعة لمصلحة حزب الله، وهذه قصة أخرى يعرفها اللبنانيون جيدا
(وهنا ينصح بقراءة كتاب «بلاد الله الضيقة.. الضاحية أهلا وحزبا» تأليف فادي توفيق)
، لكن قبل الاحتفاء بتفاصيل مشروع إعادة البناء نقول ليت السيد حسن نصر الله يفعلها ويعيد لبنان كله إلى أهله.
والمقصود هنا، هو أن يخضع لبنان الوطن، لأجندة لبنان المواطن، لا أجندة الإيرانيين والسوريين. وإعادة لبنان تكمن في أن يؤثر السيد نصر الله وحدة لبنان، ويراعي تركيبته التي لا تقوم ولا تستوي إلا على التعددية، وفسح مساحة للآخر. لبنان متشابك، وأفضل حل لعقدته، عدم اللعب بها.
المواطنون اللبنانيون اليوم في هجرة متزايدة للخارج، لا هروبا من الاحتلال الإسرائيلي، بل من العبث الداخلي، الذي يعبث في حياة المواطن اللبناني، وهو، أي اللبناني، أكبر ضحاياه.
راهن حزب الله كثيرا على رصيد المقاومة، وتحرير لبنان، لكن الحزب استنزف رصيده وبات اليوم وجها لوجه مع المواطن اللبناني، كيف لا وعدد ضحايا الحرب الأخيرة قارب الألف ومائتي مواطن لبناني، ناهيك عن الخسائر في الممتلكات.
حزب الله اليوم يريد طي لبنان كله تحت عباءته، قافزا على فسيفساء لبنان. ففي الوقت الذي يريد فيه لبنان خروج السوريين من لبنان، والعودة إليه بسفير وعلاقات دبلوماسية، مثلهم مثل الدول الأخرى، ويريد أن تخضع إيران إلى الجغرافيا حيث تبقى عند حدودها الطبيعية، بدلا من أن تحول بيروت إلى ورقة في يدها توظفها لصراعاتها السياسية، وطموحها في نشر الثورة الإسلامية، تبدو تصرفات حزب الله كمارد الفانوس السحري الذي دائما ما يقول لسياسات سورية وإيران «شبيك لبيك»!
الحديث عن إعادة إعمار الضاحية يجب أن لا يغطي على خبر بناء حزب الله لشبكة هاتف موازية لشبكة الهاتف الحكومية اللبنانية في الضاحية. وبناء شبكات الهاتف أمر جديد على واقع الحركات أو الجماعات التي باتت تأكل الدول في العالم العربي، فبعد أن تم التعايش مع واقع أن لكل جماعة علما، وميليشيا، أو جيشا، وقناة تلفزيونية، تطور الأمر الآن لبناء شبكات هاتف خاصة!
فليت السيد حسن نصر الله يعيد لبنان كله إلى أهله، ومصالحه، وينأى به عن التبعية لأي كان، ليصبح لبنان منطقة صحية تتنفس الديموقراطية الصحيحة، لا ديموقراطية الإقصاء، وتعطيل المؤسسات الدستورية. إعادة لبنان إلى أهله تعني فتح أبواب البرلمان المغلق، ومحاكمة القتلة، واحترام الدستور، وإبعاد بيروت عن المطامع الخارجية
طارق الحميد - 26/8/2007
الشرق الأوسط

حول مسؤولية المثقفين المصريين المعاصرين

لقد أظهر التاريخ دوما حاجة البشر، لأن يحلموا وأن يؤمنوا بشيء أو قيمة أعلي مما يعاركونه في انشغالاتهم اليومية، ولكن ليس بمقدور كل فرد أن يصوغ أفكارا للمستقبل أو أن يعبر باقتدار عن مشروع وطني متميز أو أن يحفز الناس ويعبئ مشاعرهم للتحرك نحو تحقيق طموحاتهم المشروعة، ولعل تلك هي مسؤولية المثقفين الذين من واجبهم استلهام التراث وحكمة الماضي المتراكمة وتفهم الظروف والمعطيات التي تحكم الحاضر وتقديم صورة مقنعة ومحفزة للمستقبل الذي يتعين السعي بدأب لبلوغه، وذلك سواء بالكلمة أو بالصورة أو بالحديث أو بالفعل والحركة.
والمثقف كما أشار من قبل جان بول سارتر هو موقف «ATTITUDE»
، وليس مهنة «METIER»
، فلا توجد طائفة اسمها «المثقفون»، ولكن هناك مواقف وأوضاعا يتدخل ويؤثر فيها أشخاص لديهم تصميم والتزام بالدفاع عما يعتقدونه الحق والخير والصالح العام، ولذا يتعين التمييز بين المثقف والسياسي،
فالأول يجسد المثالي والمطلق، والثاني يعبر عن الواقعي والممكن، ولهذا السبب فإن المثقف بطبيعته أميل لمعارضة السلطة، لأن من واجبه أن يظهر الفجوة بين الأوضاع المثالية والإنجازات الواقعية، أو بتعبير آخر بين ما يجب أن يكون وما تحقق علي أرض الواقع، فالمثقف الحقيقي هو الضمير الجمعي الذي يسمو فوق المشاغل والصراعات والاهتمامات اليومية العابرة، وبتعبير رومان رولاند فالمثقف يشعر بأنه «مسؤول عن العالم وعن نفسه»، إنه إذن علي إثر اختيار أخلاقي إرادي نصبح مثقفين، رغم ما يفرضه هذا الاختيار من مشقة وصعوبات لتعارضه مع الأوضاع والمصالح التي تحيط بنا، والقضاء علي هذا التعارض ليس ممكنا إلا باختفاء المثقف كـ «وضعية أو كموقف» أو تغير أحوال المجتمع.
فإذا تقاعس المثقفون عن القيام بهذا الدور فسيفقد المجتمع فرص الإصلاح والتطوير التي لا غني عنها في مسيرته عبر التاريخ، ولهذا فإن من ألح واجبات المثقفين صياغة المشروع الوطني وعرضه للحوار العام بموضوعية وتجرد، وبعيدا عن الانتهازية والنرجسية التي كثيرا ما تظهر أعراضها علي بعض المثقفين في الفترات الانتقالية التي تهتز فيها القيم وتغيم فيها مشاعر الانتماء والوطنية، ومما يزيد الأمر تعقيدا أن الدور الرائد للمثقفين كان تاريخيا مرتبطا بالتعليم المتميز والثقافة العالية والنظرة الناقدة والرؤية الملهمة التي يتمتع بها هؤلاء، ومن ثم كان تأثيرهم المدوي علي الرأي العام وعلي مشاعر الجماهير.
أما اليوم فمع انتشار وسائل الإعلام وتعدد أدواتها أصبحت الفرصة متاحة لكل شخص، مهما كان نصيبه من التعليم الجاد أو الثقافة الحقيقية أو الرؤية العميقة الواضحة، أن يتصدر الخطاب العام وأن يمارس تأثيره السلبي أو الإيجابي علي حركة الجماهير، ومن هنا حدث خلط ضار بين المثقفين الحقيقيين والمثقفين المزيفين وأصبحت تأثيرات الطائفة الأخيرة علي حركة المجتمع سلبية وضارة بشكل يفوق أحيانا التأثير الإيجابي للقلة الصامدة من المثقفين الحقيقيين المخلصين الذين لم يتخلوا عن التزاماتهم الأخلاقية والفلسفية.
وإذا تساءلنا: هل هناك مثقفون سيئون أو مزيفون فإن الإجابة هي نعم، ففي جميع المجتمعات هناك من المثقفين من يندفع بسبب أنانيته وشهوته لتحقيق المكاسب لاستغلال جهل الناس والتلاعب بأفكارهم ومشاعرهم، ويعمل هؤلاء الفسدة علي فرض الأفكار التي يساندونها بإصرار دون أن يسمحوا بأي قدر من الحوار أو المعارضة، ففي عقيدتهم أن كل الوسائل مباحة لتحقيق المنافع الشخصية، وهو ما يشجع استمرار وتعسف الدكتاتورية المقنعة أو الصريحة أو بزوغ فوضي ثقافية تهتز فيها القيم الإنسانية ويختلط فيها الحق وبالظلم والمشروع بغير المشروع والعام بالخاص. ويعتبر البعض هذا النوع من المثقفين سلاحاً شيطانياً ينشر الكذب ويغذي النفاق ويطعن الحقيقة ويهدم كيان المجتمع الأخلاقي والثقافي والسياسي.
ويشبه البعض المثقف الحقيقي بأنه كالفنار، دوره هو تحرير العقول من القهر والضغط والانغلاق والتحيز والتزمت وعدم التسامح، ويتميز المثقف الحقيقي بالتواضع وإنكار الذات مع حيازة رؤية عميقة لأحوال المجتمع ومشاكله وتحدياته، كما يتميز بحيازته أدوات مهمة في سعيه لهداية مجتمعه نحو مستقبل أفضل، أبرزها الصدق والإخلاص والحوار والسعي الصريح لقيم المساواة والعدالة والتقدم.
ولإصلاح مجتمعنا نحن في أمس الحاجة إلي المثقفين الحقيقيين، الذين هم وحدهم القادرون علي التأمل في أوضاعنا السائدة والتبصر المتعمق في الحلول الممكنة لمشاكلنا وتكوين الرؤية الشاملة وتعبئة المعرفة اللازمة لنجاح برامج الإصلاح والتطوير. وقد يعتقد البعض بسذاجة أن الإجراءات الجزئية والقرارات المتخبطة التي تصدر هنا أو هناك، تحت وطأة المشاكل الطارئة والمتغيرات العابرة، قد تكفي لتسيير أمور المجتمع فترة وراء أخري ولكن هذا تصور خاطئ ستكون انعكاساته سلبية في المدي الطويل.
فمهمة المثقف الأساسية هي أن يقدم رؤية تضع نصب عينيها المدي الطويل وليس فقط أن تقتصر علي النظر للزمن القصير، وأن يطرح حلولاً كلية متكاملة قائمة علي منهج علمي رصين وليس حلولاً ترضي أصحاب الأصوات العالية وتنبني علي الفهلوة والتدليس. المثقف الحقيقي هو في واقع الأمر مفكر صاحب رؤية عميقة وليس مجرد تكنوقراطي أو متخصص قد يجيد التنفيذ أكثر مما يجيد التأمل والتفكير وتبني الرؤية الشاملة المتعمقة. ويقود الخلط في أدوار الفئتين إلي نتائج وخيمة في بعض الأحيان علي نحو ما نشاهده هنا وهناك. فحاجة المجتمعات المعاصرة للمفكرين والمثقفين تبدو اليوم أكثر إلحاحاً مما كان عليه الأمر في الماضي، بالنظر للضغوط التي تفرضها العولمة وهيمنة الرأسمالية علي الصعيد الاقتصادي والطابع البيروقراطي المتزايد للمجتمعات المعاصرة والتأثير المتزايد للمال والتكنولوجيا علي الحياة الإنسانية.
والمراقب لأحوالنا في السنوات الأخيرة يري مدي حاجتنا لجهد المثقفين الحقيقيين المخلصين والمتجردين عن الذات والمنشغلين بالشأن الوطني، خاصة لصياغة تصورنا لمستقبل مصر في ظل المتغيرات العالمية والإقليمية والداخلية سريعة الإيقاع. إن الضجيج الصاخب وردود الأفعال المتسرعة أحياناً والجامدة أحياناً أخري تظهر هشاشة دور المثقفين في الآونة الأخيرة.
ولنتذكر كيف كان رواد التنوير والثقافة يقودون حركة المجتمع منذ بدايات القرن العشرين وحتي أواخره، ليس فقط الأسماء الأكثر شهرة مثل أحمد لطفي السيد والدكتور هيكل والعقاد والدكتور طه حسين وسلامة موسي والدكتور السنهوري، ثم في مرحلة لاحقة يحيي حقي ونجيب محفوظ ود.يوسف إدريس ود.زكي نجيب محمود وغيرهم من مشاهير المثقفين، ولكن أيضاً المئات وربما الآلاف من المثقفين المبدعين والأكاديميين والناشطين الذين شاركوا بدأب وجدية رغم تباين توجهاتهم الفكرية والسياسية في صياغة نهضة مصر وريادتها في مختلف المجالات.
ولا يمكن أن ننتظر من المثقفين رؤي متوافقة وآراء متناسقة، فبينهم كانت وستكون دائماً خلافات جوهرية، ولكن المهم هو أن نحصل علي مشاركاتهم علي اختلاف أطيافهم في الحوار العام، وأن نستفيد من أفكارهم المبتكرة وانتقاداتهم البناءة، وأن نحفزهم لممارسة دورهم الحيوي في رفع مستوي الوعي العام وتشجيع المبادرات الفردية والجماعية للخروج من حالة السلبية وعدم الاكتراث السائدة.
إذن، ماذا حدث لنا ولحركتنا الثقافية رغم وجود العديد من المثقفين المرموقين بيننا حتي الآن؟ ولماذا يفتقد المجتمع تأثيرهم علي حركته اليومية ونهضته المأمولة؟ ولماذا يعلو الصخب والضجيج بحيث يتراجع المفيد والجاد والجوهري ويفقد أولويته لصالح المزيف والهامشي والعابر؟
إن الوقت مناسب الآن لمراجعة النفس وتحكيم الضمير والخروج من الحلقة المفرغة للانشغالات اليومية والصراعات غير الجوهرية والاتهامات الجزافية لنتفرغ كمثقفين لما هو أكثر جدية وهو مستقبل بلدنا. ولنبدأ بالنظر للآخر كشريك في هذا المستقبل وليس كعدو يتعين تحطيمه والقضاء عليه بكل الوسائل والدعاوي المتاحة، مشروعة كانت أو غير مشروعة، مزيفة كانت أو حقيقية.
ولنعترف بأن مسرحنا السياسي والثقافي بعيد تماماً عن استيفاء معايير الكفاءة والجودة المتعارف عليها دولياً، وتلك مسؤولية مشتركة لكل القوي السياسية المتواجدة علي هذا المسرح، في الأغلبية والمعارضة، الرسمية وغير الرسمية علي حد سواء. لابد من الإقرار بأن الفاعلين علي هذا المسرح ليسوا جميعاً ملائكة ولكنهم أيضاً ليسوا جميعاً فاسدين، وأن الحوار الجاد بينهم ومع الرأي العام يعد أقصر الطرق لإجلاء الحقائق دون تستر ودون اتهام باطل وتشويش مقصود أو غير مقصود.
ولندرك أنه في الفترات الانتقالية حيث تهتز القيم ويتدهور المستوي الأخلاقي العام وتضعف مفاهيم الانتماء والترابط والتماسك الاجتماعي تظهر الحاجة بشكل أكثر إلحاحاً لدور المثقفين في إعادة الاعتبار لهذه القيم وصياغة معاييرها وتعبئة المشاعر حول النهوض بها، ولعل البعض يتساءل بمشروعية عن دور المثقفين المصريين في إعادة تأكيد قيم لا ينازع فيها عاقل في أي مجتمع، مثل المساواة بين المواطنين واحترام القانون والحرص علي النظام والنظافة العامة ومحاربة الفساد والمحسوبية والاستسهال وعدم الكفاءة، وترسيخ الديمقراطية ونشر اللامركزية واحترام حقوق الإنسان، والتحديث والتطوير المتواصل لهياكل المجتمع ومؤسساته؟
إن الوقت الذي نؤجل فيه الإصلاح الحقيقي ونضيعه في الاتهامات والمهاترات المتبادلة المسيسة أو المشخصنة أو الساعية للمنفعة الخاصة، سيشكل عبئاً علي مستقبلنا يدفع ثمنه جميع المواطنين، ويتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولي مثقفو هذا الجيل أمام الله والوطن وضمائرهم وأمام الأجيال اللاحقة
د. أحمد جمال الدين موسي
المصرى اليوم

Saturday, August 25, 2007

دانـــات

هناك جدل محتدم في الواقع المصري اليوم حول بيع بنك القاهرة، وهناك آراء كثيرة تنطلق من منطلقات أيديولوجية، أجدها غير قادرة علي أن تأخذنا لأفضل الخيارات. وأعتقد أنه لابد من النظر لهذه الحالة بمعزل عن الأيديولوجيات.
كما أنني أعتقد أن دراسة حالة «البنك التجاري الدولي» ستكون مفيدة للغاية، ونحن نبحث عما ينبغي عمله بالنسبة لبنك القاهرة. فمنذ قرابة عشر سنوات كانت هناك نية لبيع هذا البنك لمستثمر عالمي، لكن وجهة نظر أخري تغلبت، ولم يتم بيع البنك لمستثمر دولي، وعهد بإدارة البنك لقيادة مصرية ذات خبرة دولية.
النتيجة اليوم أن قيمة البنك التي كانت تقدر عند التفكير في البيع بنصف مليار جنيه مصري قد تضاعفت خمس مرات. وهو ما يثبت أننا يجب أن ننظر لكل حالة علي حدة. وفي حالة بنك القاهرة، فإن أي بنك في العالم يحلم بشبكة مصرفية يضاهي عدد فروعها عدد فروع بنك القاهرة (أقل قليلاً من ثلاثمائة فرع).
وفي اعتقادي أن سيناريو الإبقاء علي بنك القاهرة كما هو الآن، وكذلك سيناريو تفتيت ملكيته لعدد كبير جداً من حملة الأسهم هما أسوأ السيناريوهات لأنهما يجعلان القيادة بمعزل عن الرقابة الحقيقية.
فكما أن القيادات السابقة للبنك لم تكن تحاسب بالمعني الحرفي الحقيقي، لأن الحكومات هي أسوأ الملاك! فإن سيناريو الملكيات المفتتة أيضاً يجعل القيادة مطلقة السلطة عديمة المسؤولية.
ولكن البيع لمستثمر دولي هو أيضاً حل قد يكون أحياناً حتمياً، ولكنه ليس كذلك في هذه الحالة، لأن أمامنا سيناريو أفضل
. والسيناريو الأفضل يتمثل في بيع أسهم البنك لكونسورتيوم (تجمع) مصري مع إبقاء «الربع» أو «الثلث» للمواطنين،
وهو سيناريو يجنبنا أن تذهب فوائد البيع لمستثمرين غير مصريين، ويجعلنا نستفيد من تجربة البنك التجاري الدولي. إن السيناريو الذي أقترحه يضمن ما يلي:
أولاً: أن تكون المصالح العليا للقرارات الكبري للبنك مصالح مصرية.
ثانياً: معالجة سوء القيادة والإدارة بأن يعهد بقيادة وإدارة البنك لقيادات مصرية ذات خبرة دولية، وهي متوافرة.
ثالثاً: تحقيق فكرة الرقابة الحقيقية من قبل حملة الأسهم وفي نفس الوقت إيجاد مناخ يسمح بأن تكون الإدارة العليا للبنك مسؤولة مسؤولية حقيقية أمام حملة الأسهم.
وقد يستغرب البعض أن تكون هذه وجهة نظري إذ كنت (منذ عشرين سنة) رئيساً لشركة بترول عالمية متعددة الجنسيات. ولكن هذا البعد حري بأن يجعل وجهة نظري ذات مصداقية، إذ إنني أؤكد (من موقع المعرفة والخبرة) خطورة أن تنطلق القرارات العليا لبنك كبير من مصالح استراتيجية غير مصرية (فالشركات متعددة الجنسيات قد تقدم مصالح أخري غير مصلحة بلد مكان النشاط عن مصلحة هذا البلد). وإذا قال البعض إن هذا يتنافي مع روح اقتصاد السوق ذكّرناه بأمرين:
أولهما: أنه كما لا توجد اشتراكية مطلقة (إلا في الأوهام) فإنه لايوجد اقتصاد سوق مطلق (إلا في الأحلام).
ثانيهما: أن أذكر من يقول بهذا الرأي بأنه عندما اشتري المستثمر السعودي وليد بن طلال حصة كبيرة في «سيتي بنك» فقد مارست الحكومة الأمريكية ضغوطاً كبيرة علي البنك، لتجريد وليد بن طلال من بعض حقوق وسلطات من يملك مثل حصته في سيتي بنك، وعندما اشترت الكويت حصة تقل عن عشرين في المائة من شركة «بريتش بتروليم» أجبرتها الحكومة البريطانية علي بيع جزء من حصتها، وهناك عشرات (بل مئات الأمثلة) علي حالات مماثلة.
وأقترح (في النهاية) تكوين فريق عمل من القيادات المصرفية المصرية ذات الخبرة الدولية لوضع دراسة متكاملة عن إيجابيات وسلبيات كل السيناريوهات الممكنة بخصوص مستقبل بنك القاهرة.
* وربما يكون من المفيد أن أذكر القراء هنا أنه في مواجهة «البنك الأهلي المصري» والذي كان يمثل المصالح الأجنبية في مصر،
فإن مسلماً (هو طلعت حرب) وثلاثة يهود (هم سوارس، يوسف قطاوي وشيكوريل) قد اتجهوا (منذ قرابة تسعين سنة) لتأسيس بنك وطني (هو بنك مصر) يمثل المصالح المصرية العليا، وأدعو من يشاء لمطالعة كتاب الأستاذ الكبير فتحي رضوان الرائع عن طلعت حرب بعنوان «درس في العظمة».
* تري ألم يكن من الأنفع للحزب الوطني وحكومته عدم إضعاف أحزاب المعارضة الشرعية بل السماح بتقويتها وتألقها عوضاً عما فعلته الحكومة، عندما همشت وأضعفت أحزاب المعارضة الشرعية، وتركت نفسها وتركتنا أمام وحش حقيقي؟
أليس هذا مما يوصف بالإنجليزية بأنه كالشخص الذي أطلق الرصاص علي قدمه؟.. أو ليس هذا تطبيقاً للقول المأثور بأن رجلاً أراد عقاب زوجته فقطع أنفه!.
* يقول نيقولو ميكيافيللي في مطارحاته إنه قال للأمير (وهو ينصحه): تنبه! إن كل من يمدحك يري نفسه أشد ذكاء منك بل يستغبيك! ويقصد ميكيافيللي أنه ما من أحد يمدح شخصاً في موقع سلطة إلا وهو يري نفسه أشد ذكاء من الممدوح! وأنه المخادع وأن الممدوح هو المخدوع.
* مطلوب من كل مصري محب لبلده أن يتأمل في تجربة حماس ليعرف أن هذا الفصيل ليس بقادر إلا علي التخريب والرجوع بالمجتمعات للقرون الوسطي. فإذا كان التقدم يحتاج لقيادات تتسم بالكفاءة، فمن أين ستأتي كفاءة أمثال قيادات حماس الذين نسمعهم يتكلمون فنبكي علي سوء حظ شعوبنا!.. وفي لبنان، يقوم نفس الفصيل بتخريب أجمل البلدان العربية.. ومع ذلك لايزال بعضنا (مثل سعد الدين إبراهيم) يخادع نفسه ويخادع قراءه بأوهام وأحلام المدرسين الذين لا يعرفون عن الحياة إلا أقل القليل!
* عجزت عن فهم صمت الحكومة المطبق تجاه المخرب الذي أصدر كتاباً يسيء لأقباط مصر إساءة دنيئة وممجوجة، فإذا به يطل علينا من جديد (من خلال صحيفة قومية يومية)، وإذا به يعود للعبة الظلامية التي يهواها، وهي تأثيم وتجريم بعض الكتب. وهو لا يفعل ذلك من «بيته»، وإنما من خلال مؤسسة من مؤسسات الدولة. ما هو التفسير إلا انعدام أو ضحالة الرؤية السياسية والثقافية.
* منذ أربعين سنة وبالتحديد ليلة ٤ يونيو ١٩٦٧ كان شعار القيادة المصرية هو «استعادة فلسطين»، وبعد أقل من أسبوع واحد، كان الشعار قد أصبح «إزالة آثار العدوان». والفارق بين الشعارين هائل وكبير وله معان جد مختلفة، ومع ذلك فإن البعض لايزال يتكلم بلغة تعبر عن الشعار الذي أسقطه معلمهم وقائدهم الرمز
طارق حجى 25/8/2007
المصرى اليوم

Friday, August 24, 2007

العد التنازلي بدأ.. والصراع علي مستقبل مصر اشتعل مجدداً بعد اعتقال العريان وقيادات الإخوان

متسائلا في مدونة الشرق الأوسط بمجلة «التايم»: هل الإسلاميون في طريقهم إلي السلطة في مصر؟
قال المراسل الصحفي الأبرز في المنطقة سكوت ماكلويد: إن الصراع علي مستقبل مصر اشتعل مجددا باعتقال عصام العريان المنسق السياسي في جماعة الإخوان المسلمين وعدد آخر من القيادات يوم الأحد الماضي.
وأشار ماكلويد إلي أن العريان اعتقل مرات عديدة سابقا بتهمة الانتماء إلي جماعة محظورة لكن هذه المرة يختلف الوضع بسبب الأجواء الساخنة بين الإخوان والسلطة.
وأضاف ماكلويد: إنه التقي حازم منصور، النائب الإخواني عن دائرة شبرا وكان يتوقعه غاضبا بسبب عمليات الاعتقال إلا أن منصور اكتفي بإبداء تعجبه مما اعتبره عدم قدرة النظام علي النهوض بالبلاد من حالة الركود التي تعاني منها.
ونقل الصحفي الأمريكي عن النائب الإخواني قوله: إنه تم اعتقال العريان وباقي قيادات الجماعة في اجتماع إخواني كانوا يراجعون فيه خطط الجماعة لإطلاق حزب سياسي.
وأضاف منصور: إنه بالرغم من الاعتقالات الأخيرة لقيادات الجماعة فإنها ستمضي قدما للحصول علي الموافقة الداخلية لبرنامج الحزب بعد رمضان وتقديمه للناس في أكتوبر أو نوفمبر المقبل.
وتابع منصور: نعم إنهم كانوا في اجتماع غير شرعي أثناء القبض عليهم لذا نحن نطالب بحزب شرعي، مؤكدا أن النظام قلق من تحركات الإخوان نحو الاعتدال والمساواة، وهذا هو سبب الاعتقالات الأخيرة وقال: «إنهم يريدون تحييدنا الآن».
وأشار ماكلويد إلي أن الوضع الحالي فرض كثيرا من التساؤلات والآراء بشأن أوضاع الإخوان
ونقل عن البروفيسور الأمريكي مارك لينش الخبير في هذا الشأن أن نظام مبارك يعاني من صداع مؤلم حاليا ليس فقط بسبب استخدام الإخوان لغة أكثر اعتدالا وبراجماتية ولكن لأن الغرب بدأ يتخذ خطوات إيجابية نحو الجماعة مستدلا بمبادرة السفارة الأمريكية بكسر التابو حينما دعت نائبا إخوانيا آخر خلال استقبال أعضاء الكونجرس.
وتابع ماكلويد أن عدم تقدم مرشح إخواني للرئاسة ليس أمرا خطيرا بعد كارثة الجزائر حينما صعد الإسلاميون فجأة إلي السلطة فالإخوان لاتزال تراودهم هواجس كثيرة قبل أن تكون البلاد جاهزة لحكمهم ولكن الحظر المفروض عليها كجماعة دينية وفقا للتعديلات الأخيرة ربما يمنعها من الإلقاء بثقلها خلف مرشح غير إسلامي من أجل منع عملية التوريث.
وأنهي ماكلويد مقالته بالتأكيد علي أن العد التنازلي قد بدأ في مصر فلم يبق لمبارك سوي أربع سنوات في الدورة الحالية وقد أتم ٢٦ عاما في الحكم وبلغ ٧٩ عاما في مايو الماضي، ويري كثير من المصريين أن نقل السلطة أصبح أقرب من أي وقت مضي
كتب محمد فودة ٢٤/٨/٢٠٠٧
المصرى اليوم

المصريون عاشوا الخوف مع عبد الناصر والغيظ مع السادات.. واليأس في عصر مبارك

خلاصة منظومة القيم التي يؤمن بها المفكر والناقد والمثقف الدكتور صلاح فضل عضو اللجنة التنفيذية العليا في حزب الجبهة الديمقراطية والرئيس السابق لدار الكتب المصرية، تتشكل من خمسة فرائض هي:
الديمقراطية في السياسة،
وحرية الإبداع في الثقافة
وكفاءة الإنتاج وتوازن المصالح في الاقتصاد،
وتكوين التفكير العلمي في التعليم،
وتحقيق المصداقية في الإعلام.
يؤكد الدكتور صلاح فضل أن السلطة السياسية في مصر بمستوياتها المختلفة حاليا أصبحت صماء لاتسمع شيئاً وعمياء لاتري سوي موقع أقدامها، كما أنها لاتهتم برأي الشعب وهذا يؤذن بقرب الانفجار مشيراً إلي أن أكذوبة التوريث المثارة حالياً تمثل أكبر خدعة في السياسة المصرية الراهنة.
ويري أن لعبة التخويف الداخلي والخارجي بالقوي الدينية التي يصر عليها النظام أصبحت مكشوفة، وأن اشتغال المثقف بالسياسة فرض عين لاكفاية.
وقال: إن الصحف القومية تروج للحكام وتبرر أخطاءهم ، والتليفزيون المصري ضاق بصراحة حمدي قنديل ، والديمقراطية هي السبيل الوحيد لاستعادة التوازن بين الثقافة والسلطة في مصر.
في السطور المقبلة مكاشفة عن الوجه الآخر السياسي للناقد والمفكر الدكتور صلاح فضل.

* مؤخراً شاركت في تأسيس حزب الجبهة الديمقراطية... الأمر الذي يجعلنا نتساءل... لماذا تحول صلاح فضل من الأدب إلي السياسة؟
- أعتقد أن الظروف التي يمر بها الوطن بتراكماتها التاريخية تفرض علي المثقفين الفاعلين في الحياة العامة ألا يكتفوا بخطابهم الثقافي الذي لم يعد مؤثرا لأمرين:
الأول أن السلطة السياسية بمستوياتها المختلفة أصبحت صماء لاتسمع شيئا يفيد استراتيجيتها وعمياء لاتري سوي موقع أقدامها وضرورة تثبيتها إلي الأبد، فلا تفعل شيئا - مهما كان ضروريا لمصلحة الوطن- يهز شعرة واحدة من خلودها الموهم، هي لا تؤمن بحتمية التغير ولا تصدم سوي بالموت القسري الذي يجتاح أفرادها.
الأمر الثاني: أن الضجيج المجتمعي الذي تخلقه حماقات هذه السلطة بقصر نظرها وتخاذلها عن اتخاذ المواقف الحازمة ورخاوتها في إعداد المؤسسات التي تعمل بنظام مضطرد ولصالح تقدم الوطن، جعل وصول صوت المثقف إلي الرأي العام شاحباً وخافتاً لكثرة التلوث والضباب الذي يحيط بالقاهرة والحياة المصرية بأكملها، لهذين السببين، أصبح من فرض العين لا الكفاية علي كل مثقف أن يشتغل بالسياسة وأن يتقدم بالفعل بطريقة متحضرة وسلمية بالإسهام في بناء حياة حزبية صحيحة تمثل المسار الوحيد نحو الديمقراطية.
جيلي مر بثلاثة عهود نوجزها في كلمات ثلاث: عصر الخوف من الدولة البوليسية الملفع بغمام الحلم القومي في عهد عبد الناصر، وعصر الغيظ من المغامرات غير المحسوبة والضربات العشوائية والانفتاح المدمر لقواعد الأخلاق والنظم الاقتصادية والقفز البهلواني علي السياسات الثابتة بالسقوط في القدس وتحدي إرادة الشعب مرة أخري في عهد السادات، ثم عصر اليأس المستطيل ومقاومة حتمية التغيير واستشراء الفساد لدرجة الغرغرينا، وتدهور الحياة السياسية والاقتصادية والمعنوية للإنسان المصري في هذا العصر.من الخوف إلي الغيظ الي اليأس، يكاد المثقفون أن يكونوا قد فقدوا فاعليتهم وإيمانهم بوطنيتهم وحلمهم الحقيقي المتحضر في بناء دولة مدنية تليق باسم مصر وبنضالها الديمقراطي.
وتري لواء في الداخلية يتبجح أمامك في التليفزيون المصري قائلا: «من لا يعجبه الحال فليهاجر»، وكأنه اغتصب الوطن واصبح سيداً مطلقا له دون ذرة من الخجل، إذا وصلت سلطة إلي هذه الدرجة من الفخر وعدم الاهتمام برأي الشعب، بل ومعاندته في كثير من الأحيان بطريقة قروية فجة فهذا يؤذن بقرب الانفجار، ولأن هذا الوطن غال علي أبنائه لابد أن نمنع الحريق قبل وقوعه، ولو تمتعت «الضباط الأحرار» لدينا بشيء من الوعي لفعلوا مثلما فعل الثوار في موريتانيا مثلا، إذ تركوا البلاد لأهلها محترمين قواعد اللعبة الديمقراطية، بدلاً من تجنيد جميع الطاقات الانتهازية لخدمة أهدافهم في البقاء والتأييد والتوارث.

* وهل المثقفون قادرون علي إحداث حراك في الحياة السياسية؟
كانت الثقافة دائماً ولاتزال في كل المجتمعات هي التي تخلق اتجاهات البوصلة الصحيحة دون شوشرة من الإعلام وأصحاب المصالح الانتهازية السياسية، والمأساة التي تعيشها مصر والتي لانظير لها تقريبا، هي أنها ورثت أسوأ النظم الاشتراكية والفاشية، فالدولة تملك ما يسمي صحفاً قومية، انحصرت رسالتها في الترويج للحكام وتبرير أخطائهم وتمرير أهدافهم، وأصبح التليفزيون بقنواته العديدة ومستوياته المختلفة جاثماً تحت اقل السقوف الإعلامية انخفاضاً من حيث الحرية والكفاءة، فهربت الطاقات الإعلامية الحقيقية خارج هذه المؤسسات الرسمية وحرمت مصر من كتابها ومثقفيها الأحرار،
وبالتالي ضاقت إلي أقصي درجة مساحة الشرفاء من المثقفين ذوي القدرة علي تحديد اتجاهات البوصلة، أصبحنا مثلا في الأهرام ننتظر عمود سلامة احمد سلامة من بين عشرات الأعمدة، وضاق التليفزيون المصري بصراحة حمدي قنديل وجرأته وامتلأت القنوات العربية بشباب مصر المحللين القادرين علي إدراك ابعد مدي للرؤية الاستراتيجية دون أن ينتفع منهم وطنهم، هذه الأوضاع يجب ان تتغير حتي تتغير مؤسساتنا إلي النمط الديمقراطي الصحيح الذي توازن فيه السياسة بالثقافة وتمارس السلطة الرابعة «الصحافة» حقها في النقد والتوجيه وليس التزلق والاستجداء، باختصار النمط الديمقراطي الصحيح هو السبيل الوحيد لاستعادة التوازن بين الثقافة والسلطة في مصر.

* وبماذا تفسر انحسار دور مصر الثقافي علي المستويين العربي والعالمي؟
- أعتقد أن الدور الثقافي المصري علي المستويين العربي والعالمي، لم يتم تنميته ولا تهيئة المجال له بالقدر الضروري، فالمبدعون المصريون محرومون من أن يحتلوا الصدارة في صحفنا المصرية كما كانوا من قبل لأن ولاءهم المطلق غير المشروط للسلطة مشكوك فيه، وأصحاب الرأي لا يؤخذ بمشورتهم، وإذا فقدت مكانك في وطنك فيصعب عليك أن تعوضه في فضاء آخر، ومع ذلك نجد ان الطاقات المصرية الكبري تحتل موقعها في الحياة العامة، وكم كنت مثلاً أرمق شخصية مثل محمد البرادعي وهي تدير أخطر مؤسسة متصلة بالنشاط النووي في العالم، وأقول لو قدر لرجل مثل هذا أن يحكم مصر ألم يكن ليقفز بها إلي المستوي اللائق بحضارتها وتاريخها؟!
هناك أمر آخر فيما يتصل بالدور الثقافي المصري لا يد لنا فيه لكنه شديد الخطورة والتأثير السلبي، وهو أن النهضة الحديثة التي قادتها مصر في التعليم والتنوير والمؤسسات المدنية قد بليت في العقود الأخيرة بحركة مضادة جاءتنا من دول الجوار النفطية العاتية التي حضنت مذاهب دينية شديدة الرجعية والعداء للتقدم وللحرية والحضارة وحتي للإسلام نفسه بمفهومه الذي روج له محمد عبده، وبقية المفكرين الأعلام استثمروا الدين للنفخ في روح الوطنية وتعزيز طاقة الحرية والانطلاق والتقدم في المجتمع، والشعور الديني بطبيعته مثل الطاقة الذرية يمكن أن يحدث المعجزات الايجارية لو توجه سلمياً للعلم وخدمة الإنسانية، وهو ذاته يمكن ان يدمر الكون كما يفعل الإرهاب اليوم عندما يتحول الي أسلحة دمار شامل.
الدين في المفهوم المصري كان يعادل الاستغلال السلمي للطاقة الذرية، لقد أصبح في المفهوم الوهابي وقوداً ذرياً لأسلحة كما هي في الواقع وليست في المجاز، فما تفعله القاعدة وبن لادن وما يجتذبه من حماس الشباب في كل الأقطار العربية ويشوه به وجه الحضارة، أكبر دليل والنتيجة الطبيعية للوهابية وثقافتها المدمرة.
هذا البلاء يوشك أن يكون أحبط نسبياً المسعي الحضاري المصري في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وهو الذي يؤدي حتي اليوم إلي تحجيم الدور الثقافي المصري لأنه مضاد له وقد انتهز فرصة عزلة مصر بعد «كامب ديفيد» خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات للانفراد بالساحة العربية وتهميش الدور المصري، وإن كان هذا التأثير قد أخذ يخف الآن بعد أن اكتشف الإخوة أنفسهم ضرورة تحجيم هذا الغول المتوحش من التعصب والجهل واتخاذ مسار مخالف للتوافق الحضاري مع القوي العالمية.

* وماذا عن الدور السياسي المصري؟
- فيما يتعلق بالأدوار السياسية أصبح اللاعب الأكبر فيه هي القطب الواحد الذي يكاد يفرض قواعده علي بقية الأطراف وأقصي ما نتوقعه من السياسة المصرية المستقلة ألا تتخاذل في سبيل حرصها علي دعم هذا القطب الأوحد لمشروعاتها السلطوية، عن اتخاذ المواقف الوطنية القومية اللائقة بمصر ومكانتها التاريخية.
وأحسب أن السبب الجوهري في ضعف النظم الفاشية أنها تدرك مدي هشاشة علاقتها بقواعدها الشعبية ولذلك تصبح أشد قابلية للتبعية وأيضا للقوي الخارجية حتي تضمن بقاءها واستمرارها، بمعني أن الحكومات والرؤساء المنتخبين بطريقة حرة وديمقراطية وشفافية هم وحدهم القادرون علي أن يترجموا إرادة شعوبهم باتخاذ مواقف محسوبة لصالحهم الوطني والإقليمي مهما كانت مضادة للأطماع الخارجية، أو مخالفة لمقتضيات الأوضاع الداخلية، ونأخذ نموذجاً علي ذلك من السياسة الداخلية علي وجه التحديد: «التعليم» فالذي أفسد مستواه في مصر وجعله بهذا الشكل المتدهور من الحضانة إلي الجامعة، هو عدم قدرة أي حكومة مصرية- لأنها غير منتخبة- علي اتخاذ القرارات الحاسمة بشجاعة، مثلاً لايمكن لعاقل أن يتصور أن الأهداف والشعارات التي رفعتها الدولة من الخمسينيات بضمان مجانية التعليم، بمستطاع هذه الدولة التغطية الحقيقية لتكلفتها الفعلية.
ان أقصي ما يمكن لبلد في مثل ظروف مصر الاقتصادية هي أن تضمن تعليماً أساسياً من الحضانة إلي الثانوية العامة ومجانياً حقيقياً دون دروس خصوصية ودون مستويات متعددة من تعليم وطني وأجنبي متميز وغير ذلك، أما الجامعة فأقصي ما يمكن لدولة مثل مصر، هو إتاحة الفرصة للنابغين فقط وأصحاب المواهب الحقيقية وعلي بقية الأوساط والضعاف أن يعملوا ويدبروا إمكاناتهم الاقتصادية بمواصلة التعليم الجامعي إن أرادوا مثلما يحدث في كل بلاد الدنيا، لكن خوف الحكومة من مظاهرات الطلاب واحتجاجات أولياء الأمور جعلها ترتكب خطأ فادحاً
وهو أنها تقبل مئات الآلاف من الطلاب في الجامعات دون أن تكون قادرة علي الإطلاق علي تكلفة تعليمهم الحقيقية مع ضمان مستوي رفيع من البحث العلمي وإنفاق أكاديمي ملائم لمتطلبات العصر فتكون النتيجة إخراج أفواج من أنصاف المتعلمين وإغراق سوق البطالة بهم وإلقاءهم في محيط من اليأس وفقدان الأمل، فلا هي علمتهم التعليم الصحيح لمواجهة الحياة بكفاءة والتنافس فيها ولاهي تركتهم يدبرون أمورهم بعيداً عن وهم أنهم أصبحوا جامعيين، وبالطبع ليست قادرة بأي شكل علي ضمان فرصة عمل حقيقية لهم.
والخوف من اتخاذ القرارات الحاسمة لعدم ارتكاز حكوماتنا علي قاعدة ديمقراطية صحيحة هو السبب في أشكال التدهور التي نعانيها وبالتالي تصبح الديمقراطية هي حبل النجاة للمستقبل.

* وكيف نحقق هذه الديمقراطية؟
- لا تتحقق الديمقراطية إلا بثلاثة أمور جوهرية وهي أولا : إباحة تعدد الأحزاب دون أي قيد أو شرط مع الحفاظ علي طبيعة الدولة المدنية وعلي أنصار التيار الديني الذين يريدون دخول الحياة الحزبية أن يحترموا هذا الشرط، لأن هذه هي قواعد اللعبة، الأمر الثاني هو تعديل كل النظم والقوانين لتؤدي إلي تداول السلطة في كل المستويات لأنها مثل الجرح لابد من تغيير الضمادات الموضوعة عليه،
فإذا بقي المسؤول الكبير في موقعة أكثر من العمر الافتراضي لوظيفته لابد أن يتحول إلي مصدر أساسي للفساد وينقلب إلي غرغرينا، أعرف أن الفساد مثل الملح موجود في كل أنواع الطعام لكن دائما بنسب مقننة لا يتجاوزها وإلا أفسد الأمر كله، فتداول السلطة يمنع بقاء وزير أكثر من خمس سنوات علي أقصي تقدير ويتيح الفرصة لبقية الكفاءات أن تمارس إبداعها الخلاق بفرص متكافئة دون احتكار أو تثيب.
الأمر الثالث هو الشفافية وإطلاق حرية الصحافة والإعلام مثلما يحدث في المنظمات والمؤسسات الدولية خاصة، أنه علينا أن نستفيد من تجربة الدول الاشتراكية الديمقراطية التي تحولت حديثاً إلي الديمقراطية، فقد استطاعت بعدها، بسلاسة عجيبة أن تنتقل من مرحلة الحكم الشمولي الأيديولوجي إلي نظم مبتكرة في الصحافة والتلفزيون والإعلام، تضع قواعد اللعبة الجديدة وتلزم الجميع بالالتزام بها دون ترك الفرصة للرأسمالية للسيطرة علي الصحف والقنوات الفضائية كما يتهددنا الآن.

* الإعلام المصري... كيف تراه؟
- الإعلام المصري أصبح في ذيل قائمة الإعلام العربي عموماً لأنه فقد أمرين،
الأول هو استنباط القيادات الشابة بقواعد مهنية سليمة وتسليمها مراكز القيادة بالتداول النشط
والأمر الثاني هو رفع سقف الحرية في عصر السماوات المفتوحة بما يسمح بانطلاق كل الطاقات في إطار التوافق الوطني والمصالحة القومية والانسجام مع إيقاع العصر.
مثلاً من الشائع أن التليفزيون المصري فقد مصداقيته وحتي المنتج المتميز الذي يتميز به نتيجة لتراكمات الحالة الثقافية المصرية الخاصة جداً في الوطن العربي، أصبح ينفي إلي ساعات البث الميتة عند الفجر وتهدر ملايين الجنيهات علي البرامج والمشروعات التافهة دون أن يتقدم أحد بمبادرات حقيقية لاستعادة الثقة في العقل المصري، وإتاحة الفرصة للكفاءات الشابة لملء هذا الفراغ، كل الخيوط عندما نمسك بها إلي آخرها تفضي بنا إلي بؤرة واحدة هي افتقاد التطبيق الحقيقي للنظام الديمقراطي، ففي تقديري أن البديل الآن لأحلام الزعامة القومية التي عشنا بها زمناً ثم صحونا علي كابوس النكسة وخيبة الأمل التي أعقبتها، هو وطن حر منتج، ديمقراطي بالفعل لا بالشعارات الزائفة، وطن يتيح لكل أبنائه أن يحققوا ذواتهم فيه وأن يجدوا فرصتهم داخله دون احتكار طبقي أو تجميد سياسي أو مراهنات اجتماعية.
وليس من الوارد علي الإطلاق في ظل هذا الأمل الوطني والقومي المنشود أن تتحول جمهوريتنا الي ملكية أو أن يعد مسرح الحياة فيها لأكذوبة التوريث التي تمثل أكبر خدعة في السياسة المصرية الراهنة.

* بمناسبة الحديث عن التوريث بماذا تفسر طغيان سياسة التوريث في معظم مؤسسات الدولة وكأن الوطن لا يوجد به من يصلح للعمل في تلك المؤسسات سوي أبناء العاملين فيها؟
- افتقاد الشفافية وانتهاك الحريات الدستورية في تكافؤ الفرص والمساواة أسفرا في مصر ـ كما هو شائع ـ الآن عن إصابة بعض المؤسسات المهيمنة بعدوي التوريث، ومنها الشرطة مثلا، التي أصبحت تقتل البشر بدلاً من حمايتهم، وفي القضاء مثلاً يتم تعيين أبناء القضاة بغير استحقاق في سلك القضاء ومن يحتج علي ذلك يهان ويهدد كما حدث لفاروق جويدة.
كما أصبح التوريث شائعاً في كليات الطب وبعض الكليات الأخري، فكم نري أبناء الأساتذة معيدين في تلك الكليات دون أن يستحقوا؟!كل تلك الظواهر تعود إلي جذر واحد هو الخلل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، نتيجة للنظام السلطوي المسيطر، وعلاج هذه الآفات في التعليم وفي المؤسسات المختلفة يستغرق عقوداً من الزمان لكن ليس بمستحيل علي الإطلاق، فالإنسان المصري قادر علي أن يحقق طفرة تستنهض عزيمة الوطنية التي انطلقت بجبروت رائع منذ مطلع القرن العشرين بزعامات مثل مصطفي كامل وسعد زغلول وطه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم والسنهوري باشا ونجيب محفوظ وغيرهم.

* وهل مصر عقمت عن إنجاب مثل هذه العبقريات حالياً؟
- مصر لن تعقم أبدًا، وهي قادرة علي إنجاب أمثالهم لكن رداءة الحياة المعاصرة وتلوث الغلاف الجوي المحيط بالقاهرة يمنعنا من رؤيتهم.

* في رأيك لماذا لا يعبر الناس عن رأيهم من خلال صناديق الانتخابات، التي نادراً ما يذهبون إليها؟
- هي حلقة مفرغة،سأتحمس لإبداء رأيي في اللحظة التي أتيقن فيها أنه سيتم احترامه والعمل بموجبه وسيلتزم كل الأطراف بنتائجه، ولكن عندما أشك ولو لهنيهة أنه سيزور - وقد أصبحت الشرطة في مصر تري أن تزييف الانتخابات واجب وطني - فلايمكن لأي عاقل أن يبذل مجهودا وهو يعرف انه سيهدر تماما.
اضمن لي انتخابات نزيهة أضمن لك مشاركة بحس وطني حقيقي، نحن شعب يدعي التدين وتري علي جبهات كبار اللواءات زبيبة الصلاة بينما يمارسون هذا التزييف الذي يعتبر أكبر درجات الخيانة للوطن دون أن يرف لهم جفن أو يشعروا بتأنيب ضمير، غير هذا الواقع وسيتغير وجه الحياة في مصر.

* كثيرة هي الأحزاب القائمة، لكن لانري لها دوراً ملحوظاً في الحياة السياسية... ما تعليقك؟
- الأحزاب القائمة في مصر حالياً أحزاب كرتونية مضحكة، فرغها النظام من فاعليتها وحرمها من جمهورها، ولن يسمح إلا بالأحزاب الهزيلة التي تخجل أي وطني شريف، وسيعمل علي افتعال الخلافات والتدمير من الداخل وحصار كل الأحزاب الكبري والناشئة، وأملنا أن يكون النظام قد أدرك أن لعبته في التخويف الداخلي والخارجي بالقوي الدينية،قد أصبحت مكشوفة وأن عليه أن يفعل شيئاً من أجل مستقبل مصر وهو أن يترك للقوي السياسية الحقيقية في مصر حريتها في تكوين الأحزاب مع شرط الحفاظ علي قواعد اللعبة المدنية كما تعرفها كل دول العالم الديمقراطي
حاوره في أبو ظبي محمد سالم ٢٤/٨/٢٠٠٧
المصرى اليوم

Tuesday, August 21, 2007

الروائي صنع الله إبراهيم لـ«المصرى اليوم»:مصر مقبلةعلي ثورة تلتهم الأخضر واليابس

إذا كان هناك تصنيف لغايات الكتابة الروائية، فإن الروائي صنع الله إبراهيم سيحتل الصدارة، فيما يتعلق بالرواية السياسية، إذ لا تخلو رواياته من اشتباكات وإسقاطات سياسية بلغة شديدة الحدة.. ولعل هذا كان سبباً أساسياً في دخوله المعتقل، الذي دون فيه مذكراته علي ورق «البفرة».
صنع الله إبراهيم، هو نفسه صاحب المواقف الصاخبة المثيرة للجدل، وآخرها رفضه جائزة مؤتمر الرواية العربية بالقاهرة عام ٢٠٠٣، محتجاً بأنه يرفض قبول جائزة منحها له نظام يفتقد المصداقية.. ولأنه يعيش دور الشاهد علي المجتمع المصري وتحولاته الثقافية والاجتماعية منذ خمسينيات القرن الماضي، فإن تعليقاته علي أحوال مصر الآن تكتسب أهمية خاصة، وهو نفسه يري أن هناك تشابهات كبيرة بين ما حدث في منتصف القرن الماضي وما يحدث في مصر الآن.
وعلي عكس مواقف معظم أدباء مصر، فإن صنع الله إبراهيم يفجر في هذا الحوار، مفاجأة مدوية بتأكيده أنه لا يمانع في صعود التيار الديني إلي السلطة، إذا كان هذا اختيار الشعب، مؤكداً أن المصريين قد يجبرون الإخوان علي تغيير مناهجهم وأفكارهم.
.. وأنت في طريقك لإجراء حوار مع الروائي صنع الله إبراهيم يجب أن يفرض عليك موقفه الرافض جائزة مؤتمر الرواية عام ٢٠٠٣، والتي بلغت قيمتها مائة ألف جنيه، فقد رأي أن الجائزة ممنوحة من نظام لا يملك مصداقية، كما يجب أن تتذكر رفضه جائزة الجامعة الأمريكية لكنه كان رفضاً عارياً من البيانات الساخنة، وعليك أن تتذكر للمرة الثالثة قبوله جوائز أخري منها جائزة ابن رشد، وعندما تصل للمبني الذي يقيم فيه في مصر الجديدة ستتوقف دقائق لتستجمع أنفاسك للصعود إلي شقته في الطابق الأخير، لأنه ليس هناك مصعد.
وحين تبلغ باب شقته ستجد عليها الكثير من الملصقات لـحركة «كفاية» وأخري لرفض العولمة ومؤتمراتها، وسرعان ما تتقافز إلي ذهنك أعماله الروائية المشبعة بالاغتراب والأسئلة الوجودية والسياسة فتتذكر «أمريكانلي» أو «أمري - كان لي» وتتذكر ثورة القوميين في «وردة» ورائحة القهر في «تلك الرائحة» التي كتب لها يوسف إدريس المقدمة، وهي الرواية التي ستظل شاهدة علي فترة الغليان السياسي في مصر، كما تقف في المسافة الفاصلة بين هذه الرواية، وأحدث كتب صنع الله «يوميات الواحات» عن تجربة الاعتقال، ثم تستحضر رواية «شرف»
وحين تصبح ممتلئاً بآلام وإحباطات لحظة التراجع الحرجة التي نعيشها، ستحتاج لأن تعقد مقارنة بين الماضي العربي وحاضره أو تقيم بينهما حواراً وستكون مهيئاً لقراءة روايته الأحدث «تلصص» التي توقفك محملاً بكل جراحك وعوراتك وتراجعاتك في مواجهة مرآة الحاضر الذي هو ليس أفضل حالاً من الماضي، بعد كل ذلك سيمكنك تحديد منطلقات هذا الحوار مع صنع الله، الذي يحذر فيه من أن النظام الحالي في مصر يقودنا إلي كارثة.. والحل في الديمقراطية.. وإلي التفاصيل.

* روايتك الأحدث «تلصص» تلعب في منطقة المقاربات التاريخية انطلاقاً من حرب ١٩٤٨، فعلي أي نحو جاءت هذه المقاربات، وإلي أي حد اقتربت من تفاصيل اللحظة السياسية الراهنة؟
- رغم أن أحداث هذه الرواية تعود إلي ذلك التاريخ حيث زخم أحداث عام ١٩٤٨ فإنني اكتشفت أن أحداث تلك الفترة تتشابه إلي حد كبير مع عصرنا الحالي، حيث تداعي النظام، وتراجع الحياة، وقديماً وصل الناس لحد مهاجمة النظام الملكي، فخرجت في المظاهرات وهي تهتف «أين الكساء ياملك النساء؟» مثلما هتفت حينما طلق الملك فاروق الملكة فريدة وهي تقول «خرجت من بيت الدعارة.. لبيت الطهارة».
وكانت هناك حالة من السخط العام، وكان هناك بلاء شديد، وأيضاً أثرياء حرب ومظاهرات واعتصامات لرجال البوليس وللعاملين في التمريض، وأضرب العمال، وكان هناك في المقابل صعود لدولة إسرائيل، وكنا مضحكة للأمم بعد أن أضعنا فلسطين، وإذا بي أقف علي هذا التشابه بين تلك اللحظة ولحظتنا هذه، إذ نشهد بداية التدخلات الأجنبية وسيطرة النفوذ الأجنبي ووصايته علينا، ولنشهد ضرب الصناعة المصرية، وملاحقة الشيوعيين، ومحاولات الاغتيال.. ولذلك فإنني أقول ما أشبه الليلة بالبارحة
.

* وهل بسبب اعتماد الرواية علي هذه المقاربة جعلت بطلها طفلاً ورجلاً طاعناً في السن وكأنك تقيم حواراً بين الماضي العربي المصري وحاضره؟
- نعم.. وهو في مقدمة الرواية أما خلفيتها فهي أحداث عام ١٩٤٨، وهاتان المرحلتان كانتا بغرض تحقيق هذا الحوار بين زمنين، ورغم بعدهما فإنهما متشابهتان في نقاط كثيرة.

* مرت علي تجربة اعتقالك فترة طويلة جداً، فلماذا كتبتها الآن، ولماذا لم تصدر «يوميات الواحات» قبل ذلك بعشر سنوات أو أكثر
مثلاً؟

- أما لماذا الآن فليست هناك أسباب محددة، ولكنني عادة ما أمر بحالة صعبة عقب انتهائي من أي عمل روائي، وكنت قد فرغت من رواية «أمريكانلي»، وقد اعتدت أن أدخل في عمل جديد فور انتهائي من عمل ما، هروباً من هذه الحالة، التي هي أقرب إلي الاكتئاب.

* ولكن «يوميات الواحات» عمل ثقيل ومرهق في كتابته، بل من شأنه أن يعمق حالة الاكتئاب، إذ يستعيد حالات تعذيب.. وامتهان،
واسمح لي أن أقول إن هذا العمل لا يمكن أن يكون نتاج المصادفة، خاصة أنه يتحدث عن سنوات الاعتقال ومرحلة التكوين لوعيك؟

- لا والله.. بل لعبت المصادفة دوراً، فلقد طلب مني رئيس تحرير مجلة «الهلال» الأسبق كتابة شيء عن سنوات التكوين، وهو باب كان قد استحدثه هو في المجلة، فبدأت أكتب عن هذه السنوات، فلما وجدت الخواطر تتداعي بسهولة، وأن الذكريات تتدفق وجدتها فرصة لأحول الفكرة إلي مشروع أكبر، خصوصاً في هذه المرحلة من العمر، وكأنني قصدت أن أكتب شهادتي الخاصة علي فترة من الزخم عشتها، كما وجدتها فرصة لأوثق لتجربتي مع الكتابة.
هذا استدعي منك بالضرورة، أن تعيد الحياة لمذكراتك في المعتقل، والتي كتبتها علي ورق «البفرة»؟

- نعم، أخرجت هذا الورق، وأضفت إليه بعض الأشياء، وألغيت أخري، وشعرت بأنه من الممكن نشرها بعد معالجتها باعتبارها وثيقة قد تكون مفيدة أو مهمة لفترة ما من الفترات.

* أشعر بعدما قمت به من معالجات أنها لم تعد تقتصر علي كونها يوميات وإنما اشتملت أيضاً علي سؤال الإبداع؟

- نعم لم تكن يوميات تسجيلية للحياة اليومية بقدر ما كانت أيضاً رصداً وتأملاً لرحلة التكوين وتشكيل الوعي، كما كانت رحلة للبحث عن أشكال وأطر مغايرة للكتابة وفنياتها.

* في هذه اليوميات وجدنا حضوراً ملحوظاً لوالدك، فإلي أي حد لعب دوراً في هذا التكوين المعرفي؟

- بالطبع لعب دوراً في تكويني من زاوية طبيعة تكوينه كبرجوازي مستنير ومثقف ومتدين في اعتدال، وكثيراً ما كان يلح علي بفكرة (ضرورة إعمال العقل) فكان لا يتلقي الأشياء باعتبارها مسلمات، فلم يكن ضد التفكير حتي وإن صاحب هذا التفكير شطحات.

* مثلما أخذت منك سنوات الاعتقال، فقد أعطتك أشياء وهذه الأشياء جميعها كان متعلقاً بمسارك الإبداعي، ونكاد نقول إن تشكلك
المعرفي تدين به لسنوات الاعتقال؟

- من الناحية الفكرية، كنت قد ارتبطت بالحركة الديمقراطية للتحرر «حدتو» وكان انتمائي يحركه حماس الشباب دون تدبر في الأفكار النظرية والفلسفية، وقد ساعدتني فترة السجن علي التعمق في هذا الجانب حيث التفكير ملازم للقراءة، مما أكسب قناعاتي قوة، أما الجانب الآخر لتجربة المعتقل فهو الاحتكاك بالآخرين حيث المئات من أساتذة الجامعة والصحفيين والعمال والفلاحين، وعلي قدر هذا التنوع كان التميز وكانت معانقة الحياة وفهمها، فكل هذه الطوائف تشكل في مجملها أطياف الحياة، ولعل احتكاكي اللصيق بهذه الأنماط الإنسانية قد أعطي عمقاً لفهمي للشخصية الإنسانية، أيضاً علمتني سنوات المعتقل الاعتماد علي النفس، وكيف أقوم بالغسيل وإعداد الطعام، وهذه طقوس حياتية يومية تعاملت معها متضرراً في البداية، لكنها ظلت ملازمة لي حتي الآن، حتي أنني أجد متعة في دخول المطبخ والقيام بأعمال النظافة فيه، وأجد فيها امتصاصاً لشحنات عصبية فائضة.

* هناك أبطال في أعمالك، نجد ملامحها مجتمعة بمثابة تجميع لملامحك الشخصية والمعرفية مثل (رمزي بطرس) و(شكري) في
«أمريكانلي» إلي أي حد يصح هذا التصور؟

- هذا أمر طبيعي وأنت حينما تختلق شخصية ما أو تكتب عن حدث معين فإنك تجد نفسك مستعيناً بتجاربك وبخبراتك الشخصية، ولابد من وجود ظلال لشخصيتك أو لبعض من ملامحك في الأعمال التي تكتبها، وهذا متحقق لدي سائر الكتاب، فروائي مثل إبراهيم عبدالمجيد حينما يكتب عن صيد اليمام لابد وأن يكون قد مر بالتجربة، وبهاء طاهر حينما يكون قد أمضي فترة طويلة من حياته في جنيف فلابد أن تتسرب تجربة الغربة لكتاباته، ولكن وجود هذه الظلال لا يأتي علي نحو مباشر لأننا لا نكتب سيراً ذاتية وإنما روايات.

* هناك أكثر من سؤال حول «وردة» هل نعتبرها تجسيداً لفكرة الصراع علي السلطة، أم هي استثمار روائي للهامشي والدرامي في التاريخ، أم أنها حوار متصل بين الحاضر والماضي، أم هي مراجعة للثورة العربية في عمان؟

- هي كل ذلك، وأحد جوانبها هو تجلِّ لتاريخ حركة القوميين العرب، كما أنها تجسيد لفكرة التحول السياسي لدي بعض الناس، من التعصب القومي إلي الماركسية والناصرية، أما الجانب الثالث في الموضوع، فيمكن اعتبار «وردة» أيضاً قراءة لهذه الفترة، لكنها ليست مجرد تأريخ، فلقد كنت واعياً لإمكانية أن تستفيد القوي الوطنية في المستقبل من مثل هذه التجربة، وكانت مشكلة الحركة القومية في (ظفار) هي وجود نوع من التعصب أو التقلب بين التيارات السياسية، كما يمكن اعتبار «وردة» نموذجاً دالاً علي عواقب التضارب والتناحر بين التيارات.

* بناء علي هذا يمكن اعتبارها قصة ثورة في محك المراجعة.. نهاية من تكون وردة هل هي رمز للثورة؟

- هي قصة شخصية متخيلة، لكنها حقيقية أيضاً وفق المعايير والمقتضيات والمعطيات الروائية، ومنذ أسابيع ماتت في البحرين شخصية نسائية معروفة اسمها «ليلي فخرو» وقد تصور كثيرون أنها «وردة»، لكنها كانت في الحركة، وكان لها اسم في حركة القوميين وهو «هدي» وقد لعبت دوراً مهماً، إنما فيما يتعلق بـ«وردة» فهي شخصية متخيلة أي روائية، لكنها قائمة علي أساس واقعي.

* لفت انتباهي توصيفك للعمل الروائي بأنه كذبة.. ونريد أن نعرف كيف؟

- العمل الروائي «كذبة» لكنه ليس «كذبة» أيضاً، ففي الرواية تقول أشياء لم تحدث، لكنها تعبر بشكل دقيق وأمين ومركز عما يحدث أو عما حدث، فالرواية رديف للواقع، رديف قابل للتصديق، لأنه يستقي مادته من الواقع.

* رغم الضغوط اليومية التي يقع المصريون تحت وطأتها، ورغم التوصيف المخيف والمحبط والقاتم للحالة التي تعيشها مصر، والتي ذكرت تفاصيلها في بيان رفضك لجائزة الرواية عام ٢٠٠٣ فإن هذا الشعب يبدو كأنه مسلوب الإرادة وافتقد آليات الاعتراض، فما الذي حدث للمصريين، فلا النظام يتغير ولا الشعب يعترض، نريد أن نفهم ما الذي طرأ علي جينات المصريين؟

- اسمع.. سيبك من حكاية النظام دي.. فالنظام لايبالي، فقد مر عليه ٢٦ عاماً، وهو وقت كاف لتحجره لا لتحركه، وأصبح كل ما يعنيه أن يدافع عن بقائه ووجوده وهذا كل ما يهمه وليس الشعب.

* بتأمل مضمون عنوان روايتك «أمريكانلي» يحتمل معنيين أن الكلمة جاءت علي وزن «عثمانلي» وهي إمبراطورية سطعت وتألقت ثم خبت.. وطالها الانحطاط، وبتفكيك العنوان كالآتي «أمري - كان - لي» نجد المعني ينطوي علي فقدان استقلاليتنا.. وانخراطنا في التبعية، أما المضمون فهو يمضي تماماً بالتوافق مع المعنيين، فهل تشير إلي تجربة بعينها.. تحضرني مقولة ابن خلدون في مقدمته، التي تقول بأفول الإمبراطوريات الكبري بعد بلوغها الذروة؟

- نعم.. تماماً فأمريكا فرضت نفسها علي العالم، بكل الطرق، بالقوة تارة وبالأكاذيب تارة أخري، وبلعبة المصالح تارة ثالثة، وبالشعارات تارة رابعة، وأتفق معك فيما ذهبت أنت إليه في الاستشهاد بمقولة ابن خلدون حيث لكل إمبراطورية مداها التاريخي الذي تبلغ ذروته ثم تبدأ في التراجع والأفول، ويمكن أن تصل البشرية أيضاً إلي نقطة عدم وجود أي إمبراطوريات، ولعل أمريكا ستكون آخر هذه الإمبراطوريات، ولكن سيبقي منطق المصالح المشتركة والمنفعة المتبادلة بين الأمم.

* في حيثيات حصولك علي جائزة مؤسسة ابن رشد في ألمانيا، وردت عبارة تقول: «إن هذا الكاتب الوطني دأب علي مهاجمة أنظمة الاستبداد في العالم العربي» وقد بدا الأمر، أن حصولك علي هذه الجائزة جاء لمجرد أنك تهاجم هذه الأنظمة لا لأنك روائي متفرد أيضاً وصاحب مشروع روائي؟

- «ماتبالغش قوي كده..» إنما كانت هذه عبارة بين عبارات وأسباب أخري في حيثيات حصولي علي الجائزة، وإنما أراد مانحو هذه الجائزة أن يقولوا إنني كاتب صاحب موقف، وأن هذا ملمح من بين ملامح أخري تميز مشروعي الروائي، والدليل أن هناك كتاب آخرين حصلوا علي الجائزة ذاتها دون مبررات سياسية، وإنما هناك مبررات أخري لحصولنا جميعاً علي هذه الجائزة، ومنها أن أدبنا لصيق جداً بالهم الإنساني المعاصر.

* للدكتور يوسف إدريس وقفة مهمة معك في أول مسيرتك الإبداعية، لنتوقف عندها لنعرف كيف تعامل يوسف إدريس مع جيلك؟

- أولاً، جيلنا كان مهتماً جداً بالمشروع القصصي ليوسف إدريس، حيث كان يمثل لنا تجربة جديدة تماماً تجاوزت كل الأطر والأشكال القصصية المتعارف عليها، وقد جاوزت تجربته كل الأنماط التي كانت سائدة قبل تجربته، حتي أننا كنا نتلقف جريدة «المصري» كل صباح لنقرأ قصته فيها، إذ كان يمثل لنا تجربة جديدة كسرت كل «التابوهات» الفنية وقدم قصصاً حية وبسيطة وكاوية ومتقاطعة مع الحياة، وقد سعينا للتعرف عليه، وقامت بينه وبين جيلنا علاقة قوية وطويلة الأمد، وكنا نطلعه علي أعمالنا، وفيما يتعلق بوقفته معي التي تسأل عنها، فكنت قد أطلعته علي مجموعة من قصصي القصيرة فرحب بها، وكان بين هذه القصص قصتان أو ثلاثة عن شخصية أحاول تجسيدها قصصياً اسمها «خليل بيه» فرحب بها جداً، كما كانت له وقفة مهمة أخري معي، إذ كتب لي مقدمة «تلك الرائحة» وفي السياق أعرب عن إعجابه بشخصية «خليل بيه».

* المدهش في الموضوع، أنه بعد مرور أربعين عاماً علي هذه المقدمة، وعلي «خليل بيه هذا» وجدناك تقوم بإحياء شخصية خليل بيه من جديد؟!

- نعم ولكنني منحتها مزيداًمن الخبرة والأبعاد وعالجتها بكثير من التعمق، ويمكنك أن تعتبرها امتداداً للشخصية القديمة، في محك ما طرأ من تحولات.

* رغم تحمس يوسف إدريس لتجربتكم فإنه عاد وتبرأ منها فيما بعد في روايته «البيضاء»؟

- رواية «البيضاء» تمت كتابتها في ظروف خاصة، فلقد كان هناك موضوع يؤرق يوسف إدريس بعد اعتقالات ١٩٥٩، وكان يعمل حينها في «الجمهورية»، ونشرها علي حلقات، كنوع من الدفاع عن النفس وكنا نقرأها في السجن ونحن متأثرون جداً وكون أن هناك رؤية سلبية للشخصية الطليعية في الرواية، فهذا حق مكفول لأي كاتب، لكنه لا يعني بالضرورة أنه انقلب علي موقفه من تجربتنا، أو حتي تجربة جيله.

* لك تجربة سينمائية وحيدة وفريدة قمت فيها بالتمثيل في فيلم من إخراج السوري محمد ملص، لماذا لم تكررها؟!

- تعرفت إلي المخرج محمد ملص حينما كان طالباً في معهد السينما في موسكو، وكنت وقتها هناك، في منحة دراسية، وطلب مني التعاون معه في مشروع التخرج فشاركت معه، في كتابة السيناريو وقمت بالتمثيل فيه وهذه التجربة أرهقتني، وشعرت أن هذا الأمر أكبر من طاقتي ولن استطيع القيام به مرة أخري.

* لم تكن الرواية هي الشيء الوحيد الذي وصفته بأنه أكذوبة، ولكنك وصفت أسامة بن لادن بنفس الوصف؟

- نعم أسامة بن لادن أكذوبة صنعتها أمريكا، وتستخدمه ككارت في الوقت الذي تحتاجه، كمبرر لممارساتها في المنطقة، كما تستخدمه كفزاعة للأنظمة العربية، للتغطية علي المخطط الأمريكي الكبير فنجد مثلاً «الجزيرة» فجأة تبث له شريطاً مجهول المصدر، وغرض أمريكا من هذا أنها تريد للعالم العربي والغربي علي السواء أن يستشعروا معها خطورة ما وصفته بالإرهاب، وأن هذا الخطر الماثل دائماً، مصدره الوحيد هو العالم العربي، للحصول علي صك موافقة عربي لاستهداف أي بلد عربي أو إسلامي.

* باعتبار أن «بن لادن» ظاهرة إسلامية، فإنه يهمنا رأيك في صعود ثمانية وثمانين من الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية لدورة ٢٠٠٥م، وما يمثله هذا الصعود من دلالات سياسية وفكرية؟

- .. «وإيه يعني لما يوصل الإخوان إلي البرلمان؟!» هذا لا يمثل مصدر خوف لي أو لغيري، وأنا مع صعودهم إذا كان هذا الوصول نتيجة اختيار شعبي حر، أنا لست ضد وصول أي تيار أو أي كيان سياسي للبرلمان أو حتي للسلطة مادام هذا كان نتيجة اختيار شعبي حر.

* وماذا لو وصلوا للسلطة، وخرج من بينهم وزير للثقافة وآخر للإعلام وثالث للسياحة ألن يجعل هذا سقف الحريات أكثر انخفاضاً؟

- هل تعتقد أنت أن مصر وشعبها سيتقبلون هذا؟ أليس من الممكن أو المحتمل أن تحدث جماهيرية الإخوان تغييراً في منهجهم وفكرهم؟ ولذلك فإننا نطالب دائماً أن تكون هناك ديمقراطية حقيقية لأن وجودها سيتيح المجال لأطياف سياسية أخري، لكن من اختاروا الإخوان قد اختاروهم لأنه لم تكن هناك خيارات أخري أمامهم إما الاستبداد أو الإخوان فاختاروا الإخوان لأنهم لا يصدقون النظام.

وصفت مصر في أحد أحاديثك بأنها بلد مستعمر، أي استعمار تعني والذين يحكمونها مصريون أبناء مصريين؟

- إنهم يحكمونها منذ ربع قرن، وهذا أحد أشكال الاستبداد، وهناك صور أخري للاستبداد، تتمثل في قواعد ممنوحة، واتفاقيات وتنازلات لا نعلم عنها شيئاً، وظاهر الأمر أن هناك تورطاً مصرياً مع أمريكا في ممارساتها العدوانية، هذا فضلاً عن السيطرة الاقتصادية عليها، من خلال المعونات المشروطة بالإذعان السياسي والمشروطة بدورة مالٍ مفادها أنه لا يتم شراء أي سلع بأموال المعونة إلا السلع الأمريكية، وفوق هذا فإن مصر تلعب دور الوسيط الأمريكي في المنطقة.

* لفت انتباه البعض موقفك الذي بدا متناقضاً مع الأمريكيين، ففي الوقت الذي كنت تعمل فيه استاذاً زائراً بجامعة «بركلي» بالولايات المتحدة، رفضت فيه جائزة الجامعة الأمريكية بالقاهرة عن الرواية؟

- أولاً الجامعة الأمريكية بالقاهرة تابعة بشكل مباشر للحكومة الأمريكية، لكن جامعة «بركلي» مستقلة، أيضاً فإن الجامعة الأمريكية في القاهرة تلعب دوراً تم التخطيط له بعناية فائقة لغرض تحقيق هيمنة الثقافة الأمريكية، فأين يكمن التناقض إذن؟!

* هل تحلم بعودة عهد عبدالناصر؟

- لم نكن في حاجة لعبدالناصر في أي وقت مثلما نحن في حاجة إليه هذه الأيام، وبالفعل فإنني أحلم بعصر مشابه، ولكن بشرط أن يخلو من الملاحقة البوليسية، وقمع الرأي المخالف، فوجود زعيم مثل عبدالناصر في هذا العصر من شأنه أن يحقق مشروع نهضة جديداً وأن يدافع عن الفقراء، وأن يحقق العدالة الاجتماعية، ويقضي علي الفساد الذي استشري بشكل مخيف، ويحقق الانضباط ويوقف التسيب والتساهل والتستر علي النهب في المؤسسات الحكومية، وأن يوقف مظاهر السَّفَهْ والإسراف، وأن يقيم الصروح الصناعية الكبري التي لا تجعلنا نمد يدنا للغير ونذعن لشروطه.
وإلي أين ستقودنا اللحظة المصيرية الراهنة وأي مستقبل ينتظر مصر والمصريين؟

- كل عاقل في هذا البلد، يتمني أن تتجنب مصر الكارثة والحريق المهول الذي يقودنا إليه النظام الحاكم الحالي.

* ما طبيعة هذه الكارثة، وهذا الحريق؟

- ستكون في شكل تمرد أو ثورة فوضوية الطابع، وتأتي علي الأخضر واليابس وكل عاقل يتمني أن تتجنبها مصر، بأن يقبل النظام الحالي بفكرة إرساء ديمقراطية حقيقية، وتعددية حقيقية، وتداول سلطة حقيقي، وتخل عن المشهد السياسي ورفع قبضته عن خيرات البلاد ومواردها، وتصد بحسم للفساد ويعاقب المفسدين، وما لم تكن لديه رؤية استراتيجية واضحة للمستقبل و«طول ما هو رافض» لكل هذا فنحن بانتظار كارثة
حوار ماهر حسن ٢١/٨/٢٠٠٧
المصرى اليوم

Saturday, August 18, 2007

العلمانية هي البديل عن الحرب الأهلية في العالم العربي

المفكر السوري صادق جلال العظم: العلمانية هي البديل عن الحرب الأهلية في العالم العربي

إعادة طباعة «النقد الذاتي بعد الهزيمة» رغم مرور 40 سنة على النكبة

صادق جلال العظم يعود إلى الهزيمة بهدف الانتصار

> ربما يتساءل البعض: ما الهدف من إعادة طباعة كتاب "النقد الذاتي بعد الهزيمة" رغم مرور أربعين عاما على هزيمة حزيران؟

- ما زلنا نعاني نتائج الهزيمة، ولم نر حتى الآن أي معالجة حقيقية وجدّية للأسباب العميقة لها. ما أراه هو ضرورة إصلاح البنى الاجتماعية والتعليمية والتربوية وليس الإصلاح العسكري هو المطلوب. فمن خلال خبرتي الطويلة في التدريس، وجدت أن عددا كبيرا من الشباب لديهم معرفة قليلة جدا عن تاريخ سورية من زمن الاستقلال إلى الآن. والحقيقة أن الأجيال التي جاءت بعد عام 1967 لا تملك أي معلومات حول الشروط والظروف وتسلسل الأحداث التي أدت إلى مثل هذه الهزيمة، باستثناء قلة من الباحثين أو المفكرين الذين يتابعون هذا الموضوع. وإعادة نشر الكتاب ربما هي مجرد خطوة صغيرة لسد هذه الثغرة. أضف إلى ذلك أن الكتاب يستخدم تعبير النقد الذاتي، وهو تعبير نادر في الثقافة العربية. كما أنه أول عمل استخدم مصطلح "الهزيمة" بدل "النكسة"، وإن كنت أرى أن مصطلح الهزيمة غير كافٍ للتعبير عما حدث خلال عام 1967، لأن ما حدث هو أشبه بانهيار فاق كل التوقعات، حتى أن بعض المثقفين العرب، وأنا منهم، أصيبوا بمس من الجنون من هول الكارثة، وبدأوا يبحثون عن كيفية ترميم ما حدث. >

هل النقد الذاتي يشكل مخرجاً في الوقت الراهن؟ -

نحن بحاجة دائما للنقد الذاتي، خاصة في غياب الحريات العامة. لكن ممارسة النقد الذاتي أو غير الذاتي في ظل هذا الواقع مسألة صعبة جدا. كما أن إعادة التقييم وتصحيح الأخطاء على ضوء النقد ليست عادة مترسخة أو قوية لدينا، لكنها توجّه ضعيف وهزيل يمارسه قلة من المثقفين. والاتجاه الطاغي الآن هو أننا دائما ضحايا ومغلوب على أمرنا وقوى أكبر منا دائما تتحكم بنا، وذلك لإسقاط مسؤولية الفشل عنا نحن العرب. > تدعو إلى ايجاد مراكز للبحث العلمي في العالم العربي على غرار مؤسسة "وايزمان" الإسرائيلية. في المقابل نجد مراكز أبحاث عربية كـ"مركز دراسات الوحدة العربية" تعاني الإفلاس، في حين يتسابق رجال الأعمال العرب لتمويل برامج منوعة مثل "ستار أكاديمي"، ما رأيك بذلك؟ - هذا صحيح، هناك مراكز دراسات عربية كـ"الوحدة العربية" و"مؤسسة الدراسات الفلسطينية" التي تحوي كتاباً كباراً مثل وليد الخالدي تعاني من ضائقة مالية كبيرة. والسبب أن هذه المؤسسات ليس لها علاقة بالسلطة الحاكمة، لذلك فهي لن تلقى دعم الحكومات العربية. في المقابل، نجد هناك نزوعا لمراكز دراسات استراتيجية، لكن هذه المراكز تتحول في العادة إلى مؤسسات رسمية غير منتجة. في حين يخلو العالم العربي والإسلامي من مؤسسات للبحث العلمي، خاصة في مجال العلوم الطبيعية.

> طرحت مفهوم "الاشتراكية العلمية" كحل وحيد للخروج من الأزمة. هل ما زلت تؤمن بالاشتراكية العلمية بعد فشل هذه التجربة في عدد من البلدان الاشتراكية، وعدم تطبيقها عربيا إلا بشكل نظري؟

- القضية ليست قضية إيمان، بل هي قناعات وسياسات يعاد النظر بها وتُعدّل وفقا للشروط والظروف. جزء من نقدي هو نوع من تحديد للفجوة الهائلة بين ادعاء الاشتراكية وتطبيقها. نحن ليس لدينا اشتراكية في العالم العربي، في حين أن التجربة الاشتراكية حققت أهدافها في البلدان الاشتراكية بمعنى أنها نقلت دول أوروبا الشرقية من دول "عالم ثالثية" إلى مستوى قريب من الدول المتقدمة علميا وثقافيا وإنتاجيا بالدرجة الأولى. >

في رأيك، ما هو الحل الآن بالنسبة للعالم العربي؟

- ليس هناك حل واحد، بل مجموعة حلول. هناك حل لبناني وحل سوري ومصري، لأن كل دولة لها مكوناتها المختلفة عن الأخرى وإن تشابهت في بعض الأمور. لا نستطيع القول الآن بحتمية الحل الاشتراكي الذي طرحه عبد الناصر وجماعة حزب البعث. وهم كانوا يقولون: إن التغلب على التخلف لن يكون إلا عبر حل اشتراكي في دول العالم الثالث، لكن هذا كان مجرد شعارات فقط.

> تقول ديمة ونوس في مقدمة الطبعة الثاني لكتاب "نقد الفكر الديني": "إن الدور التنويري للمثقفين العرب كرد ممكن على الهزيمة، تراجع لمصلحة الحركات الإسلامية الأصولية التي شكّلت البديل الوحيد المتاح للشعوب العربية، تعويضاً عن القمع والممارسات غير الشرعية للأنظمة الشمولية، ما أسهم في تداعي الحياة السياسية والاجتماعية، وفي خنق آخر حفنة أمل بالتغيير الديمقراطي والإصلاح"، ما رأيكم بذلك؟

- أنا أؤيد تشخيص ديمة وأضيف عليه: إن حركة التحرر العربي في تلك الأيام انهارت انهيارا مفاجئا ترك فراغا هائلا، فدخلت القوى الأصولية والدينية لملء الفراغ. أضف إلى ذلك، أن غياب أي برامج تطويرية أو إنتاجية إضافة إلى فساد الأنظمة العربية بمستويات عالية، أفسح المجال أمام حركات دينية مثل حماس في فلسطين والإخوان المسلمين في مصر. ونالت هذه الأخيرة شعبية كبيرة بسبب لجوء الناس إلى الدين، نتيجة الهزائم المتكررة التي لحقت بالعرب. > ربما هذا ما يفسر الآن لجوء عدد كبير من الشباب العربي إلى الدين للهروب من الواقع الاقتصادي السيئ. - نعم، هناك جو عام يجعلك تلجأ إلى التطرف والتشدد في القضايا الدينية، وفي الحالات القصوى تصل إلى "الطالبانية". هو نوع من الهروب المخدّر الذي يساعد الشباب على استعادة توازنهم مع غياب أي بدائل وطنية، رغم أن رجال الدين أنفسهم لا يملكون بدائل أو حلولا، وكلامهم مبني على عواطف ومشاعر مستمدة من الإسلام. والدليل على ذلك أن الثورة الإسلامية في إيران لم تقدم حلولا، لبعض المشاكل التي كانت موجودة منذ زمن الشاه.

> نلاحظ الآن أن أغلب المفكرين المتنورين يواجهون هجوما عنيفا من قبل بعض المتشددين، وكانت لديك تجربة كبيرة في هذا المجال، وتعرضت للسجن عقب صدور كتابك "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، ما السبب برأيك؟

- تعرضت في فترة الستينات والسبعينات لنقد كبير، لكن عندما أراجع كتابات خصومي الذين نقدوني أشعر بنوع من الفخر،لأنهم كانوا يحاولون التعبير عن قناعاتهم ويناقشون بشكل منطقي، ويريدون الاحتكام إلى أشياء غير العنف والتكفير والإلغاء كما يحدث الآن. في تلك الفترة كان النقاش صحياً أما اليوم فهذا النقاش أصبح شبه مستحيل.

> لكن ألا ترى معي بالمقابل أن بعض الماركسيين القدامى خلعوا عباءاتهم ليرتدوا عباءات أخرى علمانية أو حتى أصولية.

- هذا صحيح. القسم الأكبر من الماركسيين بعد فشل التجربة الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفياتي رجعوا لخط الدفاع الثاني وهو قيم الثورة البرجوازية. ونحن كماركسيين كنا نعتبر أننا ندافع عن قيم أكثر تقدما من قيم الثورة البرجوازية الفرنسية والثورة الليبرالية، قيم مثل حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وتداول السلطة، وأرى أن قسما كبيرا من المثقفين والمنظرين الماركسيين عادوا للدفاع عن هذه القيم في وجه زحف "قُروسطي طالباني". وأعتبر نفسي اليوم في موقع الدفاع عن علمانية الدولة وديمقراطيتها واحترام حقوق الإنسان، وأعتبرها المعركة الأهم على المستوى السياسي. هناك معركة أخرى هي معركة التحول إلى اقتصاد إنتاجي، ونرجو من الأنظمة الحاكمة أن تقتنع بأهمية هذا المخرج الوحيد، لأننا الآن مواجهون إما بقانون الطوارىء وإعلان الأحكام العرفية أو نموذج طالبان.

> في معرض الحديث عن العلمانية، ثمة تعاريف كثيرة لها، كيف تعرف أنت العلمانية؟ -

عرّفت العلمانية مرارا بأنها: الحياد الإيجابي للدولة إزاء الأديان والمذاهب والإثنيات التي يتألف منها المجتمع. وهذا التعريف يناسب العالم العربي، وأعتقد أننا إذا لم َنسِر في هذا الاتجاه، فالبديل هو حرب أهلية. في العراق مثلا لا تستطيع الدولة تطبيق الشرع الشيعي أو السني أو المسيحي، لذلك فالحل هو في تطبيق قانون محايد، هو القانون المدني. وإذا لم يريدوا كلمة حكومة علمانية نقول حكومة مدنية لأن البديل عنها هي حرب أهلية.

بعض المفكرين الإسلاميين يقولون: إن العلمانية في العالم العربي ابتدعها نصارى الشرق لمساواتهم كأقلية مع المسلمين، ما رأيك بذلك؟ -

أنا مع المساواة بين المواطنين سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو غير ذلك، كما أن هذا لا يقلل من شأن العلمانية في حال ابتدعتها الأقليات المسيحية أو غيرها. في الهند مثلا أكبر مدافع عن علمانية الدولة الهندية هم المسلمون لأنهم أقلية. لنفترض أن الدولة الهندية أرادت أن تعامل الأقلية المسلمة في بلدها كأهل ذمة، لا يخدمون في الجيش ويدفعون الجزية، هل سيقبل العالم الإسلامي ذلك؟ لكن المسلمين في المقابل، عندما يكونون أكثرية ليسوا على استعداد ليمنحوا نفس المساواة للأقليات الدينية الأخرى، ويتهمون الغرب في نفس الوقت بأنه مزدوج المعايير، وهم لديهم معايير عدة. فمثلا المسلمون في الهند هم مع العلمانية، لكنهم في مصر يريدون دولة إسلامية، وفي إيران دولة إسلامية شيعية. >

يلجأ بعض المفكرين ومنهم جورج طرابيشي إلى اعتبار العلمانية "إشكالية إسلامية - إسلامية" قبل أن تكون إسلامية-مسيحية. بمعنى آخر أننا في البداية علينا حل مشكلة الطوائف بين المسلمين قبل أن نفكر بحلها بين الأديان، ما رأيك بذلك؟

- أعتقد أنه في مجتمع متعدد الطوائف والأديان مثل سورية ولبنان والعراق ومصر، إذا لم تكن المواطنة هي الأساس فالبديل هو الخراب. وهذا كاد أن يحدث في مصر في إحدى الفترات حين اعتبر الإخوان المسلمون أن المسيحيين هم أهل ذمة، لذلك يجب ألا يخدموا في الجيش ولا يمكن اعتبار قتلاهم شهداء، ويجب عليهم في المقابل أن يدفعوا جزية. لذلك أعتقد أنه ليس من مخرج سوى القبول بفكرة المواطنة أمام القانون، أي تطبيق الإسلام على طريقة تركيا.

> لكن هل يمكن تطبيق النموذج الإسلامي التركي في العالم العربي؟

- لا يمكن تطبيقه كما هو، لكن يمكن الاستفادة والتعلم منه، لأن النموذج التركي له خصوصيته. وتركيا هي البلد الوحيد الذي استطاع أن يجمع بين أمرين: تاريخ طويل من العلمانية المتشددة، وبنفس الوقت أنتجت هذه العلمانية حزبا إسلاميا ديموقراطيا حقيقيا قادرا على استلام السلطة عبر انتخابات حرة نزيهة، لا غبار عليها. وهو مستعد في حال خسر الانتخابات أن ينسحب ويصبح معارضة، ويعيد ترتيب نفسه ليستلم السلطة في المستقبل. وهي حالة فريدة في العالم الإسلامي، وهنا تكمن أهمية علمانية الدولة التركية، أنها سمحت لنمو وتطور الإسلام السياسي التركي لكي يتحول إلى حزب ديمقراطي. وهذا ما لم يحدث في أي بلد إسلامي آخر.

> وكيف يمكن الاستفادة من هذه التجربة عربيا؟

- هناك بعض الحركات الإسلامية في العالم العربي، استفاد من التجربة التركية كحزب الاخوان المسلمين في مصر الذي وضع برنامجاً لإصلاح الدولة والاقتصاد، متأثرا إلى حد كبير بالتجربة التركية. وهناك محاولات أخرى في مصر لتشكيل أحزاب إسلامية على طريقة حزب العدالة والتنمية في تركيا وهو ما يفعله منتصر الزيات الآن. لدينا أيضا حزب الوسط المُحارب من قبل الحكومة والإخوان التقليديين. وبذلك نستطيع القول: إننا نلمس نوعا من المخاض لتيارات إسلامية سياسية تعيد النظر بنفسها بعد العنف الذي مارسته لسنوات طويلة. >

هل يمكن القول بإمكانية انسجام الإسلام، في الوقت الحالي، مع مصطلحات مثل العلمانية والديمقراطية والعلم الحديث؟

- أعتقد أن الإسلام التاريخي العملي والحياتي، قادر على الانسجام معها، لأنه انسجم في وقت سابق مع مجتمعات البداوة والإمبراطورية، كما انسجم فيما بعد مع الدولة الصناعية الحديثة. لكن إذا أخذت الإسلام بمعنى انه نظام مثالي مغلق، فعندها لن ينسجم إلا مع نفسه. وبعض الناس لا يتحدثون الآن عن الإسلام الواقعي التاريخي والمعاش، لكنهم يتحدثون فقط عن مجموعة مبادىء مثالية. وبرأيي أن هذه المبادىء المثالية هي للملائكة وليست للبشر، لأنهم لا يستطيعون تطبيقها، وقد قلت ذلك للشيخ القرضاوي في حوار سابق معه.

> ما رأيك بمحاولات بعض المفكرين الإصلاحيين أمثال فاطمة المرنيسي ومحمد شحرور ونصر حامد أبو زيد لتطوير الفكر الإسلامي؟

- أحترم جميع هذه المحاولات، وتربطني علاقة جيدة ببعض هؤلاء المفكرين. لكن القضية تكمن في أن عملية الاجتهاد في تحديث الإسلام وتطوير أفكاره، تخرج من جماعات وأفراد من خارج المؤسسات الدينية التقليدية التي تنتج عادة رجال الدين. ومثالنا على ذلك، الأفكار الهامة التي طرحها نصر حامد أبو زيد لكنهم كفّروه وسفروه من مصر وهو يقيم الآن في هولندا. هذا إضافة إلى أفكار محمد شحرور وسيد القمني الذي أسكتوه، وفرج فودة الذي قتلوه، في حين نرى أن المؤسسات الدينية التقليدية كجامعة الأزهر والزيتونة وكليات الشريعة، تعاني حالة من العقم والتكرار والتلقين. ولا يقف الأمر عند ذلك، بل تعاني هذه المؤسسات من حالة انحدار كبيرة، بدأنا نلمس بوادرها في فتوى إرضاع الكبير والتبرك ببول النبي وحديث الذبابة. كما أن فكرة التقريب بين المذاهب التي يطرحها البعض، تأخذ طابعا خطابيا يفتقر إلى المعالجة الحقيقية للمشكلات القائمة. والبعض يقول نحن متفقون في الأصول لكننا مختلفون في الفروع، لكنني أعتقد أن الاختلاف يكمن في كل شي حتى في الأذان. وأرى أن التغيير الحقيقي في الفكر الإسلامي لا يمكن فرضه من الخارج، إذا لم ينبع من المؤسسات الدينية التقليدية التي يجب أن تقوم بحراك جدي لمواجهة مشكلات العصر الحقيقية

دمشق، حسن سلمان

الشرق الاوسط اللندنية