Friday, February 06, 2009

الإهمال والتفريط‮.. ‬وأبراج القلعة

لكل أمة ذاكرة تحفظ سير الأحداث وتكشف أسرار التاريخ وتسطره والذاكرة قد تكون مدونة علي‮ ‬ورقة بردي‮ ‬أو محفورة علي‮ ‬حجر أو تابوت أو مضيئة داخل منزل قديم تطل حينا من خلف مشربيته أو تكمن في‮ ‬أعماق بئره‮.
‬وعندما وجد علماء الحملة الفرنسية الحجر الصغير في‮ ‬رشيد كان سببا في‮ ‬فك طلاسم اللغة المصرية القديمة وقراءة تاريخ مصر بالكامل وتأسيس علم المصريات‮.‬
ويحكي‮ ‬أحد علماء المصريات عن حجر صغير سطرت عليه أول مسرحية في‮ ‬التاريخ وسميت بالمسرحية‮ »‬المنفية‮« ‬نسبة إلي‮ ‬منف عاصمة الدولة القديمة ووجد هذا الحجر في‮ ‬منزل أحد الفلاحين وقد ثقب من منتصفه وتحول إلي‮ »‬رحاية‮« ‬لطحن الغلال وتسبب هذا في‮ ‬مسح جزء من المسرحية وأثار حزن وألم العالم الاثري‮ ‬الذي‮ ‬لم‮ ‬يكن مصريا ولكن للفلاح عذرا مقنعا فهو لم‮ ‬يكن‮ ‬يعرف شيئا عن التاريخ أو الآثار‮..
‬لذلك عندما تكون الأمة في‮ ‬حالة من الاستنارة والتفتح والوعي‮ ‬والاحساس بقيمة الوطن‮ ‬يزيد الاهتمام بالأمكنة والاثر والتاريخ وعلي‮ ‬العكس‮ ‬يتلاشي‮ ‬الاهتمام وتهون الذاكرة عندما تكون الامة في‮ ‬حالة من الاظلام والجهل وعدم الوعي‮ ‬وعندما تتعامل مع الوطن علي‮ ‬أنه عزبة خاصة للموعودين‮ ‬يمرحون ويعبثون بكل حرية‮.‬
وفي‮ ‬عام‮ ‬1927‮ ‬وفي‮ ‬يوم الثلاثاء الموافق‮ ‬23‮ ‬أغسطس في‮ ‬الساعة العاشرة مساء مات‮ »‬سعد زغلول‮« ‬وفي‮ ‬نفس الليلة اجتمع مجلس الوزراء برئاسة عبدالخالق ثروت باشا ونعي‮ ‬المجلس زعيم الأمة ثم اتخذ عدة قرارات لتخليد ذكري‮ ‬سعد منها شراء منزل‮ »‬بيت الامة‮« ‬وضمه إلي‮ ‬الأملاك العمومية علي‮ ‬ان‮ ‬يبقي‮ ‬حق الإقامة فيه لحرم الفقيد‮ »‬صفية زغلول‮« ‬مدي‮ ‬حياتها‮.. ‬وشراء المنزل الذي‮ ‬ولد فيه سعد ببلدة‮ »‬إبيانة‮« ‬مركز فوة وضمه إلي‮ ‬الاملاك العمومية‮..
‬ لذلك أصبح‮ »‬بيت الامة‮« ‬ملكا للأمة وهو مازال باقيا إلي‮ ‬اليوم بكل محتوياته وأثاثه وملابس سعد زغلول خاصة بدلة التشريفة والقميص‮ ‬اللذين‮ ‬يحتفظان بدماء سعد زغلول عندما اطلق عليه الرصاص عام‮ ‬1924‭.‬‮. ‬ودفعت الوزارة لصفية زغلول في‮ ‬تلك الايام مبلغا‮ ‬يزيد علي‮ ‬الخمسة عشر ألفا من الجنيهات وهو ثمن باهظ بالنسبة لعام‮ ‬1927‭.‬‮. ‬ذلك كان عهدا‮ ‬يعي‮ ‬قيمة المكان ويؤمن بأنه حق للوطن وعندما ماتت أم كلثوم عرض الورثة علي‮ ‬الحكومة أن تشتري‮ ‬الفيللا المطلة علي‮ ‬النيل مقابل‮ ‬2‮ ‬مليون جنيه ولم تهتم الحكومة أو ربما لم تفهم قيمة فيللا أم كلثوم،‮ ‬والورثة علي‮ ‬اي‮ ‬حال‮ ‬غير مطالبين بالحفاظ علي‮ ‬ذاكرة الأمة فباعوها وهدمت وأقيم مكانها برج قبيح ومنفر ولكن كتر خيرهم اطلقوا علي‮ ‬الاوتيل اسم أم كلثوم‮.‬
وأذكر جيدا هذا اليوم الحزين‮ ‬يوم هدم منزل أم كلثوم ولا أنسي‮ ‬سيدة مغربية كانت تحمل قطعة من بلاط المنزل وتبكي‮ ‬وتقول‮: »‬سأحتفظ بها لانها لامست أقدام أم كلثوم‮«..
‬ولو ان الحكومة وقتها اهتمت وفكرت قليلا لاكتشفت ان الاثنين مليون جنيه سوف تعود إلي‮ ‬خزينة الدولة في‮ ‬ظرف عام أو عامين علي‮ ‬الاكثر لو تحولت هذه الفيلا إلي‮ ‬متحف‮.. ‬لكنه للأسف كان هذا عهدا آخر اجتهد القائمون علي‮ ‬أمره في‮ ‬تحويل حدائق القناطر الخيرية وحديقة الحيوان والاسماك إلي‮ ‬خرابات وسارعوا بفك كوبري‮ ‬أبو العلا من اجل إقامة كوبري‮ ‬اسمنت علوي‮.. ‬وألقوا بأجزائه علي‮ ‬شاطئ النيل وزمانها تآكلت بفعل الصدأ والإهمال‮.. ‬وهذا الكوبري‮ ‬الجميل كان مكانا للنزهة وشم الهواء علي‮ ‬ايامنا والمهندس الذي‮ ‬صممه هو نفس المهندس الذي‮ ‬صمم‮ »‬برج إيفل‮« ‬في‮ ‬قلب باريس‮.. ‬وشوف الدنيا‮ »‬برج إيفل‮« ‬فين دلوقتي‮ ‬وكوبري‮ »‬أبوالعلا فين؟‮«..
‬والاهمال والتفريط متواصل وشغال الله‮ ‬ينور ورغم صدور قرار بمنع هدم الفيللات القديمة إلا انه قانون علي‮ ‬الورق وحي‮ ‬المعادي‮ ‬الجميل الظليل بأشجاره الكثيفة الرائعة والذي‮ ‬تزينه المنازل الصغيرة بحدائقها الصغيرة الخضراء بدأ‮ ‬يعاني‮ ‬من التخريب وكل عدة أسابيع تهدم إحدي‮ ‬الفيللات وتقام مكانها عمارة شاهقة واتوقع أنه في‮ ‬ظرف عدة سنوات قليلة سيتحول هذا الحي‮ ‬الراقي‮ ‬الجميل إلي‮ ‬صور قديمة بعد ان تنتصر الابراج الاسمنتية علي‮ ‬الحدائق والاشجار وسيكون بالكتير صورة من مدينة نصر‮.. ‬
وغيره وغيره الكثير ولكن أهمها هذه الأبراج المستفزة التي‮ ‬يطلقون عليها أبراج القلعة والتي‮ ‬تم الموافقة علي‮ ‬اقامتها بأساليب ملتوية‮ ‬غير معروفة وتسببت في‮ ‬مشاكل كثيرة
واخيرا استدعي‮ »‬زاهي‮ ‬حواس‮« ‬رئيس هيئة الآثار خبراء اليونسكو ليقولوا كلمتهم وقالوا انها سوف تشوه وتجرح بانوراما القلعة والمنطقة الاثرية بأكملها وسافر خبراء اليونسكو‮.. ‬واطمئن قلب زاهي‮ ‬حواس وتوقف العمل في‮ ‬الابراج كام شهر ثم بدأ مرة اخري‮ ‬في‮ ‬الارتفاع وكلما عبرت من امامها اجد ان العمل بها متواصلا والمبني‮ ‬مازال‮ ‬يعلو ويرتفع متحديا القوانين والمكان الاثري‮ ‬والجمال والتاريخ والسياحة وكل شيء وسوف نستيقظ ذات‮ ‬يوم لنري‮ ‬الابراج وقد ارتفعت واكتملت وتحولت إلي‮ ‬اوتيلات ومولات وموقف عربات وزحام وتشويه‮ ‬يشبه النبت الشيطاني‮ ‬الذي‮ ‬لا نعرف ما الذي‮ ‬اتي‮ ‬به‮..
‬وتولع القلعة وهيئة الآثار واليونسكو واحنا واللي‮ ‬يتشدد لنا وتاريخ هذه الامة المأسوف علي‮ ‬ذاكرتها وتراثها وآثارها‮.‬
في‮ ‬بداية هذا العهد تم أول اعتداء علي‮ ‬هذا المكان فقد تم شق طريق صلاح سالم في‮ ‬داخل حرم القلعة التي‮ ‬يبلغ‮ ‬عمرها حوالي‮ ‬الثمانمائة عام وقطع مجري‮ ‬العيون الذي‮ ‬يبلغ‮ ‬من العمر أكثر من خمسمائة عام ولكن في‮ ‬تلك الايام لم‮ ‬يقدر احد علي‮ ‬الاعتراض أو الكلام أما في‮ ‬هذه الايام فالمعارضون والمقاومون لهذه الابراج ليسوا قلة ولكن مستثمري‮ ‬هذا العهد اقوي‮ ‬من اصحابه القدامي‮ ‬وقادرون علي‮ ‬اختراق كل القوانين والعبث بكل ما هو قيم وهام وتشويه اثار قاومت الزمن بكل احداثه وكوارثه‮..
‬أموال نصير التي‮ ‬تشيد هذا المبني‮ ‬المنفـر الغريب علي‮ ‬المكان هي‮ ‬الحقيقة المرة التي‮ ‬نحياها هذه الايام فالاموال تصنع قوانينها وتشق طريقها وتصم آذانها وتعتبر ان اثار البلاد ملك خاص لها وليس لنا ولها ان تعبث ما تشاء وتخرب ما تشاء بفلوسها وربنا‮ ‬يستر علي‮ ‬القلعة نفسها ربما وجدت فلوس نصير طريقا لامضاء صغير تهد بموجبه القلعة وتحولها إلي‮ ‬ملاعب جولف كل شيء جائز في‮ ‬هذا العهد السعيد وحد‮ ‬يسلم لي‮ ‬علي‮ ‬هيئة الآثار واليونسكو بالمرة‮.‬
بقلم: د.لميس جابر
نقلاً عن الوفد

No comments: