Saturday, March 24, 2012

رحيل محجوب عمر (رؤوف نظمي) بعد رحلة نضال عربية

نعت القيادة الفلسطينية السبت المفكر المصري د. رؤوف نظمي عبد الملك المعروف باسم (محجوب عمر) صاحب كتاب "حوار في ظل البنادق". 
وتوفي محجوب في الساعات الاولى من صباح السبت في "مستشفى فلسطين" بالقاهرة عن عمر يناهز الثمانين عاما بعد صراع مع المرض لسنوات.
والراحل طبيب مصري قبطي من مواليد محافظة المنيا بصعيد مصر عام 1932 ومن مناضلي الحزب الشيوعي حتى سنة التحاقه بالثورة الفلسطينية عام 1967.
وقبلها شارك في ثورة الجزائر مقاتلا وطبيبا قبل توجهه الى الاردن.
وكان محجوب مقربا جدا من القيادي الفلسطيني خليل الوزير (ابو جهاد) الذي اغتالته اسرائيل في تونس، وكذلك من الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (ابو عمار). 
محجوب عمر 
كان د. رؤوف مناضلا من طراز فريد لجيل من المناضلين اليساريين المصريين الذين اصطدم بهم نظام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
وبعد خروجه من معتقل الواحات، كان قراره أن "النضال الصحيح" هو ضد الاستعمار وبما ان مصر تحررت من الاستعمار الانجليزي توجه الى الجزائر لينخرط في صفوف الثورة الجزائرية كمقاتل وطبيب.
بعد ذلك توجه الى الاردن ليلتحق بالثورة الفلسطينية الفتية ضد الاحتلال الاسرائيلي، وخرج مع المقاومة بعد احداث "ايلول" عام 1970 من الاردن الى لبنان.
وفي بيروت تركز عمله في مركز الدراسات الفلسطينية الذي قصفته اسرائيل فقتل عدد من رفاقه لكنه نجا باعجوبة ودفن رفاقه بيديه.
بعد الخروج الفلسطيني من لبنان عقب حصار بيروت عاد محجوب الى مصر ليؤسس لعمل فكري وبحثي فلسطيني واضاف لاسمه الحركي اسما اخر اخذ يكتب به في مصر وخارجها وصار يعرف به " محجوب عمر".
ورغم تاريخه اليساري كان محجوب شخصا توافقيا يعرف كيف يفتح القنوات مع كافة التيارات ويبقي عليها بما في ذلك التيار الاسلامي المعتدل.
وكان توجهه العروبي يستند اساسا الى ان القضية الفلسطينية هي الاولى في مقدمة القضايا التي تستحق الجهد النضالي والفكري.
وقالت القيادة الفلسطينية في بيانها: "كان الشهيد القائد (محجوب عمر) مثالا للتضحية والعمل الحركي ومن المفكرين الذين اسهموا اسهامات كبيرة في دفع الثقافة العربية والنضالية في المنطقة الى الامام".
وقالت حركة فتح في بيان تنعي فيه محجوب بثته الوكالة الفلسطينية الرسمية للانباء انه ساهم في "كتاباته وترجماته وخاصة كتابه ’حوار في ظل البنادق‘ في ارساء فكر نير وتقدمي في الساحه العربية وليس فقط الفلسطينية، وكان له مقال اسبوعي في صحيفة الشعب المصرية اسهمت كثيرا في تنوير وبلورة الرأي العام المصري والعربي عن القضية الفلسطينية وتداعياتها الدولية".
واضافت في بيانها: "كما ساهم بشكل كبير في الوصول الى ما وصلت اليه مصر من ثورة شعبية كبيرة للتحرر من الظلم والاستبداد وكان له حضور كبير في المحافل العربية والدولية وقد تم تكريمه من قبل الرئيس محمود عباس بوسام القدس للابداع الثقافي".
احمد مصطفى  - BBC

بكائية فى وداع محجوب عمر


عرفت «محجوب عمر» باسمه الحقيقى «رؤوف نظمى» فى منتصف ستينيات القرن الماضى، ولم يكن قد مضى على مغادرته المعتقل الذى أمضى به ما يقرب من عشر سنوات سوى شهور قليلة، وكان مشغولا بإتمام دراسته فى كلية الطب التى انقطعت خلال السنوات التى أمضاها قيد السجن والاعتقال. وكانت البداية فى يونيو 1954 عندما ظهر شخص يتسمى حركيا باسم «محجوب» على شاشة المراقبات التى كان يقوم بها قسم مكافحة الشيوعية، للخلايا النائمة من «الحزب الشيوعى المصرى» الذى كان قد تلقى ضربة قوية فى فبراير من العام نفسه، شملت الجهاز الفنى الذى كان يتولى طباعة وتوزيع منشوراته ومجلاته وكتيباته السرية، خمد نشاطه بعدها لمدة ثلاثة أشهر، استأنف فى نهايتها إصدار وتوزيع مطبوعاته بغزارة لافتة للنظر، وبعد خمسة أشهر من متابعة حركة تداول المطبوعات، داهمت مجموعات من قوات الشرطة منازل من بينها منزل والده «ميخائيل أفندى عبدالملك» الموظف بالبريد، لتكتشف أن الاسم الحقيقى لـ«محجوب» هو «رؤوف نظمى ميخائيل» وقال والده إنه لا يقيم بالمنزل، ولما كانت المتابعة قد كشفت عن أنه يتردد على غرفة بسطح أحد المنازل بحدائق القبة فقد داهمتها قوة من الشرطة لتجد كميات ضخمة من المنشورات والمجلات والكتيبات الصادرة عن الحزب، وماكينة طباعة وجدت عليها أصل منشور بعنوان «بيان إلى عمال المعمار» ولم تجد «رؤوف» نفسه، فتركت كمينا نجح فى القبض عليه فى الثامنة من صباح اليوم التالى، ووجدت معه بطاقة باسم «محمد زغلول نصير» تحمل صورته، وفى شهادته أمام النيابة، قال البكباشى المقدم «حسن المصيلحى» مدير مكتب الشيوعية إن «رؤوف نظمى» كان الصلة الأولى بين قادة الحزب وبين المستويات الأدنى، وأنه أخذ على عاتقه بعد الضربة التى وجهت إليه فى فبراير 1954، أن يعيد ربط الاتصالات بين خلاياه بالقاهرة، وفى العام نفسه وأثناء محاكمة الإخوان المسلمين فى أعقاب محاولة فريق منهم اغتيال عبدالناصر فى ميدان المنشية، نشرت الصحف أن مباحثات كانت تجرى بين الإخوان والشيوعيين لإقامة جبهة وطنية بينهما، تقاوم اتجاهات مجلس قيادة الثورة نحو إقامة ديكتاتورية عسكرية، وأن ممثل الإخوان فى هذه المباحثات كان «سيد قطب» بينما كان ممثل الحزب الشيوعى المصرى هو «رؤوف نظمى» ولم أعثر على ما يؤكد هذه المعلومة، على الرغم من أن كثيرا من المنشورات التى كان يصدرها الحزب الشيوعى المصرى آنذاك، كانت تلح على تشكيل مثل هذه الجبهة، وتأخذ على الإخوان المسلمين أنهم أيدوا مجلس قيادة الثورة ووقفوا فى صفه، وتدعوهم إلى الانخراط فى جبهة ديمقراطية تعيد الحكم للمدنيين وتطلق الحريات العامة وتستأنف الحكم الدستورى، وتوقف زحف العسكريين على السلطة. وعلى الرغم مما كان ينوء به من هموم ما بعد غيابه الطويل وراء الأسوار، ومنها عودته إلى كلية طب قصر العينى ليكمل دراسته، وبحثه عن مسكن وعن وظيفة، وتفكيره فى أن يتزوج ويكون أسرة، ويرمم ما تهشم من مسيرة حياته، فقد بدا لى «رؤوف نظمى» حين التقيت به لأول مرة، مرحا ومتفائلا ومقبلا على الحياة، لا تعتوره أية مشاعر بالندم على سيره فى الطريق الملىء بالأشواك والأشواق الذى اختاره، أو الأسى للثمن الباهظ الذى دفعه لكى يحقق حلم العدل الاجتماعى الذى تملكه، بل كان على العكس من ذلك لا يزال منشغلا بالقضايا الكبرى، التى كانت تشغل اليسار المصرى والعربى آنذاك، وعلى رأسها العقبات التى تتعرض لها، والتراجعات التى تضطر إليها ما كانت تسمى أيامها بـ«التجربة الاشتراكية فى الجمهورية العربية المتحدة». ومع أن أفكارنا ربما بحكم التفاوت بين الأجيال لم تتطابق تماما، فإننى أعجبت بحيويته العقلية، ومنطقه القوى فى الدفاع عن آرائه، فدعوته للكتابة على صفحات مجلة «الحرية» البيروتية التى كنت أعمل مراسلا لها بالقاهرة آنذاك، وكانت أسبوعية يسارية تصدر عن حركة القوميين العرب فى لبنان، وتهتم وأهتم أنا الآخر بإدارة الحوار، حول وحدة اليسار ومستقبل الاشتراكية الناصرية، فكتب مقالا كان أساسا لمناظرة اشترك فيها كثيرون من الكتاب اليساريين المصريين والعرب.. ومع أنه كان يقف فى الوسط بين اتجاه يجنح لليمين ويؤيد الاشتراكية الناصرية بلا تحفظ، وآخر يتطرف يسارا، ينحو لتوجيه انتقادات عنيفة إليها لا تخلو من حدة، كنت أميل إليه.. فقد أثارت المناظرة انتباه كثيرين كان من بينهم أجهزة الأمن التى لم أعرف إلا فيما بعد، أنها كانت تتابعنى منذ حوالى العام وأن ما أكتبه بقلمى أو ينشر على صفحات «الحرية» من مقالات لكتاب مصريين يساريين، كان موضوعا لاهتمامها البالغ. «ووقعت الطوبة فى المعطوبة»: دعوت «رؤوف نظمى» وآخرين من المختلفين معه، إلى جلسة فى منزلى، لاستكمال المناقشة واستفدت مما دار فى هذه الجلسة، وأنا أكتب سلسلة مقالات بعنوان «الثورة بين المصير والمسير» ما كادت تنشر حتى وجدت نفسى، ومعى كثيرون بينهم «رؤوف نظمى» فى معتقل القلعة، حيث بدأ الضرب بالعصى والكرابيج والسحل على الأرض، والتعليق من الأذرع، بحثا عن مؤامرة إعادة تشكيل الحزب الشيوعى المصرى، الذى كان قد حل نفسه فى عام 1965 وتخيلت أجهزة الأمن أن ما كتبه «رؤوف» ومناظروه وما كتبته كان محاولة لصياغة خط سياسى له يتم على أساسه عودته للنشاط. وكان من بين هذه المقالات، مقال متشدد فى انتقاده لثورة يوليو بتوقيع «محجوب عمر» عذبت لمدة يومين، لكى أعترف بأن كاتبه هو «رؤوف نظمى» لأن الاسم الذى نشر به، جمع بين اسمين حركيين كان «رؤوف» يستخدمهما فى مستويين مختلفين من مستويات التنظيم أيام انغماسه فى العمل السرى، ولم يصدقنى المحقق حين قلت له إن المقال أرسل إلى المجلة عن غير طريقى، وأننى لا أعرف كاتبه. وخلال الشهور التى أمضيتها معه بالمعتقل، اكتشفت أنه يكتب شعرًا جميلا ومميزا بالعامية المصرية، وعاينت عن قرب مواهبه الإنسانية التى كان أبرزها قدرته على بعث التفاؤل فى نفوس من حوله، وخاصة نحن الذين كنا نتعرض لتجربة الاعتقال لأول مرة، وكان يداعبنى قائلا: إنه كان قد اشترى ليلة اعتقاله، صيوانا للملابس لأول مرة فى حياته، وقبل أن يضع ملابسه فيه، اقتيد للمعتقل بسبب ما كتبته مع أنه كان يود لو أنه كتبه حتى لو كانت النتيجة أن يعود للمعتقل الذى أمضى فيه عشر سنوات بعد أقل من عامين على مغادرته له، وفى كل مساء كان صوته يأتينا وهو يغنى بصوت جميل أغنية عبدالوهاب الشهيرة «لما انت ناوى تغيب على طول.. مش كنت آخر مرة تقول»، ثم يهتف: «يمسيكى بالخير يا اللى فى بالى».. وبعد ثلاثة أشهر من مغادرتنا المعتقل وقعت هزيمة يونيو 1967، وبعدها بثلاثة أشهر أخرى كتب فى مجلة «الكاتب» مقالا بعنوان «النضال بلغة أخرى» أعلن فيه أنه فى طريقه للانضمام إلى حركة المقاومة الفلسطينية.. حيث عرفه الناس باسم «د. محجوب عمر» عضو المجلس الثورى لحركة «فتح»، وما كدت أقرأ خبر رحيله عن الدنيا هذا الأسبوع، حتى رنّ فى أذنى صوته وهو يغنى «لما انت ناوى تغيب على طول.. مش كنت آخر مرة تقول» ثم يهتف: «يمسيكى بالخير يا اللى فى بالى»! 

جيفارا المصرى .. محجوب عمر 

بعض الذين يعرفون المناضل محجوب عمر وقرأوا نعيه فى الصحف، لابد أنهم دهشوا عندما عرفوا أن اسمه بالمصرى هو رؤوف نظمى ميخائيل، ولابد أنهم احتاروا أمام دلالات الاسمين.

وبعض الذى يعرفون الدكتور رؤوف نظمى لابد أنهم دهشوا عندما عرفوا أن جميع الناس كانوا ينادونه باسم محجوب عمر، وأغلب الذين يعرفون «الحكيم» لا يدهشهم هذا فلقد كان محجوب عمر أو رؤوف نظمى قديساً من نوع خاص، يقبله الجميع بنورانيته لا يرون فيه ما يسألون عنه، بقدر ما يسمعون منه.

أعرف محجوب عمر منذ نحو خمسين عاماً، أحياناً كنا نلتقى كل يوم، وأحياناً كنا نلتقى كل سنوات، ولكنه دائماً لم يكن يريد شيئاً من أحد، بل كان جاهزاً دائماً لأن يعطى، وغيره فى حالته الصحية أحياناً كان لا يستطيع العطاء أو حتى الأخذ، لكن محجوب عمر لم يكن عاجزاً أبداً عن العطاء.

لا أدرى متى تقابلنا لأول مرة، فى غالب الأمر كان ذلك فى أيام الدراسة، وأظن أن من جمعنا كان الكاتب الصحفى الراحل فيليب جلاب، وكنا جمعياً فى مرحلة الدراسة، كان محجوب فى كلية الطب، وفيليب فى آداب عين شمس، وكنت فى آداب القاهرة.

وأحب أن أضيف إلى الأسماء التى ذكرتها اسماً آخر هو إسماعيل عبدالحكم الذى رحل منذ أعوام وهو ناشر شهير.

أضيف اسمه رغم أنه لم يكن فى تلك اللقاءات العابرة فى البدايات، ولكن ما حدث بعد ذلك بدا قصة تروى.

دخل محجوب - وكان اسمه آنئذ رؤوف - وإسماعيل، معتقل الواحات، وكان إسماعيل زميلاً لى، وإن كان فى قسم آخر هو «الوثائق والمكتبات»، وسقط إسماعيل مريضاً وهو فى الاعتقال، يحدث هذا كثيراً، ولكن حالته ازدادت سوءاً حتى عرفنا بعد ذلك أن وزنه نقص إلى النصف، وكان تشخيص طبيب المعتقل غير صحيح لأن الحالة تسوء، وعندئذ تقدم محجوب بتشخيص قالوا عنه إنه «جنونى»، وبدا أن نهاية إسماعيل قد اقتربت، فلانت إدارة السجن، فهم لا يريدون قتلى فى المعتقل، تتردد أسماؤهم فى وسائل الإعلام العالمية.

وانتهوا إلى إرسال إسماعيل إلى مستشفى قصر العينى بصحبة المعتقل محجوب، لأنه يملك التشخيص «الجنونى»، ولا أحد غيره يستطيع تحمل مسؤوليته، وشرح محجوب الحالة النادرة، وطريقة العلاج لأساتذته الذين تخرج على أيديهم بعد سنوات.

ونجا إسماعيل عبدالحكم من الموت، ولكن أية نجاة؟ لقد أخرجوه من المستشفى ليبقى فى البيت عاماً كاملاً، قال لى إسماعيل إن أسوأ اللحظات كانت لحظات غروب الشمس، فالبيت الذى انتقلوا إليه فى الحلمية الجديدة، حيث كنا جيرانا، كان يطل على مزارع والمنظر فاتن.

لكنه الوقت الذى يهدأ فيه البيت ويظهر شبح الموت، حتى الأصدقاء والأقارب يأتون مساء وربما أتى بعضهم صباحاً، لكن الجميع تركوا الغروب يفترس إسماعيل، لذلك عاش بقية عمره يبحث عن الشارع المزدحم ساعة الغروب.

وبعد 1964 تخرج محجوب عمر وأصبح طبيباً فى أحد مستشفيات الدقهلية، وأصبحت حكاياته طقساً للشلة.. قرر رفض تسلم المواد الغذائية التى قدمها مقاول راش يتعامل عادة مع مدير مرتش، وكان معنى هذا أن يموت المرضى جوعاً.

محجوب عرف أن هناك أطعمة جافة فى المخزن لمثل هذه الحالات طلب هذه الأطعمة، المسؤول فى إجازة! كون لجنة وكسر الباب، قامت التحقيقات، لكنها انتهت على لا شىء.

تواضعت أحلامه الصحية فطلب نظافة المستشفى، ويبدو أن ذلك كان صعباً جداً، وأنه لم يكن يهم غيره، وانتهى الأمر بأنه أتى بأدوات نظافة وبدأ ينظف المستشفى، وقامت الدنيا، كيف أن طبيباً يأتى بجردل وصابون وماء ويمسح الأرض؟!

حتى نقابة الأطباء ثارت لكرامتها وكرامة الأطباء، أما وزير الصحة فلقد أحاله إلى المعاش! واستمر المستشفى فى قذارته.

وانضم محجوب إلى المقاومة الفلسطينية، وعرفنا أن علاقته كانت وثيقة بياسر عرفات وخليل الوزير، وحاول الأستاذ فهى هويدى الذى كان من القلائل الذين كتبوا عنه بعد رحيله، نفى شيوعيته التى دخل بها المعتقل، واستعان بما قاله له عبد القادر ياسين.

ونحن الذين نعرف محجوب عمر منذ أن كان طالباً، نعرف أنه كان رجلا ذا فكر تقدمى، وحتى النهاية لم يكن يرفع شعارات زاعقة، ولا يلجأ إلى نصوص جامدة.

بالطبع تغير محجوب عمر عما كان فى الخمسينيات أو حتى الستينيات، فلقد تأكد أن التجربة كانت مخالفة للنظرية، وأن النظرية والدولة سقطتا بسقوط الاتحاد السوفيتى فى حادث من أهم وأغرب حوادث التاريخ.

وتجربة محجوب عمر فى المقاومة الفلسطينية لم تكتب، وتجاربه كلها لم تكتب، ولكنه كتب عن معركة «الأشرفية» كتاباً أقرب إلى الرواية، كان محجوب طبيباً مع المقاومة، ثم انقلبت السلطة الأردنية على المقاومة، ودخلت فى حرب شرسة ضدها فيما سمى بأيلول الأسود، وأوقف جمال عبدالناصر هذه الحرب فى مؤتمر فى القاهرة مات فى نهايته، وأسر محجوب مع مجموعة من الفلسطينيين، وكان التالى معروفاً، أوقفوهم فى صف واحد، وأصدر القائد أمراً بإطلاق الرصاص عليهم، وعندئذ صاحت فتاة إنه الحكيم عمر الذى عالجهم وتوقف إطلاق النار.

كتب محجوب «الأشرفية» فى كتاب صغير هو من أجمل وأصدق ما قرأت، وبعدها حاولت أن أقنعه بكتابة الرواية ولم يرفض، كان محجوب نهراً يسير كما يريد.

والحياة كالدراما أو العكس، فالتقى محجوب عمر مع إسماعيل عبدالحكم فى بيروت بعد أن خرجت المقاومة الفلسطينية إليها. وأنشأ إسماعيل مع منظمة التحرير، وبمساعدة محجوب، أهم دار نشر للأطفال بالعربية «دار الفتى العربى» واستمر لقاء محجوب وإسماعيل بعد ذلك.

وفيما بعد، كان لإسماعيل مكتب فى شارع قصر العينى، قال لى مشيراً إلى مكتب: هذا مكتب محجوب.

ومرات كنا نلتقى فى هذه الشقة، ونستغرق فى أحاديث شديدة التنوع، وعندما كان يقطع الحديث تليفون أو جرس الباب، كان إسماعيل يقسم بأنه سيقطع الكهرباء عن الشقة، وأظن أننا لو كنا سجلنا الأحاديث التى ملأت هذه الأوقات، لعرف الجميع لماذا كان محجوب عمر يسمى بالحكيم.

عاش نصف عمره يعانى من آلام بشعة، لكنه لا يشكو، بل يتهرب من العلاج، ومع ذلك قدم ما يقدر عليه لمصر وللعرب.

وافته المنية بعد عمر حافل من أجل القضية الفلسطينية.. كان عضوا بالمجلس العسكرى لحركة فتح.. محمود عباس قلده وسام القدس تقديراً لجهوده ونضاله المشرف.

كتب أرنست همنجواى عن جيله «الجيل الضائع» وأعتقد أن جيل محجوب عمر هو الجيل المضيع، هذا الجيل العظيم الذى كان مؤهلاً لأن يقدم لمصر أعظم الأشياء، فوضعوه فى السجون، وحرموه من كل الفرص، هذا الجيل الذى رأى أن القضية الفلسطينية هى قضيته، أذكر منهم رغم قصور الذاكرة سعد زغلول فؤاد الذى شارك فى المقاومة الفلسطينية سواء فى الميدان أو فى بلاد أوروبية، ومصطفى الحسينى الذى كان قائداً لوحدة فلسطينية فى يوم من الأيام، وفاروق القاضى الذى يعيش الآن فى الأردن، هؤلاء وغيرهم شاركوا فى المقاومة الفلسطينية وقبل ذلك وبعد ذلك احترقوا من أجل مصر.

كان جيفار طبيباً اختار الثورة.
وكان محجوب عمر طبيباً اختار الثورة.
نحنى رؤوسنا إجلالاً لهذا.. ولهذا.. ولهؤلاء. 

Sunday, January 01, 2012

(1 )
لا تصالحْ!
..ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..:
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،
حسُّكما - فجأةً - بالرجولةِ،
هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ،
الصمتُ - مبتسمين - لتأنيب أمكما..
وكأنكما
ما تزالان طفلين!
تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي -بين عينيك- ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..
تلبس -فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!
(2)
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
سيقولون:
جئناك كي تحقن الدم..
جئناك. كن -يا أمير- الحكم
سيقولون:
ها نحن أبناء عم.
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرس السيفَ في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
إنني كنت لك
فارسًا،
وأخًا،
وأبًا،
ومَلِك!
(3)
لا تصالح ..
ولو حرمتك الرقاد
صرخاتُ الندامة
وتذكَّر..
(إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة)
أن بنتَ أخيك "اليمامة"
زهرةٌ تتسربل -في سنوات الصبا-
بثياب الحداد
كنتُ، إن عدتُ:
تعدو على دَرَجِ القصر،
تمسك ساقيَّ عند نزولي..
فأرفعها -وهي ضاحكةٌ-
فوق ظهر الجواد
ها هي الآن.. صامتةٌ
حرمتها يدُ الغدر:
من كلمات أبيها،
ارتداءِ الثياب الجديدةِ
من أن يكون لها -ذات يوم- أخٌ!
من أبٍ يتبسَّم في عرسها..
وتعود إليه إذا الزوجُ أغضبها..
وإذا زارها.. يتسابق أحفادُه نحو أحضانه،
لينالوا الهدايا..
ويلهوا بلحيته (وهو مستسلمٌ)
ويشدُّوا العمامة..
لا تصالح!
فما ذنب تلك اليمامة
لترى العشَّ محترقًا.. فجأةً،
وهي تجلس فوق الرماد؟!
(4)
لا تصالح
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ..؟
وكيف تصير المليكَ..
على أوجهِ البهجة المستعارة؟
كيف تنظر في يد من صافحوك..
فلا تبصر الدم..
في كل كف؟
إن سهمًا أتاني من الخلف..
سوف يجيئك من ألف خلف
فالدم -الآن- صار وسامًا وشارة
لا تصالح،
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
إن عرشَك: سيفٌ
وسيفك: زيفٌ
إذا لم تزنْ -بذؤابته- لحظاتِ الشرف
واستطبت- الترف
(5)
لا تصالح
ولو قال من مال عند الصدامْ
".. ما بنا طاقة لامتشاق الحسام.."
عندما يملأ الحق قلبك:
تندلع النار إن تتنفَّسْ
ولسانُ الخيانة يخرس
لا تصالح
ولو قيل ما قيل من كلمات السلام
كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنَّس؟
كيف تنظر في عيني امرأة..
أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟
كيف تصبح فارسها في الغرام؟
كيف ترجو غدًا.. لوليد ينام
-كيف تحلم أو تتغنى بمستقبلٍ لغلام
وهو يكبر -بين يديك- بقلب مُنكَّس؟
لا تصالح
ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام
وارْوِ قلبك بالدم..
واروِ التراب المقدَّس..
واروِ أسلافَكَ الراقدين..
إلى أن تردَّ عليك العظام!
(6)
لا تصالح
ولو ناشدتك القبيلة
باسم حزن "الجليلة"
أن تسوق الدهاءَ
وتُبدي -لمن قصدوك- القبول
سيقولون:
ها أنت تطلب ثأرًا يطول
فخذ -الآن- ما تستطيع:
قليلاً من الحق..
في هذه السنوات القليلة
إنه ليس ثأرك وحدك،
لكنه ثأر جيلٍ فجيل
وغدًا..
سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،
يوقد النار شاملةً،
يطلب الثأرَ،
يستولد الحقَّ،
من أَضْلُع المستحيل
لا تصالح
ولو قيل إن التصالح حيلة
إنه الثأرُ
تبهتُ شعلته في الضلوع..
إذا ما توالت عليها الفصول..
ثم تبقى يد العار مرسومة (بأصابعها الخمس)
فوق الجباهِ الذليلة!
(7)
لا تصالحْ، ولو حذَّرتْك النجوم
ورمى لك كهَّانُها بالنبأ..
كنت أغفر لو أنني متُّ..
ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ.
لم أكن غازيًا،
لم أكن أتسلل قرب مضاربهم
لم أمد يدًا لثمار الكروم
لم أمد يدًا لثمار الكروم
أرض بستانِهم لم أطأ
لم يصح قاتلي بي: "انتبه"!
كان يمشي معي..
ثم صافحني..
ثم سار قليلاً
ولكنه في الغصون اختبأ!
فجأةً:
ثقبتني قشعريرة بين ضلعين..
واهتزَّ قلبي -كفقاعة- وانفثأ!
وتحاملتُ، حتى احتملت على ساعديَّ
فرأيتُ: ابن عمي الزنيم
واقفًا يتشفَّى بوجه لئيم
لم يكن في يدي حربةٌ
أو سلاح قديم،
لم يكن غير غيظي الذي يتشكَّى الظمأ
(8)
لا تصالحُ..
إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة:
النجوم.. لميقاتها
والطيور.. لأصواتها
والرمال.. لذراتها
والقتيل لطفلته الناظرة
كل شيء تحطم في لحظة عابرة:
الصبا - بهجةُ الأهل - صوتُ الحصان - التعرفُ بالضيف - همهمةُ القلب حين يرى برعماً في الحديقة يذوي - الصلاةُ لكي ينزل المطر الموسميُّ - مراوغة القلب حين يرى طائر الموتِ
وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة
كلُّ شيءٍ تحطَّم في نزوةٍ فاجرة
والذي اغتالني: ليس ربًا..
ليقتلني بمشيئته
ليس أنبل مني.. ليقتلني بسكينته
ليس أمهر مني.. ليقتلني باستدارتِهِ الماكرة
لا تصالحْ
فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينْ..
(في شرف القلب)
لا تُنتقَصْ
والذي اغتالني مَحضُ لصْ
سرق الأرض من بين عينيَّ
والصمت يطلقُ ضحكته الساخرة!
(9)
لا تصالح
ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ
والرجال التي ملأتها الشروخ
هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم
وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ
لا تصالح
فليس سوى أن تريد
أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد
وسواك.. المسوخ!
(10)
لا تصالحْ
لا تصالحْ

أمل دنقل