في بيانها الأخير للرأي العام، اعتبرت نقابة الصحفيين أن الأحكام بالسجن التي صدرت بالجملة لأربعة رؤساء تحرير، هي بمثابة «إعلان حرب علي حرية التعبير»، وهو تعبير بليغ يعبر عن مدي الشعور بالخطر، غير أن واقع الحال يدلنا علي أن «الحرب» تجري بالفعل منذ أكثر من عام ونصف العام، وأن نطاقها أوسع، وأن الحكم الأخير ليس مجرد إعلان بالحرب، بل إحدي جولاتها، فقد سبقتها جولة جري خلالها إغلاق منظمتين لحقوق الإنسان، وفي جولة ثانية جري قمع حركة القضاة، وفي جولة ثالثة جري سحق حركة التظاهر، و... و... أما إعلان الحرب فربما تشكل التعدلات الدستورية التجسيد الفعلي له».
تشكل التعديلات الدستورية التي جري اعتمادها من خلال الاستفتاء العام في ٢٦ مارس ٢٠٠٧، ذروة الهجوم المضاد السياسي والأمني والإعلامي والتشريعي علي الحراك السياسي المحدود الذي جري في مصر خلال عامي ٢٠٠٤- ٢٠٠٥، بعد أن اضطر النظام الحاكم، حينذاك، للتراجع المؤقت عن الرفض العنيد للقيام بإصلاح سياسي، وذلك تحت الضغوط الأمريكية والأوروبية المطالبة بالإصلاح في إطار استراتيجيتهم لمكافحة الإرهاب. لم ينطو ذلك التراجع المؤقت علي تقديم أي تنازلات ذات طابع مؤسسي أو تشريعي، واقتصر علي القيام بمناورة سياسة واسعة النطاق، تستهدف بالأساس تليين الضغوط الدولية وتخفيفها.
تفرعت المناورة السياسية في ثلاثة مسارات:
المسار الأول: الإيحاء بأن النظام قد استوعب الرسالة وقرر الشروع بالفعل في الإصلاح، تمثل ذلك في المبادرة بتعديل المادة ٧٦ من الدستور، وتنظيم مؤتمر الإسكندرية للإصلاح، والسماح له بإصدار وثيقة جيدة، مع التلويح بأن النظام سيتبناها داخليا، وإقليميا أمام القمة العربية. قد نجحت هذه المناورة بالفعل في تخفيف الضغوط الخارجية، وفي شق صفوف بعض المطالبين في الداخل بالإصلاح السياسي، وتخفيف حدة حماس واندفاع البعض الآخر، وبالتالي تخفيف الضغط المحلي، الذي هو محدود أصلاً، برغم أنه لم يحدث تغييرًا جوهريا في عملية اختيار/ انتخاب رئيس الجمهورية، التي أخذت شكل الانتخاب، ولكنها في الجوهر احتفظت بطابع الاستفتاء، مثلها في ذلك مثل دول عربية أخري تطبق هذا النمط منذ عدة سنوات كتونس واليمن.
المسار الثاني: هو استمرار القمع الأمني ولكن بشكل محسوب، بحيث لم يتم التصدي العنيف لكل مظاهر التحرك الجماعي السلمي، إلا في مناسبات سياسية ذات مغزي، مثل مناسبة الاستفتاء علي المبادرة بتعديل المادة ٧٦، أو مناسبة إعلان الرئيس مبارك اعتزامه ترشيح نفسه لفترة خامسة لرئاسة الجمهورية. كما كان القمع الأمني الفائق في مناسبات معينة، بمثابة اختبار عملي أيضًا لمدي تماسك موقف المجتمع الدولي من قضية الإصلاح في مصر، وقد لوحظ أن القرار الأمني في اليوم التالي لهذه المناسبات - بمواصلة القمع العنيف أو الامتناع عنه أو تخفيفه- يرتبط بشكل ملموس لا لبس فيه بطبيعة رد الفعل الأمريكي والأوروبي علي السلوك الأمني في اليوم السابق.
المسار الثالث هو استخدام فزّاعة الإسلاميين، لشق صفوف المطالبين بالإصلاح في الداخل والخارج. وقد بدا ذلك أكثر سطوعًا في أعقاب الانتخابات البرلمانية التي جرت في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام ٢٠٠٥. ومع تصاعد حصيلة الإخوان المسلمين من المقاعد البرلمانية في المرحلة الأولي، والجولة الأولي من المرحلة الثانية، وبداية تعمق الشعور بالقلق لدي بعض المطالبين بالإصلاح في الداخل والخارج، بدأت القبضة الأمنية تمارس دورها دون حساب، حتي بلغت ذروتها في المرحلة الثالثة، دون احتجاج جدي من المجتمع الدولي.
إذا كان عام ٢٠٠٥ هو عام المناورة واحتواء الخصوم وشق صفوفهم في الداخل والخارج،
تشكل التعديلات الدستورية التي جري اعتمادها من خلال الاستفتاء العام في ٢٦ مارس ٢٠٠٧، ذروة الهجوم المضاد السياسي والأمني والإعلامي والتشريعي علي الحراك السياسي المحدود الذي جري في مصر خلال عامي ٢٠٠٤- ٢٠٠٥، بعد أن اضطر النظام الحاكم، حينذاك، للتراجع المؤقت عن الرفض العنيد للقيام بإصلاح سياسي، وذلك تحت الضغوط الأمريكية والأوروبية المطالبة بالإصلاح في إطار استراتيجيتهم لمكافحة الإرهاب. لم ينطو ذلك التراجع المؤقت علي تقديم أي تنازلات ذات طابع مؤسسي أو تشريعي، واقتصر علي القيام بمناورة سياسة واسعة النطاق، تستهدف بالأساس تليين الضغوط الدولية وتخفيفها.
تفرعت المناورة السياسية في ثلاثة مسارات:
المسار الأول: الإيحاء بأن النظام قد استوعب الرسالة وقرر الشروع بالفعل في الإصلاح، تمثل ذلك في المبادرة بتعديل المادة ٧٦ من الدستور، وتنظيم مؤتمر الإسكندرية للإصلاح، والسماح له بإصدار وثيقة جيدة، مع التلويح بأن النظام سيتبناها داخليا، وإقليميا أمام القمة العربية. قد نجحت هذه المناورة بالفعل في تخفيف الضغوط الخارجية، وفي شق صفوف بعض المطالبين في الداخل بالإصلاح السياسي، وتخفيف حدة حماس واندفاع البعض الآخر، وبالتالي تخفيف الضغط المحلي، الذي هو محدود أصلاً، برغم أنه لم يحدث تغييرًا جوهريا في عملية اختيار/ انتخاب رئيس الجمهورية، التي أخذت شكل الانتخاب، ولكنها في الجوهر احتفظت بطابع الاستفتاء، مثلها في ذلك مثل دول عربية أخري تطبق هذا النمط منذ عدة سنوات كتونس واليمن.
المسار الثاني: هو استمرار القمع الأمني ولكن بشكل محسوب، بحيث لم يتم التصدي العنيف لكل مظاهر التحرك الجماعي السلمي، إلا في مناسبات سياسية ذات مغزي، مثل مناسبة الاستفتاء علي المبادرة بتعديل المادة ٧٦، أو مناسبة إعلان الرئيس مبارك اعتزامه ترشيح نفسه لفترة خامسة لرئاسة الجمهورية. كما كان القمع الأمني الفائق في مناسبات معينة، بمثابة اختبار عملي أيضًا لمدي تماسك موقف المجتمع الدولي من قضية الإصلاح في مصر، وقد لوحظ أن القرار الأمني في اليوم التالي لهذه المناسبات - بمواصلة القمع العنيف أو الامتناع عنه أو تخفيفه- يرتبط بشكل ملموس لا لبس فيه بطبيعة رد الفعل الأمريكي والأوروبي علي السلوك الأمني في اليوم السابق.
المسار الثالث هو استخدام فزّاعة الإسلاميين، لشق صفوف المطالبين بالإصلاح في الداخل والخارج. وقد بدا ذلك أكثر سطوعًا في أعقاب الانتخابات البرلمانية التي جرت في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام ٢٠٠٥. ومع تصاعد حصيلة الإخوان المسلمين من المقاعد البرلمانية في المرحلة الأولي، والجولة الأولي من المرحلة الثانية، وبداية تعمق الشعور بالقلق لدي بعض المطالبين بالإصلاح في الداخل والخارج، بدأت القبضة الأمنية تمارس دورها دون حساب، حتي بلغت ذروتها في المرحلة الثالثة، دون احتجاج جدي من المجتمع الدولي.
إذا كان عام ٢٠٠٥ هو عام المناورة واحتواء الخصوم وشق صفوفهم في الداخل والخارج،
فإن عام ٢٠٠٦ كان عام القمع المكشوف بامتياز، لإخماد صوت الحراك السياسي، بعد أن تم تحييد المجتمع الدولي، و«التحرير الوطني» للحراك السياسي الداخلي من المؤثرات الخارجية.
بدأ ذلك العام مبكرًا، فقد بدأ في ديسمبر ٢٠٠٥، بمهزلة الجولة الثانية من المرحلة الأخيرة من الانتخابات البرلمانية، وإعلان النائب العام حفظ التحقيق في وقائع التحرش الجنسي بالنساء المعارضات لاستفتاء ٢٥ مايو ٢٠٠٥، وبدء تحريك الدعاوي القضائية ضد رموز القضاة المطالبين بالإصلاح، والحكم علي أيمن نور بالسجن. وأخيرًا المذبحة البشعة للاجئين السودانيين في قلب أحد أهم ميادين القاهرة الكبري، والتي كانت في جوهرها رسالة للمصريين، حملتها دماء وجثث السودانيين، بأن زمن التسامح الأمني مع الحراك السلمي قد ولي.. وقد كان، فلم يسمح خلال عام ٢٠٠٦ بأي تحرك جماعي في الشارع،
بل جري استخدام قانون الطوارئ - لأول مرة منذ إعلان حالة الطوارئ قبل ربع قرن - بشكل جماعي ضد مئات المتظاهرين الذين جري القبض عليهم لمجرد تضامنهم مع نادي القضاة والقضاة المنددين بتزوير الانتخابات العامة.. خلال هذا العام مارست القبضة الأمنية دورها «متحررة» من أي قيد دولي، فقبل أن يبدأ هذا العام كان الإخوان المسلمون في مصر قد حصدوا ٢٠% من مقاعد البرلمان، وفي الشهر التالي حصد أشقاؤهم في «حماس» الأغلبية في فلسطين، وشكلوا الحكومة، لتتوقف المطالب الدولية بالإصلاح، التي كانت قد بدأت فعلياً في التراجع تدريجياً منذ منتصف ٢٠٠٥.
عام ٢٠٠٧ هو عام القمع بالدستور، بعد أن تم تعبيد الطريق دولياً وسياسياً وأمنياً، أي «تحرير» مصر من الاهتمام الدولي بالإصلاح، و«تحرير» الشارع المصري من الحراك السياسي، ولكن قبل أن ينتهي ذلك العام، ستكون حملة الهجوم التشريعي قد بدأت وستتواصل خلال عام ٢٠٠٨، والتي تستهدف ترجمة عدد من أسوأ التعديلات الدستورية إلي تشريعات جديدة وتعديلات علي قوانين سارية، علي رأسها بالطبع قانون مكافحة الإرهاب،
ولكن تطور الأحداث ربما يدفع إلي المقدمة بتعديلات قانوني الجمعيات الأهلية والصحافة، وغيرهما من القوانين، بما يكفل إضفاء مزيد من الحماية التشريعية علي أعمال القمع السياسي والأمني والإداري، التي من المرجح أن تتواصل علي نطاق أكثر اتساعًا ولكن ربما بقدر أقل من ضجيج الاحتجاج، بعد إرهاب الصحافة المستقلة ومنظمات حقوق الإنسان، التي جري ـ لأول مرة في تاريخ مصر ـ إغلاق اثنتين من أنشطها خلال أسابيع معدودة.
عرف النظام الحاكم كيف يدير معركته بمهارة وكفاءة، لا تظهر إلا في معارك المصير، ولو كانت تدار قضايا التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي لمصر بمعشار هذه الكفاءة، لاختلف حال مصر تماماً.
لم تلعب الأوهام بعقل النظام الحاكم، وتوصل منذ اللحظة الأولي إلي أن مركز الثقل في معركته ليس في شارع «عبدالخالق ثروت»، أو القاهرة أو مصر كلها، بل في واشنطن وباريس ولندن وروما وبرلين، وأيقن مبكراً أن خروجه سالماً من هذا التحدي المصيري، سيتوقف علي مدي قدرته علي إقناع هذه العواصم بمراجعة موقفها من قضية الإصلاح، وعرف كيف يوظف التناقضات داخل كل عاصمة، وبين عاصمة وأخري، وعرف كذلك فن «تأليف» المبادرات الديمقراطية وتسويقها دولياً، وتوظيف التطورات الإقليمية في العراق وفلسطين ولبنان وإيران لخدمة هذا الهدف، في الوقت نفسه كان سخياً ولحوحاً في تقديم الخدمات الأمنية والاستراتيجية علي كل مائدة دولية، جري فيها طرح قضية الإصلاح السياسي، مثلما قالت عن حق مجلة «النيوزويك».
كان النظام يتصرف بعقلية لاعب الشطرنج، أقدامه في القاهرة، ولكن عيونه تحيط برقعة العالم كله، يحرك الملك والوزير وبقية القطع الرئيسية في الساحة الدولية، ويكتفي «بالعساكر» لملاعبة الإصلاحيين، في شارع عبدالخالق ثروت، الذين كانوا وما زالوا يتدربون علي لعب «السيجة»!.
واقع الأمر أن ذهنية قوي الإصلاح حاصرت نفسها بشارع عبدالخالق ثروت، قبل أن تحاصرها «عساكر» الأمن، ولم تسع جدياً للتطلع لتحالف مدني عالمي، أو إقليمي، ولا حتي مصري، برغم أن كل الظروف كانت مهيئة لذلك، بل انشغل بعض رموزها بمساندة أبرز رموز الاستبداد في العالم العربي، من بشار إلي البشير مروراً بالشهيد صدام حسين!، وإعادة إنتاج الخطاب الأمني والإعلامي للحكومات العربية ضد منظمات المجتمع المدني، صدقت جماعات الإصلاح ما تعكسه صورتها في الفضائيات، بعد أن حققت بالفعل «انتصارات» إعلامية، ولكن ميدانياً انتهي الأمر بهزيمة سياسية ساحقة للإصلاحيين، قبل أن تكون هزيمة أمنية.
بينما كان النظام الحاكم يدقق في خطابه السياسي والإعلامي للحفاظ علي تماسك النخبة الحاكمة وتوسيع قاعدتها الاجتماعية، فإن جماعات الإصلاح لعبت برأسها الانتصارات الإعلامية وفشلت فشلاً ذريعاً في توسيع قاعدتها الاجتماعية، وفي اجتذاب الجماهير والفئات الاجتماعية، فإن جماعات الإصلاح لعبت برأسهاالانتصارات الإعلامية،
وفشلت فشلاً ذريعًا في توسيع قاعدتها الاجتماعية، التي استهدفتها بشعاراتها ومواقفها وتظاهراتها، بل علي النقيض فقد ساهمت في توسيع القاعدة الاجتماعية للنظام الحاكم ـ مثلما قال د. محمد السيد سعيد، في مؤتمر نظمه مركز القاهرة لتقييم حركات التغيير في عام ٢٠٠٧ ـ الذي خرج من صخب «معركة» التغيير أكثر قوة، بعد أن كسب - أو دفع الإصلاحيين إلي صفوفه - شرائح وفئات اجتماعية أصابها الذعر،
إما بسبب شعارات تدفع نحو الفوضي والمجهول - أو نحو أهداف سياسية لم يستوعبها شعب مازال يفرك عينيه من النعاس السياسي بعد غيبوبة نصف قرن، كشعارات العصيان المدني ومظاهرات المليون التي تسقط النظام في أمسية سعيدة! - أو بسبب الصعود السياسي المفاجئ للإخوان المسلمين، والمخاوف التي أثارها ذلك التطور بالنسبة للأقباط وبعض أطراف قوي الإصلاح من بين العلمانيين واليساريين والليبراليين.
وفي حين عجز الإصلاحيون عن أن يقدموا أنفسهم للأطراف المحلية والدولية كبديل مقنع للنظام الحالي، فإن النظام الحاكم نجح في إقناع أطراف أساسية محلية ودولية بأنه الأقدر علي تحقيق مصالحهم، أو علي الأقل تجنيبهم الأضرار التي ستترتب علي أي بديل آخر، ونجح في هذاالسياق أن يحرر الميدان السياسي - بوسائل المناورة السياسية، والقمع الأمني وأخيرًا بسجن أيمن نور- من أي بدائل أخري حقيقية، باستثناء الإخوان المسلمين، حيث اكتشف مصلحة كبري في وجودهم إلي جانبه، باعتبارهم البديل الوحيد/ المخيف. وفي هذه الحالة، فإنه علي الأرجح ليس هناك خيار فإذا كان النظام الحاكم لم ينجح في أن يقنع الأطراف المحلية والدولية بأنه هو الحل، فإنه لاشك استطاع أن يقنعهم بأنه صمام أمن لا بديل آخر عنه
بدأ ذلك العام مبكرًا، فقد بدأ في ديسمبر ٢٠٠٥، بمهزلة الجولة الثانية من المرحلة الأخيرة من الانتخابات البرلمانية، وإعلان النائب العام حفظ التحقيق في وقائع التحرش الجنسي بالنساء المعارضات لاستفتاء ٢٥ مايو ٢٠٠٥، وبدء تحريك الدعاوي القضائية ضد رموز القضاة المطالبين بالإصلاح، والحكم علي أيمن نور بالسجن. وأخيرًا المذبحة البشعة للاجئين السودانيين في قلب أحد أهم ميادين القاهرة الكبري، والتي كانت في جوهرها رسالة للمصريين، حملتها دماء وجثث السودانيين، بأن زمن التسامح الأمني مع الحراك السلمي قد ولي.. وقد كان، فلم يسمح خلال عام ٢٠٠٦ بأي تحرك جماعي في الشارع،
بل جري استخدام قانون الطوارئ - لأول مرة منذ إعلان حالة الطوارئ قبل ربع قرن - بشكل جماعي ضد مئات المتظاهرين الذين جري القبض عليهم لمجرد تضامنهم مع نادي القضاة والقضاة المنددين بتزوير الانتخابات العامة.. خلال هذا العام مارست القبضة الأمنية دورها «متحررة» من أي قيد دولي، فقبل أن يبدأ هذا العام كان الإخوان المسلمون في مصر قد حصدوا ٢٠% من مقاعد البرلمان، وفي الشهر التالي حصد أشقاؤهم في «حماس» الأغلبية في فلسطين، وشكلوا الحكومة، لتتوقف المطالب الدولية بالإصلاح، التي كانت قد بدأت فعلياً في التراجع تدريجياً منذ منتصف ٢٠٠٥.
عام ٢٠٠٧ هو عام القمع بالدستور، بعد أن تم تعبيد الطريق دولياً وسياسياً وأمنياً، أي «تحرير» مصر من الاهتمام الدولي بالإصلاح، و«تحرير» الشارع المصري من الحراك السياسي، ولكن قبل أن ينتهي ذلك العام، ستكون حملة الهجوم التشريعي قد بدأت وستتواصل خلال عام ٢٠٠٨، والتي تستهدف ترجمة عدد من أسوأ التعديلات الدستورية إلي تشريعات جديدة وتعديلات علي قوانين سارية، علي رأسها بالطبع قانون مكافحة الإرهاب،
ولكن تطور الأحداث ربما يدفع إلي المقدمة بتعديلات قانوني الجمعيات الأهلية والصحافة، وغيرهما من القوانين، بما يكفل إضفاء مزيد من الحماية التشريعية علي أعمال القمع السياسي والأمني والإداري، التي من المرجح أن تتواصل علي نطاق أكثر اتساعًا ولكن ربما بقدر أقل من ضجيج الاحتجاج، بعد إرهاب الصحافة المستقلة ومنظمات حقوق الإنسان، التي جري ـ لأول مرة في تاريخ مصر ـ إغلاق اثنتين من أنشطها خلال أسابيع معدودة.
عرف النظام الحاكم كيف يدير معركته بمهارة وكفاءة، لا تظهر إلا في معارك المصير، ولو كانت تدار قضايا التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي لمصر بمعشار هذه الكفاءة، لاختلف حال مصر تماماً.
لم تلعب الأوهام بعقل النظام الحاكم، وتوصل منذ اللحظة الأولي إلي أن مركز الثقل في معركته ليس في شارع «عبدالخالق ثروت»، أو القاهرة أو مصر كلها، بل في واشنطن وباريس ولندن وروما وبرلين، وأيقن مبكراً أن خروجه سالماً من هذا التحدي المصيري، سيتوقف علي مدي قدرته علي إقناع هذه العواصم بمراجعة موقفها من قضية الإصلاح، وعرف كيف يوظف التناقضات داخل كل عاصمة، وبين عاصمة وأخري، وعرف كذلك فن «تأليف» المبادرات الديمقراطية وتسويقها دولياً، وتوظيف التطورات الإقليمية في العراق وفلسطين ولبنان وإيران لخدمة هذا الهدف، في الوقت نفسه كان سخياً ولحوحاً في تقديم الخدمات الأمنية والاستراتيجية علي كل مائدة دولية، جري فيها طرح قضية الإصلاح السياسي، مثلما قالت عن حق مجلة «النيوزويك».
كان النظام يتصرف بعقلية لاعب الشطرنج، أقدامه في القاهرة، ولكن عيونه تحيط برقعة العالم كله، يحرك الملك والوزير وبقية القطع الرئيسية في الساحة الدولية، ويكتفي «بالعساكر» لملاعبة الإصلاحيين، في شارع عبدالخالق ثروت، الذين كانوا وما زالوا يتدربون علي لعب «السيجة»!.
واقع الأمر أن ذهنية قوي الإصلاح حاصرت نفسها بشارع عبدالخالق ثروت، قبل أن تحاصرها «عساكر» الأمن، ولم تسع جدياً للتطلع لتحالف مدني عالمي، أو إقليمي، ولا حتي مصري، برغم أن كل الظروف كانت مهيئة لذلك، بل انشغل بعض رموزها بمساندة أبرز رموز الاستبداد في العالم العربي، من بشار إلي البشير مروراً بالشهيد صدام حسين!، وإعادة إنتاج الخطاب الأمني والإعلامي للحكومات العربية ضد منظمات المجتمع المدني، صدقت جماعات الإصلاح ما تعكسه صورتها في الفضائيات، بعد أن حققت بالفعل «انتصارات» إعلامية، ولكن ميدانياً انتهي الأمر بهزيمة سياسية ساحقة للإصلاحيين، قبل أن تكون هزيمة أمنية.
بينما كان النظام الحاكم يدقق في خطابه السياسي والإعلامي للحفاظ علي تماسك النخبة الحاكمة وتوسيع قاعدتها الاجتماعية، فإن جماعات الإصلاح لعبت برأسها الانتصارات الإعلامية وفشلت فشلاً ذريعاً في توسيع قاعدتها الاجتماعية، وفي اجتذاب الجماهير والفئات الاجتماعية، فإن جماعات الإصلاح لعبت برأسهاالانتصارات الإعلامية،
وفشلت فشلاً ذريعًا في توسيع قاعدتها الاجتماعية، التي استهدفتها بشعاراتها ومواقفها وتظاهراتها، بل علي النقيض فقد ساهمت في توسيع القاعدة الاجتماعية للنظام الحاكم ـ مثلما قال د. محمد السيد سعيد، في مؤتمر نظمه مركز القاهرة لتقييم حركات التغيير في عام ٢٠٠٧ ـ الذي خرج من صخب «معركة» التغيير أكثر قوة، بعد أن كسب - أو دفع الإصلاحيين إلي صفوفه - شرائح وفئات اجتماعية أصابها الذعر،
إما بسبب شعارات تدفع نحو الفوضي والمجهول - أو نحو أهداف سياسية لم يستوعبها شعب مازال يفرك عينيه من النعاس السياسي بعد غيبوبة نصف قرن، كشعارات العصيان المدني ومظاهرات المليون التي تسقط النظام في أمسية سعيدة! - أو بسبب الصعود السياسي المفاجئ للإخوان المسلمين، والمخاوف التي أثارها ذلك التطور بالنسبة للأقباط وبعض أطراف قوي الإصلاح من بين العلمانيين واليساريين والليبراليين.
وفي حين عجز الإصلاحيون عن أن يقدموا أنفسهم للأطراف المحلية والدولية كبديل مقنع للنظام الحالي، فإن النظام الحاكم نجح في إقناع أطراف أساسية محلية ودولية بأنه الأقدر علي تحقيق مصالحهم، أو علي الأقل تجنيبهم الأضرار التي ستترتب علي أي بديل آخر، ونجح في هذاالسياق أن يحرر الميدان السياسي - بوسائل المناورة السياسية، والقمع الأمني وأخيرًا بسجن أيمن نور- من أي بدائل أخري حقيقية، باستثناء الإخوان المسلمين، حيث اكتشف مصلحة كبري في وجودهم إلي جانبه، باعتبارهم البديل الوحيد/ المخيف. وفي هذه الحالة، فإنه علي الأرجح ليس هناك خيار فإذا كان النظام الحاكم لم ينجح في أن يقنع الأطراف المحلية والدولية بأنه هو الحل، فإنه لاشك استطاع أن يقنعهم بأنه صمام أمن لا بديل آخر عنه
بهي الدين حسن
المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment