يبدو أننا تحولنا إلي بلاد «رد الفعل» فقط.. ففي الأغلب الأعم دائما ما تسير الحياة بالقصور الذاتي وبلا أي مشاكل ما لم تصدر التعليمات بغير ذلك.. والتعليمات دائما ما تصدر من جهات مجهولة.. ولا أحد يؤكد صحتها.. ولا أحد ينفيها.. ولا أحد ينسبها إلي مسؤول بعينه.. ولا أحد من المسؤولين يتنصل منها.
ففي وقت سابق وأثناء إذاعة مسلسل «الملك فاروق» أشاد كل النقاد والكتاب في معظم الصحف القومية بالمسلسل: وبروعة إخراجه ودقة أحداثه.. وعظمة ديكوره.. وبراعة أبطاله.. وموضوعية تناوله.. وحصل المسلسل في وقت قصير من بداية إذاعته علي أعلي درجات الاستحسان.. وأوسع نسبة مشاهدة.. وعندما تحولت الكتابة إلي حالة من حالات التعاطف مع الملك الشاب الذي شهدت سنوات عمره الغضة أحداثاً تاريخية ومنعطفات حادة وخطيرة غيرت مجري حياته فقد شهدت فترة حكمه أحداث الحرب العالمية الثانية.. وحرب فلسطين.. وحريق القاهرة.. وعلي المستوي العائلي شهدت طلاق أخته الأميرة فوزية من شاه إيران.. وطلاقه الملكة فريدة.. وقصص والدته الملكة نازلي مع أحمد حسنين باشا وما لحقه من أضرار نفسية وسياسية علي يديها..
كل هذه الأحداث جعلت معظم الناس تتعاطف مع الملك الشاب الذي (لم ير يوما حلوا في حياته) من وجهة نظر كاتبة السيناريو (د. لميس جابر)، ولكن هذه هي الحقيقة.. وهكذا هي الحياة.. تمضي بابن آدم من ربوة عالية إلي هوة سحيقة.. ومن هوة سحيقة إلي قمم الجبال.. ولا أحد يدرك لها منطقاً ولا يعرف لها حكمة سوي الله عز وجل خالق الموت والحياة، سبحانك (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء)..
ورغم كل ذلك فإن الانطباع الأخير الذي تبقي لدي عامة الشعب.. أن الحياة في ظل الملكية رغم كل ما أحيط بها من فساد.. واحتلال.. ومؤامرات كانت فترة غامضة لدي عدة أجيال جاءت بعد الثورة ولم تعرف إلا ما سمحت بنشره ثورة يوليو.. وتم بالفعل إهالة التراب وجبال النسيان علي أسرة محمد علي بأكملها.. ولكن هذا المسلسل أتاح للجمهور العادي الذي لم يدرس تاريخ بلاده ولم يعرف عنه أي شيء سوي ما (صرفته) له أجهزة إعلام ثورة يوليو ١٩٥٢ عن العهد البائد..
وهذا ما أزعج النظام المصري الحالي الذي يمثل الحلقة الثالثة من ثورة يوليو.. ونجح المسلسل في إثارة الدهشة لدي البسطاء.. عن طبيعة الحكم السياسي في الفترة الليبرالية التي كان النظام السياسي فيها ملكيا برلمانيا.. فالملك يملك ولا يحكم.. وعرفت الناس عن يقين من خلال أحداث المسلسل أنه علي الرغم مما أحاط بهذه الفترة الملكية من ظلم وفساد واستبداد كما قيل لنا.. إلا أن الملك لم يكن يملك سوي ما ورثه عن والده..
وأن كل الاقتصاد كان ملك الأفراد.. وكل المرافق العامة كانت ملكا للدولة ولا يمكن للحكومة أن تتصرف في مليم واحد من الموازنة العامة للدولة إلا بموافقة البرلمان.. وأن دخل الحكومة يأتي من الضرائب.. ومن هنا بدأت الناس في عقد المقارنات بين هذا النظام.. والنظام السياسي السائد منذ ١٩٥٢.. فحتي الملك إن كان فاسدا ولصا.. فليس تحت تصرفه حسابات وأموال البلاد.. بأرضها ومصانعها وقناة سويسها.. وبنكها المركزي.. وبنوكها العامة.. بصحافتها وصحفها.. بمدنها القديمة والجديدة.. بزرعها وأرضها وسمائها.. بعمر أفنديها.. بسكك حديد مصر وطيرانها.. وهكذا.. فالحكومة ورجال الحزب..
والنظام بأكمله لم يكن حر التصرف ولا مطلق اليد في ثروات البلاد.. وكل هذه الثروات كانت ملكا لأفراد ولا أحد يستطيع أن يمد يده عليها.. لذلك كان الاقتصاد المصري أقوي من الآن بمراحل رغم الاحتلال والسراي والفساد.. وكان الجنيه المصري أعلي سعرا من (الجنيه الذهب).. وكان الجنيه الذهب يساوي (٩٧.٥ قرش صاغ مصري).. والثورة استلمت البلاد والجنيه المصري أقوي من الاسترليني والدولار والريال والمارك الألماني والين الياباني.. وحتي بداية السبعينيات كان الدولار بـ(٣٥ قرشاً مصرياً) والريال السعودي بعشرين قرش صاغ.
وهذه المفارقات هي التي أزعجت الحكومة فصدرت التعليمات فيما يبدو من جهات مجهولة بمهاجمة المسلسل بضراوة.. وبدأت موجات الهجوم الشرس تتصاعد.. وتتصاعد.. حتي وصلت إلي حد إهانة الملك وأسرة محمد علي من أول محمد علي باشا الكبير إلي آخر سلسال أسرة محمد علي فاروق المسكين.. ولكن يبقي سؤال: أي حكومة هذه..
وأي نظام ذلك الذي تهزه أحداث مسلسل.. مضي عليها أكثر من سبعين سنة هل الحكومة بمثل هذه الهشاشة.. وهل النظام أصابه كل هذا الفزع من مجرد مسلسل.. أم الحكومة أصابتها ( فوبيا الملك فاروق ).. وأصبحت تخاف من خياله.. رغم رحيله عنا من عشرات السنين
بقلم محمد بغدادى ٢٨/١٠/٢٠٠٧
المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment