كان البروفيسور دنيس ويبر واحداً من أهم علماء الطب فى العالم، كان متخصصاً فى علم الأنسجة (الهيستولوجى) وقد جابت شهرته الآفاق، حتى أنه خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى، نادراً ما صدر مرجع فى الهيستولوجى دون أن يضم بحثاً مهماً للدكتور ويبر..
كان من حظى السعيد أن تتلمذت على يد هذا العالم الكبير فى جامعة إلينوى بالولايات المتحدة، إذ كان أحد المشرفين على رسالتى للماجستير وتلقيت على يديه أكثر من فصل دراسى (كورس)، وأذكر ذات مرة أنه كان يدرس لنا فى أحد الفصول الدراسية، كنا مجموعة صغيرة من طلاب الدراسات العليا من مختلف دول العالم، وكان الدكتور ويبر يطلب منا قراءة أبحاث معينة وتلخيصها أمام زملائنا ويناقشنا فيها ثم يقيّم أداءنا بنفسه. بعد أسبوعين من بداية الفصل الدراسى فوجئنا بالدكتور ويبر يقول:
ــ أريد من كل واحد فيكم أن يقول ما عيوب هذا الفصل الدراسى فى رأيه؟ اندهشت من السؤال ولأننى كنت أول الجالسين فكان لابد أن أتكلم، الحق أننى لم أجد ما أعيبه على أداء هذا العالم الكبير لكن بقية الطلبة راحوا، واحداً بعد الآخر، يعبرون باحترام وصراحة تامة عن ملاحظاتهم السلبية.. قال أحدهم إن الأبحاث المطلوب قراءتها كثيرة وأحياناً تكون خارج الموضوع وقالت طالبة إنها تحتاج إلى شرح أكثر من الدكتور ويبر لأنه كثيراً ما يمر على بعض النقاط بسرعة وهو يظن أننا نفهمها..
توالت الانتقادات على الدكتور ويبر وظل هو يستمع بانتباه وهدوء ويسجل كل كلمة تقال.. ثم تكلم أخيرا فاستجاب لبعض الملاحظات ووعد بتلافى الأخطاء ثم شرح لنا أن بعض طلباتنا لا يمكن الاستجابة لها وذكر لنا الأسباب. وفى نهاية الدرس ابتسم وقال:
ــ أشكركم جميعا على هذه الملاحظات لأنها أفادتنى كثيرا.
خرجت من الفصل وأسئلة عديدة تتردد فى ذهنى: لماذا يحرص عالم كبير على الاستماع إلى نقد لعمله من طلبة مبتدئين لا وزن لهم إطلاقا فى العلم بجوار مقامه الرفيع؟ لماذا لم يحدد الدكتور ويبر كل شىء فى الدرس بقرارات نهائية لا تقبل النقد أو النقاش؟! لماذا اعتبر الدكتور ويبر نقد الطلبة لطريقته فى الشرح شيئاً مفيداً ولم يعتبره تطاولاً أو وقاحة؟
إن الدكتور ويبر بالطبع، شأن كبار العلماء دائما، شخص مهذب ومتواضع لكن هناك سببا موضوعيا لسلوكه: أنه نشأ فى مجتمع ديمقراطى حيث ترتبط السلطة بالمسؤولية واحترام الآخرين، بينما فى مجتمع الاستبداد تقاس السلطة بالقدرة على البطش.
المسؤول الديمقراطى يحترم كرامة الناس وينصت باهتمام لآرائهم ويسعى دائما لإجابة مطالبهم ولا يجد غضاضة فى التراجع عن أى قرار اتخذه إذا ثبت أنه خطأ.
أما المسؤول الاستبدادى فهو يفرض قراراته على الناس بالقوة ولا يسمح بأى نقد لتصرفاته ويعتبره تطاولاً وقلة أدب، وحتى إذا تيقن من أن قراره خطأ فهو لا يتراجع عنه أبداً حفاظاً على هيبته..
هذا التباين فى مفهوم السلطة نراه بوضوح فى سلوك الحكام أنفسهم. الحاكم الديمقراطى المنتخب يعلم أن أفراد الشعب هم الذين منحوه منصبه وهو يعتبر نفسه فى خدمتهم ويسعى لإرضائهم، أما الحاكم المستبد فقد استولى على السلطة وحافظ عليها بالقوة وبالتالى لا يهمه إرضاء الشعب بقدر اهتمامه بالاحتفاظ بقدرته على القمع لأنها الضامن الوحيد لحكمه.
هكذا كان مفهوم حسنى مبارك لممارسة السلطة فهو لم يحترم قط إرادة المصريين ولا كرامتهم، ولم يفوت فرصة واحدة للتهكم عليهم والتقليل من شأنهم.. القرار عند حسنى مبارك كان ما يريده هو لا ما يريده الناس، وهيبته تمثلت لديه فى قدرته على فرض كل ما يريده على المصريين حتى لو كان لا يوافق رغباتهم ولا مصالحهم..
الشعب فى نظر مبارك قاصر، عاجز عن إدراك مصالحه وهذا ما دفعه إلى التأكيد مراراً على أن البديل الوحيد لحكمه هو الفوضى لأن الشعب المصرى لا يستطيع أن يحكم نفسه بنفسه فى نظام ديمقراطى. بعد ثلاثين عاما من الاستبداد أوصل حسنى مبارك مصر إلى الحضيض فى كل المجالات، ثم اندلعت الثورة العظيمة فى ٢٥ يناير التى تلخصت أهدافها فى هتاف شهير ردده ملايين المصريين: تغيير.. حرية.. عدالة اجتماعية.
دفع المصريون ثمناً باهظاً للثورة: مئات الشهداء والمصابين وآلاف المفقودين، ثم قامت القوات المسلحة بحماية الثورة ورعاية الفترة الانتقالية إلى الديمقراطية.. المصريون يحسون بامتنان لقواتهم المسلحة على دورها العظيم، لكننا فوجئنا الأسبوع الماضى بقرارات تعيين المحافظين الجدد التى خيبت آمال الناس حتى أحسوا وكأن حسنى مبارك لايزال يحكم مصر.
معظم المحافظين الجدد ينتمون إلى نظام مبارك الفاسد، منهم من شارك فى تزوير الانتخابات ومنهم من استعان بالأمن للقبض على الطلبة الناشطين السياسيين داخل الحرم الجامعى، ومنهم متهمون بوقائع فساد مالى بل إن العديد من المحافظين الجدد ضباط سابقون فى أمن الدولة متهمون بقمع المصريين وتعذيبهم وهتك أعراضهم، حتى إن الدكتور أيمن نور، رئيس حزب الغد، اتهم محافظ قنا الجديد اللواء عماد شحاتة ميخائيل بالإشراف بنفسه على ضربه وتعذيبه عام ٢٠٠٧.. وهكذا فإن المسؤول عن هذه القرارات بدلا من محاكمة ضباط أمن الدولة على جرائمهم البشعة قرر أن يكافئهم بتعيينهم محافظين.
كنا نتوقع من حكومة الثورة أن تجعل منصب المحافظ بالانتخاب الحر المباشر كما يحدث فى الدول الديمقراطية المحترمة. الانتخاب هو الطريقة المثلى لتصعيد الكفاءات واحترام إرادة المواطنين. إذا قيل إن الظروف الحالية لا تسمح بانتخاب المحافظين فقد كان من الممكن على الأقل اختيار وجوه جديدة لها تاريخ نظيف لم تشترك فى الفساد والقمع والتزوير.. لقد احترت فعلاً فى فهم الحكمة من تعيين هؤلاء المحافظين بهذه الطريقة. من الذى اختار هؤلاء المحافظين؟
هل هو المجلس العسكرى أم الحكومة؟ هل يعيش صانع هذا القرار بمعزل عما يحدث فهو لم يسمع بالثورة، أم أنه يريد أن يقول إن الثورة وإن كانت قد أطاحت بمبارك نفسه إلا أنها لن تغير من طريقة توزيع المناصب على أهل الثقة بدلاً من أهل الكفاءة؟
كان من الطبيعى أن تندلع مظاهرات عنيفة فى محافظات عديدة اعتراضاً على تعيين هؤلاء المحافظين.. وقد وصلت الاحتجاجات فى محافظة قنا إلى حد مقلق. قنا محافظة لها طبيعة خاصة لم يفهمها أو لم يهتم بفهمها من اختار المحافظ الجديد. نفوذ القبائل الكبيرة فى قنا يلغى دور المجتمع المدنى المستقل تماماً فكل ما يحدث فى قنا يقرره زعماء القبائل وينفذه أبناؤها، أضف إلى ذلك أن قنا مثل سائر محافظات الصعيد قد لحق بها ظلم فاحش فى عصر مبارك.
فقر وبطالة وإحباط وإحساس يتأكد كل يوم بأن الدولة لا تهتم بأهل الصعيد ولا تأبه لمعاناتهم. كل هذه العوامل ضاعفت من حجم المظاهرات فى قنا لكن الحكومة المصرية عالجت الأزمة بالطريقة القديمة: تجاهلت ما يحدث فى قنا كأن شيئاً لم يكن، ولما زادت الاحتجاجات حاولت الحكومة امتصاص الغضب عن طريق لجان الحوار التى لا تفضى إلى أى شىء، وهى طريقة قديمة أيضا لم يعد أحد يقتنع بجدواها.. إذ إن الحوار مع السلطة إن لم يكن ملزماً لها يتحول فى الحقيقة إلى دردشة بلا طائل. مع تزايد الاحتجاج فى قنا خرج علينا الدكتور يحيى الجمل بآخر عجائبه فبدلاً من احترام إرادة الناس ومشاعرهم صرح سيادته قائلا:
ــ إن محافظ قنا الجديد باق فى منصبه وهو لم ولن يقدم استقالته.
كانت الرسالة التى يوجهها الجمل إلى أهل قنا تقول بوضوح: إن رأيكم بلا قيمة وبلا تأثير.. أنا الذى أقرر ما أريده فى الوقت الذى أريده، وسواء شئتم أم أبيتم فسوف تقبلون كل ما أمليه عليكم وأنتم صاغرون.
هذا المنطق الاستبدادى الذى كان سائداً قبل الثورة لا يصلح إطلاقاً بعدها. من هنا فما إن ذاع تصريح يحيى الجمل حتى اتسعت رقعة الاحتجاجات فى قنا وتسارعت وتيرتها، واستغل الأزمة المتربصون بالثورة من فلول الحزب الوطنى وعناصر مباحث أمن الدولة، فدفعوا بالمظاهرات إلى اتجاه عنيف وخطير إذ أوعزوا إلى أتباعهم بتعطيل قطار الصعيد وإغلاق الطرق السريعة، ثم تم الدفع ببعض المتطرفين من عملاء الأمن ليعطوا المشكلة صبغة طائفية، فبدأوا يعلنون أنهم يرفضون المحافظ الجديد ليس لأنه ينتمى إلى النظام الساقط وليس لأنه متهم بالتعذيب وقتل المتظاهرين، ولكن لأنه قبطى كافر، وفى تصرف غير مسبوق قام المتطرفون برفع أعلام المملكة السعودية بدلاً من أعلام بلادهم مصر. إن الاختيار الخاطئ للمحافظين وتردد الحكومة وتصريحات الجمل الاستفزازية، كل ذلك منح فرصة ذهبية للمتآمرين على الثورة لإحداث الفوضى وإشعال فتنة طائفية قد تحرق مصر كلها.. إننا نطالب الدكتور عصام شرف، رئيس الوزراء الذى نحبه ونقدره جميعا، بأن يعلن موقفاً واضحاً من هذه الأزمة؟! هل يوافق، وهو رئيس حكومة الثورة، على تعيين محافظين متهمين بالتعذيب والقتل والفساد؟ ولماذا لا يتم إلغاء هذه القرارات الخاطئة فورا؟
إن مصر دخلت عصراً جديداً لا خوف فيه ولا خنوع ولا إذلال وكل من يتجاهل هذه الحقيقة سوف يجبره الشعب على الاعتراف بها. لم يعد ممكناً فى مصر الثورة أن نفرض على الناس بالقوة قرارات خاطئة وفاشلة يعلمون أنها ستضرهم. إن ملايين المصريين الذين نزلوا إلى الشوارع وواجهوا الموت من أجل الحرية حتى خلعوا حسنى مبارك من الحكم لن تستطيع أى قوة بعد ذلك أن تفرض عليهم ما لا يريدونه.
إن التمسك بقرارات ظالمة وخاطئة بدعوى المحافظة على هيبة الدولة مفهوم مغلوط عفا عليه الزمن، لأن الدول المحترمة تتحقق هيبتها من احترام إرادة مواطنيها وليس عن طريق قمعهم. من الآن فصاعدا فإن المواطن البسيط، حتى ولو كان كناساً فى الشارع، سيكون من حقه أن ينتقد رئيس الدولة ويحاسبه على سياساته وقراراته. عندما يقرر الشعب أنه لا يريد مسؤولاً ما، مهما كان منصبه، فيجب ألا يبقى هذا المسؤول فى موقعه يوماً واحداً. إن السيادة للشعب المصرى وحده، وإرادة الشعب فوق أى سلطة مهما كان نفوذها.. عندما نتكلم يجب أن تنصتوا.
الديمقراطية هى الحل
No comments:
Post a Comment