Thursday, September 18, 2008

د. نوال السعداوي تكتب: صباح يوم ١١ سبتمبر ٢٠٠٨


عن أحلامي
من نومي العميق صحوت علي صوت مفزع، يشبه الانفجار، يأتي من تحت وسادتي، تصورت أن شريانا انفجر في رأسي، أو قنبلة إرهابية خرقت السقف، ثم اكتشفت أنه التليفزيون في غرفة نوم جارتي، التي تنام والجهاز في حضنها كأنما الزوج أو الأصح العشيق، فالنساء هنا في أمريكا، خاصة الأستاذات في الجامعات يعشن في غرف نوم بعيدة ما أمكن عن عش الزوجية السعيد.
تعودت منذ طفولتي أن أنام محتضنة وسادتي، حتي بعد الزواج لم أكف عن هذه العادة، التي أخذتها عن أمي، أو ربما هو أحد الجينات الموروثة عن جدتي، ربما تطور هذا الجين عبر الثورات البيولوجية المتعاقبة علي مدي القرون، المضادة لقيم العبودية والقوانين الذكورية.
رأيت عقارب الساعة تشير إلي السابعة صباح الخميس ١١ سبتمبر ٢٠٠٨، مضت سبعة أعوام منذ ما يسمونه هنا حادث ١١/٩، منذ جئت إلي أمريكا والقلق ينتابني علي صحتي أو حياتي أو موتي، لم أشعر بمثل هذا القلق في بلدي مصر تحت الأنظمة الاستبدادية، ربما عانيت القهرين السياسي والديني، لكني لم أقلق علي صحتي، بل كنت أشعر دائما بقوتين جسمية ونفسية للمقاومة والتحدي، لكن هنا في أمريكا تطاردني كلمة الإرهاب ليل نهار، بصوت جورج دبليو بوش الأجش أو غيره من الخناشير الرجال والنساء، مع الصور المتحركة فوق الشاشة عن سرطان الثدي، وجلطة المخ، والزهايمر والعته والعصاب والجنون.
وأنا أكره الأمراض والأطباء سواء بسواء، وأكره رائحة المستشفيات والدم، لم أدخل كلية الطب إلا إرضاء لأبي الذي مات منذ خمسين عاما عرفت من دراسة الطب أن العمل المنتج المبدع يجلب الصحة والسعادة، وعرفت ذلك أيضا من تجربتي في الحياة منذ طفولتي. عاشت جدتي الفلاحة مائة عام تعمل وتنتج وتبدع من الزرع في حقلها، ثم ماتت سليمة الجسد والعقل. لم تذهب في حياتها إلي طبيب ولم تشرب ملعقة دواء. كانت امرأة شديدة الحيوية والنشاط، شديدة المرح.
صدي ضحكتها المجلجلة لايزال في أذني، رغم موتها منذ أكثر من ستين عاما. كانت أيضا متمردة ثائرة تقود أهل قريتها ضد العمدة والملك والإنجليز، تغني منذ طفولتها مع الفلاحات: يا عزيز يا عزيز كبة تاخد الإنجليز.

مكان فوق الأرض للإبداع والتمرد
مددت يدي وضغطت علي مفتاح النور. اكتشفت أن لا شيء في جسدي ينزف الدم. استطعت أن أنهض من السرير وأمشي إلي المطبخ، أفتح الثلاجة وأشرب كوب ماء.
خفق قلبي بالسعادة، فأنا أعود إلي الحياة بعد الموت المؤقت، وبدأت علي الفور في وضع مشاريع المستقبل. ماذا أعمل من اليوم حتي أموت بقنبلة إرهابية أو بسرطان الثدي.
تذكرت شيئاً سعيداً بالأمس أثناء رياضة المشي اليومية في الصباح الباكر. فقد التقيت امرأة تجاوزت التسعين عاما تمشي بخطوة نشيطة سعيدة، تبادلنا الحديث وأدركت أنني سوف أعيش مثلها عشرين عاماً أخري بصحة جيدة.
أحلامي الطفولية لا تفارقني، أريد أن أكتب ما لم يكتب، أن أصنع فيلما سينمائياً لم يصنع، أن أقود ثورة في العالم لم تحدث، وأخيراً أن أخلق مكاناً فوق الأرض للمبدعين المتمردين من النساء والرجال، الذين يبحثون عن وطن آخر آمن وحر يبدعون فيه ويتمردون.

لماذا العودة إلي الدين في القرن الواحد والعشرين؟
يواكب التزايد في قوة المال والسلاح والإعلام وغياب العدل تزايد في قوة الدين ومحاولات تزييف الوعي وتحجيب العقول. تحتاج النظم الحاكمة الظالمة دائما الي قوة بعيدة غامضة غير مرئية لتبرير الظلم، لنشر الأوهام أهمها الوهم بأن الظلم والتفرقة بين البشر قانون إلهي من السماء وليس قانوناً وضعه البشر للطغيان والنهب والاغتصاب، لنشر الوهم بأن الذكورة أعلي درجة في الأنوثة، وبأن المرأة مكانها في البيت داخل المطبخ وفي السرير وإن أصبحت رئيسة دولة، لنشر الوهم بأن الفقر والغني من عند الرب وأن للفقراء قصوراً في السماء بعد الموت.
في جميع الأنظمة الحاكمة غرباً وشرقاً منذ نشوء العبودية يلعب التعليم والإعلام والدين والثقافة دوراً سياسياً رئيسياً لتثبيت هذه الأوهام في نفوس وعقول الناس منذ الولادة حتي الموت. يرضع الطفل والطفلة هذه الأوهام، تجري في عروقهم مع الدم، ترسخ في خلايا المخ والنخاع والعظم، لا يستطيع الإنسان أن يتحرر منها وإن اكتشف عقله الخديعة وخرج من الأسر يظل وجدانه أو نفسه أسيرة الوهم، عاجزة عن التحرر إلا بالجهد والمثابرة والإصرار علي الفهم والمعرفة.
هنا في الولايات المتحدة الأمريكية لايزال التعليم العام يحقن الأطفال بتعاليم دينية قائمة علي إرهابهم من نار الجحيم إن عصوا الأوامر أو إغرائهم بالجنة إن أطاعوا.
تدخل التناقضات والمعجزات إلي العقول لتعجزها عن التفكير العاقل المبني علي التجربة والملاحظة والاستنتاج، تتلاشي البديهيات العقلية وتحل مكانها أوهام يؤمن بها الأطفال باعتبارها حقائق لا تقبل الشك أو الجدل.
هنا في أمريكا يؤمن أغلب الناس بالسوق الحرة، وأنها حرة فعلا، كما يؤمنون بالانتخابات الحرة والديمقراطية والرأسمالية وأخيرا العولمة، بل الحروب أيضا، يتصورون أنها كلها أشياء موجودة مثل وجود الله والكنيسة والكتاب المقدس والفقر والموت والظواهر الطبيعية علي رأسها الهوريكين والتورنيدو والعواصف القادمة من المحيط، لا يساعد التعليم في الجامعات علي تغيير الطريقة التي يفكر بها أغلب الناس، حتي المعلومات العلمية عن تطور الكون وحقائق العلوم الجديدة لم تنجح في تغيير منهج التفكير القائم علي الإيمان الأعمي منذ الطفولة بأشياء لا تدخل العقل.

الخوف منذ الولادة حتي الموت
يرتكز التعليم والتربية والإعلام علي الخوف، يقتل الخوف منابع الفكر المبدع الخلاق، لا يتخلص الإنسان من الخوف وإن حاول، تساعد اللغة علي ترسيخ الخوف واعتباره فضيلة، مثلا حين يمدحون شخصا هنا يقولون إنه يخاف عقاب الله. الخوف والعقاب هما أساس التعليم وليس حب العلم أو حب المعرفة أو حب الله، فالخوف والحب لا يجتمعان في قلب واحد.
تفلت من هذا السجن المحيط بالعقل قلة من المبدعين النساء والرجال أصحاب الشجاعة في البحث والتنقيب عن الحقيقة. بعضهم ينال عقابا يصل إلي السجن أو النفي أو الموت، يذكرنا التاريخ بهذه الشخصيات العظيمة أمثال سقراط وجاليليو وابن رشد وغيرهم من مبدعي الشرق والغرب، الذين دفعوا من أمنهم وحياتهم الثمن لننعم نحن باكتشافاتهم الفكرية اليوم.
يؤمن أغلب الناس هنا بالكتاب المقدس دون أن يقرأوه، يرددون آياته في الكنيسة أيام الأحد دون أن يفهموه، وقد يرفضون الدين كله إلا أنهم لا يتخلصون من وجدانهم الطفولي، من الحاجة إلي الإيمان بشيء يعلو قدرة العقل، شيء غامض وغير مرئي.

العودة إلي الروحانيات
من هنا انتشار هذه الموجة الجديدة التي تسمي العودة إلي الروحانيات. أغلب زملائي وزميلاتي هنا من أساتذة الجامعة ينتمون إلي هذه الحركة الروحانية الجديدة، حتي النساء اللائي ينتمين إلي الفكر النسائي المتحرر (الفيمنيست) يتافخرن بالعودة إلي الروحانيات، غير مدركات أن الفصل بين المادة والروح أو الجسد والعقل، هي فكرة وهمية عبودية، وهي الأساس الذي يفصل بين المرأة باعتبارها الجسد، والرجل باعتباره الروح أو العقل، وهي الفكرة التي يرفضها الفكر النسائي الفيمينيست المتحرر الذي ينتمون إليه.
تدين باراك أوباما وسارة بالين في المعركة الانتخابية
وتلعب المصالح السياسية والاقتصادية دوراً في التعصب الديني والقومي هنا في أمريكا، وقد تملق باراك أوباما الكنيسة والتيارات الأصولية المسيحية واليهودية، حتي يكسب مزيداً من الأصوات في حملته الانتخابية الرئاسية. في خطبة له بمناسبة الذكري الستين لدولة إسرائيل (ذكري النكبة) أعلن أن إسرائيل وأمريكا دولة واحدة وأي اعتداء علي أمن إسرائيل هو اعتداء علي أمن أمريكا، وارتدي أوباما الطاقية اليهودية في زيارته لإسرائيل، مثلما فعل كل رؤساء أمريكا قبله. لم يذكر أوباما أن دولة إسرائيل قامت علي القوة العسكرية والعنف والبطش واغتصاب أرض الشعب الفلسطيني وقتله وتشريده.
أما سارة بيلان، المرشحة عن الحزب الجمهوري لتكون نائبة الرئيس الأمريكي، فهي في تدينها أشد خطورة من باراك أوباما. أنها تعتبر الحرب ضد العراق مهمة إلهية أمر بها المسيح، ومشروع الغاز في ولايتها ألاسكا هو مشروع من عند الله، وأن الله أرسلها إلي ألاسكا لتنفذ المشروع وإن لم يؤمن الناس في ألاسكا بمشروع الله فلن يحققه الله مهما هي بذلت من جهود. وتخطب سارة بالين في الناس مثل القسس ويشتعل الحماس الديني المسيحي ضد الأديان الأخري.
يقاوم قليل من ذوي الشجاعة الأدبية هذا الهذيان الديني محذرين من خطورة التفرقة بين الناس علي أساس الدين، إلا أن وسائل الإعلام الكبري تتجاهل هذه الأصوات تحت تأثير المصالح الاقتصادية والسياسية للحزب الجمهوري وحكومة جورج دابليو بوش.

غياب الحركة النسائية وحركات التحرير المتقدمة في أمريكا
تحت وطأة الضربات السياسية المتعاقبة خلال العقود الماضية تبددت قوي حركات التحرير في أمريكا مثل غيرها من بلاد العالم. زادت شراسة المال والسلاح والإعلام والتدين الخادع، زادت الحروب العسكرية والاقتصادية والإعلامية والدينية والطائفية، لم نعد نسمع صوت حركات المرأة التحررية التي ارتفعت خلال الستينيات من القرن الماضي داخل أمريكا وخارجها، حتي حركات التحرر اليسارية والتقدمية تبعثرت وخفت صوتها، علي رأسها حركة المنتدي الاجتماعي العالمية، التي نجحت في تنظيم مؤتمراتها في بورتو أليجري ومومباي وانتشر شعارها: عالم جديد ممكن بل ضروري.
لم أشعر بوجود هذه الحركات خلال وجودي بالولايات المتحدة الأمريكية منذ بداية عام ٢٠٠٧. حين سمعت صوت سارة بالين يدوي في أجهزة الإعلام الكبري الأمريكية بذلك الهوس الديني ضد حقوق الفقراء والنساء تصورت أن الحركة النسائية ستصحو من نومها، سوف تشعر بالخطر علي منجزاتها، سوف تعيد تنظيم نفسها وتتأهب للمعركة والدفاع عن حقوقها، إلا أنني لم أسمع شيئاً حتي كتابة هذا المقال.
صوت سارة بالين لايزال يدوي عبر الأثير، تغطي الحروب الدموية بكلام من عند الله، تعلن أن عملية الإجهاض الطبية ضد إرادة الله، أن الله هو الذي يصنع الأجنة في أرحام النساء، مثلماً صنع اليسوع في رحم السيدة مريم العذراء.

جارتي الفلاحة في كفر طحلة عام ١٩٣٧
حين تتحدث ساره بالين عن الأمومة والحمل وإرادة الله تذكرني بجارتنا الفلاحة الأمية في قريتي كفر طحلة عام ١٩٣٧ حين كنت طفلة في السادسة من عمري.
كان لجارتنا خمسة من الأطفال مثل سارة بالين أحدهم طفل معوق متخلف عقلياً مثل طفل ساره بالين. كانت الجارة تؤمن مثل ساره أن إرادة الله تعلو علي علم الأطباء وأدويتهم. وقد ماتت جارتنا، وهي تلد طفلها السادس، إلا أن سارة بالين أشد خطورة من جارتي الفلاحة في القرية، لأن سارة بالين أن أصبحت رئيسة أمريكا أو نائبة الرئيس فسوف يتضاعف أعداد القتلي في العالم، سوف يزيد عدد الشعوب المغتصبة المطرودة من أرضها، المسلوبة مواردها، إن النساء من مثيلات سارة بالين أشد خطورة من زملائهن الرجال أو رؤساهن أو أزواجهن أو الرجال الجلادين الطغاة.
في أذني لايزال صوتها يدوي مرتعشاً بلذة شبه أورجازمية وهي تتحدث عن الحرب في العراق وزيادة التسليح والقمع. إنها تحلم بإراقة الدماء في العراق أكثر من إراقة البترول. إنها تفخر باحتضانها سلاحها العسكري في سريرها أثناء النوم. إنها تطلق الرصاص في أحلامها علي البشر وحيوانات الغابة سواء بسواء.

أحد دروس ١١ سبتمبر ٢٠٠١
لاشك أن سقوط برجي التجارة في نيويورك يوم ١١ سبتمبر ٢٠٠١ وموت الآلاف من الأبرياء كان درساً قاسياً للشعب الأمريكي، لكن الاستفادة من الدرس تزداد بازدياد قسوته. وقد أدرك الناس هنا أن جميع الأديان وليس الإسلام فقط تلعب دوراً رئيسياً في إشعال الحروب العسكرية والطائفية وتقسم الناس إلي فرق متناحرة دموية تكفر بعضها البعض.
وأدرك الناس أيضا أن خطر الإرهاب أشد حين يأتي من داخل أمريكا عنه حين يأتي من الخارج، إلا أن هذا الإدراك سرعان ما تطمسه الدعاية السياسية الإعلامية القائمة علي التخويف من أجل السيطرة وتعمية العقول.
لا يمر يوم دون أن تبث أجهزة الإعلام وخطب جورج بوش عن بث الخوف في قلوب الناس، الخوف من ضربة إرهابية قادمة قريباً جداً، قنبلة إسلامية صنعتها التيارات الأصولية الإسلامية، مع أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة.
هكذا يضيع الدرس الثمين ويتخبط الناس لا يعرفون الحقائق من الأوهام، ويصبح الدين أو الروح أو الله أو الكنيسة ملجأهم الوحيد للشعور بالأمن والسلام. وهناك أمل وحيد لإنقاذ هذا الشعب الأمريكي من وطأة الخوف.
أن تعود حركات التحرير التقدمية إلي النشاط ومنها الحركة النسائية وحركات الشباب والسود الأفارقة الأمريكيين، وأيضاً حركات التحرير في العالم ومنها حركة المنتدي الاجتماعي العالمية.
هذه الحركات يمكن أن تحدت عالمياً ومحلياً في كل بلد أن تقضي علي هذه الردة الخطيرة داخل أمريكا وفي العالم كله. لابد من رفع شعار فصل الدين عن الدولة، ألا يكون الدين مصدراً للقوانين أو الدستور أو مناهج التعليم أو لوائح العمل السياسي أو الاجتماعي أو غيرها. ألا يقسم الناس علي أساس الدين أو الجنس أو الجنسية أو الطبقة أو اللغة أو الثقافة أو الهوية أو ما تسمي الخصوصية الثقافية.
أصبحت كلمة الهوية سلاحاً يقسم الناس مثل سلاح الدين والخصوصية الثقافية. إن الحرية أو الديمقراطية الحقيقية تتعارض مع تقسيم الناس حسب اختلافاتهم الدينية أو الثقافية أو الجنسية أو غيرها، لكن كلمة الديمقراطية أصبحت سلاحاً لتبرير الحرب والاغتصاب مثل كلمة الدين أو حقوق الإنسان أو حتي حقوق المرأة.
تتحدث سارة بالين عن حقوق المرأة، لكن أفكارها كلها ضد حقوق المرأة. كيف يمكن للملايين المشاهدين لـ «سي. إن. إن» وفوكس نيوز أن يفرقوا بين الحقيقة والوهم، هذا هو التحدي الأكبر في هذا القرن الواحد والعشرين وعصر ما بعد الحداثة.

أتلانتا، جورجيا
١١ سبتمبر ٢٠٠٨

No comments: