Thursday, December 11, 2008

مصر تحتاج إلى أنبياء لقيادة الحركة السياسية

فى موعدنا كنت أمام باب منزله، فتح لى معتذراً عن رائحة البصل التى ظن أنها تنبعث منه،
باسمة قلت: ليست رائحة البصل ولكنها رائحة التسبيكة.
أجابنى بنصف ضحكة: نعم إنها الفاصوليا البيضاء التى أجيد طهيها وتعلمتها من جدتى وأمى،
فى تعجب قلت: «هل تجيد الطهى يا خال؟» أجابنى مؤكداًً: «وهل تريدين لنهال كمال أن تبشر البصل!»
وهكذا بتلقائيته بدأ جلستنا معه فى منزله، الذى يعكس عشقه للبساطة، ولكل شىء يتصل بجذوره فى «أبنود»، يحكى ويسرد، ويخرج من حديث ليدخل فى آخر، مشيراً بين لحظة وأخرى، إلى أن كلامه هذا مجرد «دردشة» فى الحب والسياسة والحياة.
من الحياة بدأ الحديث، مؤكداً أن الأيام المقبلة لن تكون أسهل، ولكن ستكون مقاومة الأجيال، الشابة لها أقل، والسبب، كما يقول، طبيعة تلك الأجيال التى عاشت عصر الاستهلاك وإعلانات اللبان ومطاعم «التيك آواى»، مقارناً بين جيله والجيل الحالى، الذى لم يقرأ كتاباً، بينما هم لم يتركوا شيئاً من دون قراءة، حتى «قراطيس الطعمية»، ولذا كان لكلامهم وزن.
وإلى الحب انتقل ليتحدث عن أيام الطفولة فى أحضان النيل والفضاء والأهل، والفقر أيضاً، وإلى السياسة اخترق الحوار قائلاً «إن قضايا الفساد المعلن عنها، مجرد بثور على جسد أنهكه المرض». الحديث مع الخال، لابد أن يبدأ من عند «فاطنة قنديل»، الأم التى منحته الحياة بربطها ركبتيه النحيلتين، بأشرطة من القماش كى تمسك بها ساقيه بعد مولده ، من شدة ضعفه وإصفرار وجهه. وهو ما يقول عنه: «ولدتنى أمى فى الحسومات، وهى أيام تسعة فى السنة القبطية، من يولد فيها من النادر أن يعيش، وإذا عاش يكون مثلى معلولاً»
. ورغم ضعف الوليد، ووجود ١٠ أبناء آخرين لدى الأم «فاطنة»، فإن إصرارها على حياته يُخلد فى الكتب، كانت تصعد الجبل مع كل غروب، تدعو وتتضرع لله كاشفة رأسها، أن يمنح وليدها الحياة، فيشب مرتبطاً بها ويقول: «كان غناء أمى أول ما سمعت، وكانت دموعها التى تتساقط على خدى مع كل ظلم تتعرض له، أو حزن يصيبها، تلهب حواسى ومداركى.
فنشأت وأنا مؤمن بأن أمهاتنا فى الصعيد حُماة حضارة، ففى زماننا كانت الثقافة شفاهية، وقد سمعت من أمى أحلى قصص وأجمل غناء، حتى إنها كانت تضحك معى بعدما اشتهرت بتأليف الأغانى عند زيارتى لأبنود، وتقول لى: فين يا واد قرشينات الغناوى اللى إنت بتقول لهم فى مصر إنها بتاعتك، وهىَّ غناوىَّ أنا؟.
لقد قاطعت إخوتى نحو ستة عشر عاماً، لأنها مرضت قبل وفاتها فنقلوها الى الإسماعيلية لدى شقيقتى، ودفنوها هناك، رغم معرفتهم بأخذها عهداً علىَّ، يحتم دفنها بجوار والدى فى قنا، وأن أكون متقدماً مشيعيهاً، ولذا فأنا لم أحضر وفاتها ولا جنازتها، وهو ما أحزننى بشدة حتى يومنا هذا».
علاقة الأبنودى بالأب، الذى يحكى عنه الكثير، كانت ذات أثر واضح فى حياته، حتى إنه خالفه فى كل شىء كان يفعله، وهو ما يرويه ضاحكاً: كان أبى بعيداً عنا، متجهماً كوالده، لم أره يضحك إلا مع أصدقائه، وعندما كان يرانى مقبلاً عليه وهو يضحك، يمسح وجهه بيده ليكشط الضحكة، ثم ينظر لى زاغراً: عايز إيه يا واد. وعندما نجحت فى التوجيهية، ذهبت له أخبره، فقال لى بحدة: «أمال كنت عاوز تسقط». كما كان ممسكاً فى إنفاق المال، حتى إنه كان يفرك القرش بشدة، قبل أن يمنحه لطالبه، ليتأكد أنه غير ملتصق بغيره، وكنت أضحك مع أصدقائى من إمساك أبى مردداً، إن كل القروش الممسوحة فى مصر خرجت من جيب الشيخ الأبنودى. ورغم الاختلافات بيننا فإننى مدين لهذا الشيخ الصارم، بعبدالرحمن الأبنودى، التقدمى المثقف.
فى خزانة طفولة عبدالرحمن الأبنودى، لابد أن تلمح صورة الجدة «ست أبوها»، تهدهد وتمنح الأمان لأحفادها، صانعة وجبات تمد أجسادهم النحيلة، بالدفء فى ليالى شتاء قارصة البرودة، رغم قلة المتاح، فمن يدها أكل المديدة، والعصيدة، والخبيصة، والمبروم، والمخروط، والمزبوبة، زادها فى صناعتها دقيق القمح ودقيق الشعير والزبد والعسل الأسود. وتكتمل الصورة فى حياة الصغير القابع فى قرية أبنود بصعيد مصر، فيخرج كغيره من أقرانه لرعى الغنم ويسبح فى فضاء الكون،
ويقول عن تلك الفترة: «كان لابد لى أن أكون شاعراً، ففى الرعى تقرأ الوجود، والألوان والأضواء، وتعيش الحياة وهى تُولد وتُظلم، فلا حدود للأضواء والخيال والمعرفة، التى يتيحها لك هذا العالم، فالرعى ليس مهنة سهلة ولكنه مهنة الأنبياء. هناك أيضاً جنى القطن، ومياه فيضان النيل، التى كانت تغمرنا حتى أوساطنا، ووقت الفراغ الذى كنا نقضيه فى صيد العقارب بأسياخ الحديد، كل هذا قتل بداخلنا الخوف وملأنا جرأة، ولذا كتبت الشعر بصفاء الحقول وعملية العمل».
ويصمت ثم يضيف مكملاً تأملاته: «لما كتبت أيامى الحلوة وقدمتها أنا وزوجتى نهال فى حلقات تليفزيونية، سألتنى نهال: هل أنت متأكد أنها كانت أياماً حلوة؟ قلت لها: بالطبع نعم، ولولا أنها كانت حلوة لما كنت أنا وأنت الآن نتحدث عنها فى التليفزيون، فالولد الفقير راعى الغنم، الذى ينتظر ما تصنعه جدته وأمه من طعام ساخن، ويجلس ليتدفأ بنيران الفرن، هو نفسه عبدالرحمن الأبنودى، الشاعر والكاتب، الذى كان يأكل العسلية عندما يمر بائعها كل عشرة أيام،
نعم كان هناك فقر بلا شك، ولكنه كان فقراً كريماً، لا يهين أحداً، كان فقراً «غنياً». أقاطعه قائلة: «وهل هناك فقر غنى وآخر فقير؟ فيجيبنى بسرعة: «طبعاً فالفقر الآن مهين ومذل لأصحابه، والفقير من أهل بلدى يشعر بالتناقض الشديد بين ما يحتاج إليه، وما يراه حوله، و تأتى «السياسات» لتتعامل مع الشعب الفقير على أنه شحاذ، ينتظر الإحسان، وليتهم يحسنون عليه بما يقيم قوته، ولكنهم يمنحونه (كرتونة) يسمونها باسم (الحزب الوطنى)، لا تُغنى فقيراً، ولا تُخرجه من وضعه الاجتماعى المهين»
. كان حلم الشيخ الأبنودى الأب، يتلخص فى زواج الأبناء من حوله، لتزيد بهم عزوته فى القرية، وتمنحه وظائفهم الحكومية، مهما كانت بساطتها، هالة من الوجاهة، ولكن الأبنودى الابن لم يكمل الحلم ككاتب محكمة فى قنا، فكان قرار الاستقالة، الذى يقول عنه: «الإنسان ينجب الأبناء ليحملوا اسمه، ويكونوا صورة منه، يحملوا ماضيه، ويستكملون مشواراً يتوهمه فى عقله، وعندما أتخيل المسافة بينى وأبى أجدها بعيدة جدا، كأننى لست ابنه، وعندما قدمت استقالتى من محكمة قنا، سقط أبى مريضاً، وتخيل أن البيت الذى تعب فى بنائه تهدم، حتى إن أهالى أبنود جميعاً، حاولوا إثنائى عن قرارى، ولكنهم فشلوا فى إقناعى».
يصمت رافعاً كوب الشاى إلى فمه، يرتشف بعضاً منه، ثم يضيف: «اليوم أتصور لو أن ابنتى جاءت لى وأخبرتنى بأنها ستسافر إلى أوروبا لإكمال تعليمها أو دراسة شىء جديد، فلن أعترض طريقها، مادامت ترى شيئاً تريد تحقيقه لمستقبلها، فأنا لم أعلمها أحسن تعليم، وأقتطع من قوتى لها كى تجلس بجوارى، حتى لو جاءتنى بعريس لا يرضينى سأقول لها رأيى فقط، وأترك لها القرار النهائى، حتى لو عادت لى مطلقة، فتلك تجربتها، لقد أيقظنا هذا الجيل من وهم شعاره (أن الأبناء امتداد للآباء) كل جيل يحيا حياته، ولا أحد يكمل مسيرة أحد.... اشربى الشاى».
كان الموعد مع الرحيل والاغتراب عن أبنود وناسها، انساق وراء نداهة القاهرة ليعيش بين أرجائها. كانت البداية مع أحد التنظيمات الشيوعية، التى يقول عن تجربته معها: «انضممت لكتيبة صغيرة اسمها (وحدة الشيوعيين)، أطلقت عليها (مدرسة تحفيظ الماركسية بالأجر) لأنها ساعدتنى فى قراءة الماركسية.
ولكننى سرعان ما اكتشفت أن تلك الوحدة خائبة فى العمل السياسى، فكل ما تعلمته منها هو الخوف من المخبر، وأنا لا أعرف الخوف، لأننى أقول قولى كما أريد، ولذا سرعان ما قدمت استقالتى منها، وقررت أن أكون حزباً بمفردى وأن يكون صوتى نابعاً من فكرى دون أن يُملى علىَّ أحد أفكارى». وأتعجب من حكاية الخال عن تلك الوحدة الشيوعية، التى انضم لها وهو ابن الشيخ الأبنودى، فيزيل تعجبى بقوله: «الشيخ الأبنودى كان (مأذوناً شرعياً) يحب الناس ويخفف عنهم، وكان يأتيه أحدهم ويقول له إنه حلف على زوجته يمين طلاق إن خرجت من المنزل، فيسأله أبى أى منزل كنت تعنيه، هذا أم ذاك؟ فيجيبه الرجل: «ذاك»، فيقول له أبى اذهب وعُد لبيتك وزوجتك، وفرج عن أهلك بذبيحة حتى لو كانت دجاجة، وهكذا كان أبى يرى أن الدين يسر لا عُسر.
وأجدنى أقارن بينه وعلماء الدين الآن، الذين تركوا الدين، وصعبوه على الناس، وتفرغوا لإقامة الدعاوى ضد المفكرين والكتاب، بينما البلد ينهار من حولهم وهم يجلسون ويتحدثون عن فتاوى التبرك ببول النبى، وإرضاع الكبير، وهو ما يعنى أنهم أُناس لم يغادروا الجاهلية». وتجيئه الفرصة كى يُبدع ويؤلف ويملأ الدنيا غناءً بدءاً بصوت محمد رشدى وليس انتهاء بعبدالحليم، وهو ما يقول عنه: «عندما حضرت للقاهرة، نشرت قطعة زجل عن دودة القطن فى مربع صلاح جاهين بالأهرام، وفى أحد الأيام، كنت أسير مع بعض الأصدقاء فى العتبة، فسمعت كلماتى تُغنى فى الإذاعة، وعلمت من صلاح أن الأستاذ الشجاعى أخذها بعد أن أعجبته وأعطاها لأحد الملحنين وأنه يريدنى أن أذهب إليه، فاقترضت بدلة شقيق الملحن إبراهيم رجب، وكان لونها أصفر فاق عاً جداً، وذهبت له، فسألنى عما إذا كنت شيوعياً؟ فأجبته بالنفى. فسألنى عما إذا كنت أعرف كتابة الأغانى، فقلت نعم، فطلب منى أن أقدم له ثلاثة أعمال، فكتبت أغنية (تحت الشجر يا وهيبة) و(اتمد يا عمرى اتمد) و(بالسلامة يا حبيبى) أعطوا الأغنية الثانية لمحمد قنديل، والثالثة لنجاح سلام، أما أغنية (تحت الشجر يا وهيبة) فلم تجد من يلحنها أو يغنيها، حتى جاء الفنان عبدالعظيم عبدالحق ولحنها، فقلت لهم، إن أنسب من يغنيها هو محمد رشدى، الذى يغنى أدهم الشرقاوى، ولم أكن أعرف أن اسمه محمد رشدى، وعلمت أنه أصيب فى حادثة كسر فيها ساقه. فذهبت له على قهوة التجارة، فعاملنى بتعال فى البداية، ولكنه غير أسلوبه بمجرد ذكرى اسم الأستاذ الشجاعى، وعرضت عليه الأغنية، التى قلبت حياة رشدى وباتت تغنى فى كل مكان وأصبح من نجوم الطرب، أتبعتها بأغنية (عدوية)، التى لحنها بليغ حمدى وطاف بها رشدى العالم».
وأسأله عن عبدالحليم، فيعود برأسه للوراء ماراً بيده على رأسه ويقول: «حليم خطفنى خطف، وليس صحيحاً أنه كان يحارب رشدى، فلكل منهما لونه وطبيعته، وقد ذكر لى رشدى أنه استغل شائعة محاربة عبدالحليم، كدعاية له. كما أن هناك فارقاً بين حليم ورشدى، فحليم كان يحضر الأغنية من لحظة ولادتها لحناً ثم كلمة، انتهاءً بوصولها للشكل النهائى، تماماً كالطعام اليابانى، الذى ترى مراحل تحضيره أمام ناظريك، بينما رشدى كان يأتى بعد الانتهاء من الأغنية تماماً.
ولم أختلف مع عبدالحليم إلا عندما قدمنا أغنية (التوبة) وهاجمت توزيعها، فغضب منى حليم وقال لى إن الأغنية بمجرد خروجها للجمهور، باتت سلعة لا يحق لى مهاجمتها، وكان معه حق».
أغانى وأشعار الخال تمتلئ بالشخصيات، التى يظن البعض أنها شخصيات من وحى خياله كمبدع، وهو ما ينفيه قائلاً: «كل الشخصيات فى شعرى حقيقية أنا مش مؤلف، ولا (نخاع) أنا أعيش الواقع، وأتواصل مع شخوصه وأدبياته وتفاصيله. على سبيل المثال شخصية (أحمد إسماعيل) تعبر عن ابن عمى محمد مصطفى، الذى علمنى الكثير من المهارات، التى مارستها فى طفولتى، كصيد العقارب واليمام والعصافير، وتسلق النخل. و«حراجى» كان هو الآخر يلعب معنا فى الطفولة، و(فاطنة عبدالغفار) هى شقيقتى فاطنة، التى تربطنى بها علاقة خاصة دوناً عن كل إخوتى، وهكذا ولكن مع ملاحظة أننى لا أنقل تلك الشخوص فوتوغرافياً، ولكننى أتعمق معهم شعرياً، وأقدم للناس تجربة إنسانية.
ففيلم (شىء من الخوف) على سبيل المثال، الذى كتبت له الحوار والأغانى، ومن يقرأ القصة الحقيقية له يجد فارقاً كبيراً بينها والفيلم الذى يقوم على محور وكالة العروس، وهو أمر كان يحدث يومياً فى بيتنا، لأن أبى مأذون، وبالتالى لما جاءنى المخرج حسين كمال بورق الفيلم، الذى كتب السيناريو له صبرى عزت، كى أكتب له الأغانى، وأعطانى مهلة أربعة أيام فقط لذلك الأمر، لم أصارحه بما سأفعله. ولكننى حبست نفسى فى الغرفة وقررت أن أكتب الحوار من جديد، وكلمت حسين كمال فى اليوم الأخير وطلبت منه تحضير شريط تسجيل ساعتين، وذهبت إليه وسجلت حوار كل شخصية بصوتى، هنا أدرك حسين ما فعلت، حتى انتهيت من التسجيل، فقام وعانقنى، فقلت له هذا هدية منى لك إنت وصلاح ذوالفقار المنتج، وطلبت عدم كتابة اسمى، ولكنهم أصروا وأعطى حسين لكل ممثل نسخة من التسجيل، كى يعرف طبيعة الأداء. وها هو الفيلم بات واحداً من أروع ما قدمت السينما المصرية».
أعود به من الذكريات للحاضر، الذى يسجل فيه السيرة الهلالية مع سيد الضوى تليفزيونياً، وأسأله عن سر حبه الشديد لتلك السيرة الشعبية التى سبق له تسجيلها صوتاً، فيقول: «السيرة الهلالية كالحُب الذى يتمكن منك، ومنذ سمعتها فى صغرى شعرت بأنها عالم مهول من الشعر، وكان أملى أن أسجلها. كانت المرة الأولى بعد النكسة، حينما أحضر لى حليم، جهاز تسجيل فرجعت لأبنود، وسجلتها كلها، والآن لم يعد باقياً من حفاظها سوى السيد الضوى، وقد سعدت بقرار عبداللطيف المناوى، رئيس قطاع الأخبار بالتليفزيون، بتسجيل السيرة، وأخشى أن تنتهى حياتى وحياة الضوى وتندثر السيرة معنا، التى أعتقد أنه إن لم يكن لها مكانة فى الضمير الشعبى، لما عاشت كل هذه السنين، فأبوزيد الهلالى تجسيد لبطل مفتقد، وتعبير عن أمة عربية واحدة، ولذا كانت السيرة تنتعش فى الشدائد التى تمر علينا». يصمت للحظة سارحاً فى لا شىء ثم يقول: «كثيرون يعلمون قصة التحاقى بكلية الآداب جامعة القاهرة فى السبعينيات كى أكمل دراستى، ولكنهم لا يعلمون أن السيرة الهلالية كانت السبب الحقيقى وراء ذلك، وكان ذلك قبل زواجى بنهال كمال، كنت أريد دراسة السيرة الهلالية بشكل صحيح، بعدما جمعتها وأخذت منى سنوات». يضحك وهو يتحدث ويضيف: «الحمد لله الليسانس شفع لى عند والد نهال، عندما تقدمت للزواج منها، لأنه كان يرفضنى للفارق العمرى بيننا، وعندما فشل فى إقناعها سألها عما أحمله من شهادات، تخيلى لو كنت ذهبت له من غير شهادة أيضاً». وهكذا ودون مقدمات دخل بنا فى دنيا عواطفه، ليتحدث عن قصة زواجه بالمذيعة التليفزيونية نهال كمال، التى كانت إحدى متابعات قلمه وأعماله، وفجأة تحولت إلى الحبيبة التى حاربت الدنيا من أجله، ويقول: «كانت نهال تنتمى لعالم غير عالمى، فوالدها رجل بترولى، عاش فترة طويلة فى أوروبا، وإلى الآن أتعجب من عظمته. فالرجل تقبلنى بعد أن أيقن أننا تربطنا عاطفة نبيلة وسامية، فنهال لها طبيعة خاصة وخجولة، وقد قالوا لها قبل الزواج إن سنى كبيرة والموت قريب منى، فقالت لهم لو عشت معه ثلاث سنوات فقط، ستكون كالعمر كله. وقد سألتنى قبل الزواج كم سنة سأحيا لها، فقلت لها ثلاث سنوات، فقالت لى بل سبعة. قلت لها إذا أنجبتى سأعيش لك سبع سنوات، وعندما أنجبت ابنتنا آية، قالت لى عليك أن تكمل معى عشر سنوات لأنجب مرة أخرى، فقلت لها أحاول، وها نحن متزوجان منذ ٢٣ سنة، فالحياة معها تجرى دون أن أشعر بها».
يقطع حديثنا تذكره وعاء الفاصوليا، فيجرى نحوه خوفاً من أن يحترق، ويعود قائلاً إنه انتهى من طهيها. ومن نار الفاصوليا إلى نار السياسة، ينتقل مسار الحديث، فأسأله عن مرحلة المعتقل التى سجن فيها فى ستينيات القرن الماضى فيقول: «لم يعتد علينا أحد فى عهد عبدالناصر، كنا البادئين بالمعارضة، والدولة ردت علينا بالاعتقال، والسجن فى عهد عبدالناصر كان أفضل من حالة اللاسجن الآن. وعموماً لا أحب الحديث عن تجربة السجن، لأننى لا أحترف النضال ولا أتخذها سبيلاً للتباهى كغيرى ممن يردد أننى هادنت الدولة وتعاملت معها، ولا يهمنى الرد لأننى مؤمن بأن هناك شيئاً اسمه الغد، سيتضح فيه كل شىء ويعرف فيه كل إنسان على حقيقته».
وأسأله: «وماذا سيقول الغد عن مصر اليوم؟» فيجيبنى: «سيقول إنه لم تمر علينا فترة أسوأ منها، بعد أن خطف لصوص الرأسماليين مصر، وتحكم أعداؤنا فينا بإرادتنا، أيام الملك كان هناك نسبة حياء، ولكننا الآن وفى ظل هذا اللون القبيح من الرأسمالية بتنا على استعداد لتسليم أى شىء، فتدهورت حياة الناس، ولذا نرى ما نراه من انفجارات بدءاً من حوادث تحرش، انتهاءً بالاعتصامات التى أراها تمهيدا لانفجار كبير لا يعلم أحد مدى خطورته، فالدولة عميت عن الهدف الحقيقى لوجودها وهو النهوض بالأمة، وقضايا مثل انهيار صخرة الدويقة وغرق العبارة بأهالينا والفساد الذى ملأ الدنيا، صارت مجرد بثور على جسد أنهكه المرض».
واستفسرت قائلة: «وماذا عن المواطن، ألا يوجد دور له؟» فيجيبنى بثقة العالم: «كل ثورة سياسية لها طليعة، ونحن لا نمتلك تلك الطليعة الآن، لماذا نجحت حركة الضرائب العقارية؟ لأنه كانت لهم قيادة، ومشكلة هذا الشعب الآن أننا جميعاً بتنا فراعنة، وزعماء، كل واحد يدعى امتلاك الحقيقة، ولدينا فوضى اختلط فيها اليسارى باليمينى بالإخوان.
وثوريتنا لا تتحرك أبعد من نطاق منتصف المدينة، نظن أن النضال السياسى هو الخروج فى مظاهرة وترديد الهتاف والعودة إلى البيوت، ستظل الدولة تغلبنا وتمارس علينا ما تمارسه وأكثر، وهى واثقة من أنه لا سبيل أمامنا، فمصر الآن بحاجة إلى أنبياء لقيادة الحركة السياسية، بعد أن بات كل من كتب كلمتين زعيماً، وكل من خرج فى مظاهرة ثورياً».
ويتصل الحديث ليصل بنا إلى تجربة المرض، التى يراها مرحلة آلمته، ولكنها لم تسلب منه روحه المرحة المبدعة، مؤكداً أنه لم يتم علاجه على نفقة الدولة، كما ردد البعض، ويضيف: «حدثت لى مشكلة أثناء علاجى فى مصر، فطلبت أحد المسؤولين على الهاتف، وقلت له أنا عبدالرحمن الأبنودى، فأجابنى: عبدالرحمن الأبنوى من؟ فأغلقت الهاتف فى وجهه، لأن جهله أو تجاهله لى أمر لا يعنينى، فأنا أعرف قيمة ذاتى، وقيمتى لدى الناس. أنا مثقف أقدامه (غارسة) فى الطين، والناس تعلم ذلك، لأنهم يشعرون بأننى أتكلم بلسانهم ولغتهم
المصرى اليوم- كتب-نشوى الحوفى

No comments: