حركة الاحتجاج الشعبية التي قمعتها ديكتاتورية الانقلاب العسكري في بورما قبل اسبوع، لها معادلتها ولنسميها حسبة بورما ، فهي وبعناصر (أرقام الحسبة) تتشابه، واحيانا تتطابق، امام المرآة، مع معادلات الشرق الاوسط، ولنسمها حسبة برما ، خاصة بتماثل تواريخ ك 23، و26، واشهر كمارس ويوليو، اذا ما قارنا الحسبة الشهيرة بالاقل شهرة.
انتفاضة برما، التي تطورت من ردة فعل لزيادة اسعار الوقود الى حركة شعبية تقول «كفاية» للديكتاتورية العسكرية، تكررت بضعة مرات خلال 45 عاما من حكم العسكرتاريا.
فهي ليست المرة الاولى التي يشترك فيها الكهنة البوذيون، رغم انهم مسالمون ولا يعرف العنف لقلوبهم سبيلا، لتقابلهم الديكتاتورية العسكرية الحاكمة بوحشية دموية في كل مرة.
بعد استقلالها في يناير 1948، كجمهورية ديموقراطية ببرلمان منتخب، من مجلسين، قفزت بورما للمسرح العالمي عام 1961 بانتخاب سفيرها الدائم في الامم المتحدة، أو ثانت (22 يناير 1909 ـ 25 نوفمبر 1974) كاول اسيوي لمنصب السكرتير العام للمنظمة.
وكبلاد حسبة برما، داس الحذاء العسكري المؤسسات الديموقراطية في بورما عشر سنوات بالضبط بعد انقلاب 1952 الذي اطاح الشرعية الدستورية في مصر.
الجنرال ني وين (14 مايو 1911 ـ 5 ديسمبر 2002) الذي تزعم الحكومة الانتقالية في بورما منذ اكتوبر 1958، عين نفسه رئيسا لـ«مجلس قيادة الثورة» عام 1960، قبل قيادته انقلاب 2 مارس 1962، واغتياله الديموقراطية بإلغاء الأحزاب بمرسوم جمهوري في 23 مارس 1964، عشر سنوات بالضبط بعد اجهاز الكولونيل جمال عبد الناصر على الديموقراطية المصرية بمرسوم الغاء الاحزاب، في ازمة «مارس» 1954.
رفع وين شعار «الطريق الى الاشتراكية»، مثل لافتات حسبة برما كـ«مجلس قيادة الثورة»، و«الطريق الاشتراكي» التي سبقته الانقلابات العسكرية الى اشهارها في وجوه مواطنيها من دمشق شمالا الى صنعاء جنوبا، ومن بغداد شرقا الى طرابلس غربا.
قبض الجنرال وين، على «زمارة رقبة» الشعب لـ26 عاما (ستجد الرقم في حسبة برما) ثم 12 عاما أخرى بعد «انتخابه»، بالطريقة الثورية الاشتراكية اياها، رئيسا لـ«الجمهورية الاشتراكية لاتحاد بورما» في 4 مارس 1974، ولنتذكر بيان مارس 1964 للكولونيل ناصر12 عاما بعد انقلابه.
اشهر ضربات الجزاء التي شاطها الجنرال في المباراة الطويلة ضد شعبه كانت في نوفمبر 1974 بعد تحول جنازة الدكتور ثانت الى مظاهرة تطالب بعودة الديموقراطية، فقتل وجرح المئات وتعرض الآلاف للتطهير العرقي والسجن.
واصبح التعذيب، الذي شمل اطفالا دون الخامسة، لـ«قلة ادبهم» او للانتقام من ذويهم، ماركة مسجلة لحكومة العسكر.
استقال وين عام 1988 في 23 يوليو (رقم مشهور في حسبة برما)، ليخلفه جنرال آخر، ساو مونج (1928 ـ 1997) متراسا «مجلس اعادة القانون والانضباط».
وعندما تحرك المواطنون والكهنة سلميا بعد اسبوعين مطالبين بعودة الديموقراطية، استجاب الجنرال مونج بانقلاب عسكري دموي راح ضحيته الآلاف في سبتمبر 1988، وظل مونج جاثما على صدر الشعب حتى ازاحه عزرائيل في يوليو 1997.
ومثل شروط حسبة برما، ورث تركة مونج نائبه الجنرال ثان شو الذي لقب نفسه بـ«رئيس مجلس الدولة للسلام والتنمية»، الى جانب رئاسته «لكل حاجة» اخرى فهو «الزعيم الأوحد».
غير الجنرال شو العاصمة، والعلم، واسم البلاد من بورما الى اتحاد ميانمار، كشغف زعماء حسبة برما الشموليين باحتقار اسماء بلادهم واستبدالها باخرى لاعلاقة لها بتاريخ أو حضارة الامم؛ كشطب الكولونيل ناصر لمصر وتعليق يافطة «الجمهورية العربية المتحدة»، أو كلعن مرشد الاخوان المسلمين لمصر وحضارتها «بطزاته» العلنية الثلاث، أو كمضغ كولونيلي لليبيا ليتضخم اسمها بعد الهضم إلى «الجماهيرية العربية الاشتراكية العظمى».
ومثلما أدارت القوى العظمى ظهرها لمعاناة شعوب حسبة برما، فإنها ـ باستثناء الضغوط الأمريكية والأوروبية الديبلوماسية ـ تتجاهل دموية نظام شو، وحرق جيشه للقرى المتاخمة لحدود تايلاند، وابادة سكانها بعد رفع الاقليات للسلاح لمواجهة التطهير العرقي. اما الجارتان الكبيرتان، الصين والهند، فسعيدتان باستقرار الديكتاتورية واستمرار تجارة الحجار الكريمة والاخشاب النادرة من غابات بورما التى لا يصل دخلها للشعب، وانما لجيوب الطغمة الحاكمة.
الفارق بين الحسبتين، بورما، وبرما، ان تضحيات الكهنة كانت لدعم الحركة الليبرالية الديموقراطية من مختلف الاديان والعلمانيين، ولم تدفع عقود القهر الدموي تحويل الدين الى ايديولوجية سياسية.
روحانية الكاهن البوذي المسالم تجعل اقصى درجات تمرده الصيام او السير في مظاهرة صامتة، وقدسيته في المجتمع، تشبه قدسية رجال الدين في بلاد حسبة برما ايام زمان، عندما كان العامة يقبلون اياديهم احتراما لترفعهم عن ملذات الدنيا ونفاق السياسة.
كهنة بورما يتركون الناس في حالهم، يأكلون ويشربون ويرتدون ما يحلو لهم ويستمتعون بأوقاتهم، ويتفرغون في معابدهم للصلاة من اجل السلام أو في مسيرات صامتة دعما لمطالب الشعب. ولا يسعى الكهنة للثروة بالافتاء في توظيف الاموال باسم الدين، ولا يؤدلجون عقيدتهم بتشكيل أحزاب دينية تجاهد لتأسيس امبراطورية عقائدية أو «أمة» تضم الشعوب التي تعتنق البوذية.
ورغم تعرض كهنة بورما للاغتيال والسجن والضرب والتعذيب وتدنيس معابدهم، فلم يفت احدهم بشرعية القنابل في الاسواق، أو يزين «الشهادة» بالأحزمة الناسفة بالوعود بزواج الحور العين.
أما صحفيو حسبة برما فيهاجمون، بغوغائيتهم المعهودة، رجال دين اجلاء افتوا بنهي الشباب عن الانخراط في صفوف الإرهابيين لاغتيال الابرياء في العراق.
في حسبة بورما ضحى الآلاف في تكرار محاولات استعادة الديموقراطية.
حسبة برما تشمل تسعة أو عشرة أمم تخنقها قبضات الانقلابات العسكرية منذ الخمسينات، ونادرا ما تتحرك مطالبة بالديموقراطية.
ثورة 1919 الشعبية بزعامة سعد باشا زغلول ورفاقه، افرزت دستور 1923 العظيم والحقبة الليبرالية الديموقراطية البرلمانية التعددية (1922 ـ 1952) الأفضل في تاريخ الأمة المصرية، لكننا لا نرى اليوم سوى حركة «كفاية». صحيح انها اعادت تقديم ثقافة الاحتجاج والتظاهر السلمي للشارع المصري، لكن اخترقها الاسلاموجية والقومجية اشد الناس عداوة للديموقراطية.
ولم نسمع من المعارضة مطلبا واحدا بالتراجع عن «خيبة» 52 أو إعادة دستور 23 المعروف بـ«الدستور باشا».
بلدان حسبة برما نادرا ما تشهد مظاهرة ضد القاء البوليس الناس من الشبابيك أو تطالب بعودة دستورية ما قبل الانقلابات، بينما تغرقها المظاهرات المناهضة لمعاهدات السلام والمطالبة بمحاربة اسرائيل، واكثرها في بلدان لا خصومة أو حدود لها مع اسرائيل!
وتعشق مظاهرات تأييد ديكتاتور شتم امريكا، ولا تمل من مسيرات تطالب الزعيم الأوحد بالصمود والتصدي (لا نعرف لمن بالضبط) والاستعداد لمقدم ام المعارك، واخرى تجدد مبايعته وتناشده البقاء بعد النكسة أو قبل الوكسة.
لا توجد معادلة تلخص حسبة برما اليوم أكثر من انتشار مظاهرات المطالبة بـ«تخليص» العراق من نظام ديموقراطي منتخب هو الاول منذ انقلاب 1958 الدموي الذي هللت له جماهير الوحدة العربية الاشتراكية من المحيط الى الخليج
انتفاضة برما، التي تطورت من ردة فعل لزيادة اسعار الوقود الى حركة شعبية تقول «كفاية» للديكتاتورية العسكرية، تكررت بضعة مرات خلال 45 عاما من حكم العسكرتاريا.
فهي ليست المرة الاولى التي يشترك فيها الكهنة البوذيون، رغم انهم مسالمون ولا يعرف العنف لقلوبهم سبيلا، لتقابلهم الديكتاتورية العسكرية الحاكمة بوحشية دموية في كل مرة.
بعد استقلالها في يناير 1948، كجمهورية ديموقراطية ببرلمان منتخب، من مجلسين، قفزت بورما للمسرح العالمي عام 1961 بانتخاب سفيرها الدائم في الامم المتحدة، أو ثانت (22 يناير 1909 ـ 25 نوفمبر 1974) كاول اسيوي لمنصب السكرتير العام للمنظمة.
وكبلاد حسبة برما، داس الحذاء العسكري المؤسسات الديموقراطية في بورما عشر سنوات بالضبط بعد انقلاب 1952 الذي اطاح الشرعية الدستورية في مصر.
الجنرال ني وين (14 مايو 1911 ـ 5 ديسمبر 2002) الذي تزعم الحكومة الانتقالية في بورما منذ اكتوبر 1958، عين نفسه رئيسا لـ«مجلس قيادة الثورة» عام 1960، قبل قيادته انقلاب 2 مارس 1962، واغتياله الديموقراطية بإلغاء الأحزاب بمرسوم جمهوري في 23 مارس 1964، عشر سنوات بالضبط بعد اجهاز الكولونيل جمال عبد الناصر على الديموقراطية المصرية بمرسوم الغاء الاحزاب، في ازمة «مارس» 1954.
رفع وين شعار «الطريق الى الاشتراكية»، مثل لافتات حسبة برما كـ«مجلس قيادة الثورة»، و«الطريق الاشتراكي» التي سبقته الانقلابات العسكرية الى اشهارها في وجوه مواطنيها من دمشق شمالا الى صنعاء جنوبا، ومن بغداد شرقا الى طرابلس غربا.
قبض الجنرال وين، على «زمارة رقبة» الشعب لـ26 عاما (ستجد الرقم في حسبة برما) ثم 12 عاما أخرى بعد «انتخابه»، بالطريقة الثورية الاشتراكية اياها، رئيسا لـ«الجمهورية الاشتراكية لاتحاد بورما» في 4 مارس 1974، ولنتذكر بيان مارس 1964 للكولونيل ناصر12 عاما بعد انقلابه.
اشهر ضربات الجزاء التي شاطها الجنرال في المباراة الطويلة ضد شعبه كانت في نوفمبر 1974 بعد تحول جنازة الدكتور ثانت الى مظاهرة تطالب بعودة الديموقراطية، فقتل وجرح المئات وتعرض الآلاف للتطهير العرقي والسجن.
واصبح التعذيب، الذي شمل اطفالا دون الخامسة، لـ«قلة ادبهم» او للانتقام من ذويهم، ماركة مسجلة لحكومة العسكر.
استقال وين عام 1988 في 23 يوليو (رقم مشهور في حسبة برما)، ليخلفه جنرال آخر، ساو مونج (1928 ـ 1997) متراسا «مجلس اعادة القانون والانضباط».
وعندما تحرك المواطنون والكهنة سلميا بعد اسبوعين مطالبين بعودة الديموقراطية، استجاب الجنرال مونج بانقلاب عسكري دموي راح ضحيته الآلاف في سبتمبر 1988، وظل مونج جاثما على صدر الشعب حتى ازاحه عزرائيل في يوليو 1997.
ومثل شروط حسبة برما، ورث تركة مونج نائبه الجنرال ثان شو الذي لقب نفسه بـ«رئيس مجلس الدولة للسلام والتنمية»، الى جانب رئاسته «لكل حاجة» اخرى فهو «الزعيم الأوحد».
غير الجنرال شو العاصمة، والعلم، واسم البلاد من بورما الى اتحاد ميانمار، كشغف زعماء حسبة برما الشموليين باحتقار اسماء بلادهم واستبدالها باخرى لاعلاقة لها بتاريخ أو حضارة الامم؛ كشطب الكولونيل ناصر لمصر وتعليق يافطة «الجمهورية العربية المتحدة»، أو كلعن مرشد الاخوان المسلمين لمصر وحضارتها «بطزاته» العلنية الثلاث، أو كمضغ كولونيلي لليبيا ليتضخم اسمها بعد الهضم إلى «الجماهيرية العربية الاشتراكية العظمى».
ومثلما أدارت القوى العظمى ظهرها لمعاناة شعوب حسبة برما، فإنها ـ باستثناء الضغوط الأمريكية والأوروبية الديبلوماسية ـ تتجاهل دموية نظام شو، وحرق جيشه للقرى المتاخمة لحدود تايلاند، وابادة سكانها بعد رفع الاقليات للسلاح لمواجهة التطهير العرقي. اما الجارتان الكبيرتان، الصين والهند، فسعيدتان باستقرار الديكتاتورية واستمرار تجارة الحجار الكريمة والاخشاب النادرة من غابات بورما التى لا يصل دخلها للشعب، وانما لجيوب الطغمة الحاكمة.
الفارق بين الحسبتين، بورما، وبرما، ان تضحيات الكهنة كانت لدعم الحركة الليبرالية الديموقراطية من مختلف الاديان والعلمانيين، ولم تدفع عقود القهر الدموي تحويل الدين الى ايديولوجية سياسية.
روحانية الكاهن البوذي المسالم تجعل اقصى درجات تمرده الصيام او السير في مظاهرة صامتة، وقدسيته في المجتمع، تشبه قدسية رجال الدين في بلاد حسبة برما ايام زمان، عندما كان العامة يقبلون اياديهم احتراما لترفعهم عن ملذات الدنيا ونفاق السياسة.
كهنة بورما يتركون الناس في حالهم، يأكلون ويشربون ويرتدون ما يحلو لهم ويستمتعون بأوقاتهم، ويتفرغون في معابدهم للصلاة من اجل السلام أو في مسيرات صامتة دعما لمطالب الشعب. ولا يسعى الكهنة للثروة بالافتاء في توظيف الاموال باسم الدين، ولا يؤدلجون عقيدتهم بتشكيل أحزاب دينية تجاهد لتأسيس امبراطورية عقائدية أو «أمة» تضم الشعوب التي تعتنق البوذية.
ورغم تعرض كهنة بورما للاغتيال والسجن والضرب والتعذيب وتدنيس معابدهم، فلم يفت احدهم بشرعية القنابل في الاسواق، أو يزين «الشهادة» بالأحزمة الناسفة بالوعود بزواج الحور العين.
أما صحفيو حسبة برما فيهاجمون، بغوغائيتهم المعهودة، رجال دين اجلاء افتوا بنهي الشباب عن الانخراط في صفوف الإرهابيين لاغتيال الابرياء في العراق.
في حسبة بورما ضحى الآلاف في تكرار محاولات استعادة الديموقراطية.
حسبة برما تشمل تسعة أو عشرة أمم تخنقها قبضات الانقلابات العسكرية منذ الخمسينات، ونادرا ما تتحرك مطالبة بالديموقراطية.
ثورة 1919 الشعبية بزعامة سعد باشا زغلول ورفاقه، افرزت دستور 1923 العظيم والحقبة الليبرالية الديموقراطية البرلمانية التعددية (1922 ـ 1952) الأفضل في تاريخ الأمة المصرية، لكننا لا نرى اليوم سوى حركة «كفاية». صحيح انها اعادت تقديم ثقافة الاحتجاج والتظاهر السلمي للشارع المصري، لكن اخترقها الاسلاموجية والقومجية اشد الناس عداوة للديموقراطية.
ولم نسمع من المعارضة مطلبا واحدا بالتراجع عن «خيبة» 52 أو إعادة دستور 23 المعروف بـ«الدستور باشا».
بلدان حسبة برما نادرا ما تشهد مظاهرة ضد القاء البوليس الناس من الشبابيك أو تطالب بعودة دستورية ما قبل الانقلابات، بينما تغرقها المظاهرات المناهضة لمعاهدات السلام والمطالبة بمحاربة اسرائيل، واكثرها في بلدان لا خصومة أو حدود لها مع اسرائيل!
وتعشق مظاهرات تأييد ديكتاتور شتم امريكا، ولا تمل من مسيرات تطالب الزعيم الأوحد بالصمود والتصدي (لا نعرف لمن بالضبط) والاستعداد لمقدم ام المعارك، واخرى تجدد مبايعته وتناشده البقاء بعد النكسة أو قبل الوكسة.
لا توجد معادلة تلخص حسبة برما اليوم أكثر من انتشار مظاهرات المطالبة بـ«تخليص» العراق من نظام ديموقراطي منتخب هو الاول منذ انقلاب 1958 الدموي الذي هللت له جماهير الوحدة العربية الاشتراكية من المحيط الى الخليج
عادل درويش
الشرق الأوسط - 6/10/2007
No comments:
Post a Comment