تكن الأوضاع، السياسية والاجتماعية والثقافية، في مصر قبل الثالث والعشرين من يوليو/تموز عام 1952 بتلك الجودة التي من الممكن أن يُفتخر بها كل الفخر، ولكنها أيضاً لم تكن بذاك السوء الذي صوره النظام الجديد بعد الثالث والعشرين من يوليو، والأمور نسبية في أية حال. كان هنالك اقتصاد حر أفرز رجالاً مثل طلعت حرب ومعه النهضة المصرفية المصرية، وكل تلك المشروعات الاقتصادية التي جعلت الاقتصاد المصري قوياً لدرجة أن سعر صرف الجنيه المصري كان يفوق الجنيه الإسترليني في تلك الأيام، وكان باشوات مصر يقضون صيفهم في أوروبا وهم يحملون الجنيه المصري القابل للصرف في أي مكان في العالم.
صحيح أن قلة من كبار الرأسماليين، مصريين وغير مصريين، كانوا هم من يتحكم في الاقتصاد المصري تلك الأيام، ولكنهم كانوا أصحاب استثمارات ومشاريع وظفت شرائح كبيرة من المجتمع. وصحيح أنه كانت هناك إقطاعيات واسعة لبضعة باشاوات يُمكن أن يُعدُوا بالأسماء، ولكن كان هناك برلمان وحرية سياسية قادرة على نقد كل شيء وأي شيء، وتقديم مشاريع قوانين لإصلاح الأوضاع كان من الممكن أن تُقبل في تطور تدريجي، ولعل من أهمها قوانين الإصلاح الزراعي التي كانت مقدمة للبرلمان المصري قبيل حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو، وكانت تفوق في قوتها قوانين الإصلاح الزراعي التي أتت بها الحركة بعد ذلك.
وفي المجال الثقافي، كانت مصر ما قبل حركة يوليو تشهد نهضة ثقافية واعدة، في ظل أجواء من حرية هي أفضل بكثير من الأجواء التي سادت بعد حركة الضباط الأحرار. في تلك الفترة، كتب طه حسين «في الشعر الجاهلي»، وكتب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم». وكان هناك سلامة موسى ومحمد عبده وغيرهما. وفي مجال الفن كان هناك سيد درويش ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وغيرهم كثير، ونهضة سينمائية أفرزت نجوم الفن المصري الذين أثروا الساحة الفنية بنتاجهم وإبداعهم. وكانت القاهرة في ذلك الزمان واحدة من أجمل مدن الدنيا وأكثرها نظافة. نعم كان هنالك فساد سياسي وإداري، وكان هنالك ظلم اجتماعي فادح، ولكن أجواء الحرية السياسية والثقافية كانت كفيلة بنقد الأوضاع وفضح كل ذلك الفساد، الذي لابد للنظام في النهاية من الاستجابة له، وإصلاح ذاته، وهكذا كان من الممكن أن تتغير الأوضاع تدريجياً، دون حاجة لأن تضيع مصر عقوداً من الزمان لتعود إلى درجة الصفر من جديد.
وجاءت حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو عام 1952، منادية بالثورة على الظلم والفساد واعوجاج الأمور، فما الذي حدث لمصر خلال تلك الفترة؟ من الناحية السياسية، وئدت الحرية النسبية التي كانت سائدة في
«العهد البائد»، وساد الفساد السياسي والإداري كافة مؤسسات الدولة الجديدة. وأصبح الخوف جاثما على الروح ويقتل الحياة. ربما كان فاروق ملكاً فاسداً شخصياً، ولكن فساده لم يؤثر كثيراً على الأجواء العامة في مصر، إذ بقيت حرية القول والفعل والنقد قائمة، وبقي فساد فاروق لنفسه وعلى نفسه. وربما كان عبد الناصر نزيهاً وصالحاً شخصياً، ولكن نزاهته وصلاحه الشخصي لم يؤثرا على أجواء الرعب والفساد والكبت والقمع التي سادت نظامه الجديد. ومن الناحية الاقتصادية، أُممت المؤسسات الخاصة باسم الاشتراكية وتحقيق العدل الاجتماعي، وطُرد «الخواجات» من القطر المصري، وأصبح كل شيء ملكاً للدولة والمهيمنين على الدولة. أصبح الجميع موظفين لدى الدولة، وبالتالي أصبحت هي المهيمن على لقمة عيشهم، تعز من تشاء وتُذل من تشاء، فانتشر النفاق والكذب وساءت الأخلاق، إذ بدون ذلك لا يمكن للمواطن المغلوب على أمره أن يعيش. وعندما أصبح كل شيء ملكاً للدولة، وتحول الجميع إلى موظفين لدى الدولة، سادت روح الاتكالية، وخُنقت روح الإبداع، وأصبح الهدف هو رضا الدولة بأي شكل من الأشكال. ومن الناحية الثقافية والفنية، أصبح كل شيء موجها من أجل مصلحة «الثورة» ومحاربة أعدائها الحقيقيين والوهميين والمختلقين في أكثر الأحيان. لم تعد الثقافة ولم يعد الفن تعبيراً عن الذات بأشكال متعددة وطرق مختلفة، بقدر ما أصبح نوعا من البروباغاندا باتجاه واحد وشكل واحد، فالحقيقة في النهاية هي حقيقة واحدة هي حقيقة الثورة، وما تعتبره الثورة حقيقة، لا يعرفها ولا يفسرها إلا الثورة والأوصياء على الثورة.
لقد قامت حركة الضباط الأحرار بعد مأساة فلسطين، على أساس الثورة على الأوضاع الفاسدة وتحقيق عدة أهداف، في مقدمتها بناء جيش قوي قادر على مسح عار هزيمة 1948، فما الذي حدث؟ كانت هزيمة يونيو/حزيران 1967، أي بعد خمسة عشر عاماً من قيام «الثورة»، هي أبلغ تعبير عن الوضع العام، قبل أن يكون تعبيراً عن وضع عسكري خاص. كانت هزيمة يونيو مجرد رأس الجليد العائم، وما خفي كان أكبر وأكثر. قد يقول قائل إنني أبالغ هنا، فللحركة مزاياها وإنجازاتها، وربما كان هذا صحيحاً، ولكنه ليس صحيحاً كل الصحة كما حاولت بروباغاندا «الثورة» أن تقنعنا، وقد أقنعتنا حينها. فأهم إنجازات «الثورة» كانت تأميم قناة السويس، وطرد الاستعمار من أرض مصر، والنصر على العدوان الثلاثي عام 1956، وبناء جيش قوي، وبناء السد العالي، والإصلاح الزراعي، ومجانية التعليم، ومساعدة الحركات الثورية في آسيا وأفريقيا، والتصدي لـ«الإمبريالية» الأميركية.
لو نظرنا إلى هذه الإنجازات نظرة الفاحص المدقق، لوجدنا أنها كان من الممكن أن تتحقق في ظل النظام السابق تدريجياً، دون الحاجة إلى أن يمر المجتمع بحالة التجربة والخطأ، ودون أن يتحول المجتمع إلى فأر تجارب قد يعيش فيها وقد يموت. فاتفاقية قناة السويس كانت ستنتهي طبيعياً عام 1967، وبالتالي، فإن تأميم القناة كان تسريعاً لأمور كانت ستحدث دون أن يرافقها كل ذلك الضجيج، وكل تلك الفواجع التي حدثت بعد التأميم. وبناء جيش قوي مسألة فضحتها هزيمة 67، أو لنقل مأساة 67. أما مجانية التعليم، فهي مسألة كانت مطروحة منذ أن قال طه حسين، وزير المعارف آنذاك، إن التعليم مثل الماء والهواء لا غنى لأحد عنه، وكان لا بد في النهاية أن تجد طريقها إلى التطبيق، فالمسألة كانت مسألة وقت ليس إلا. أما السد العالي، فقد كان مشروعاً مطروحاً على البرلمان المصري منذ زمن، وكان لا بد في النهاية أن يُنفذ طالما كان فيضان النيل مسألة مؤرقة لمصر وأهل مصر. والنصر على العدوان الثلاثي ما كان ليتم لولا وعيد الرئيس الأميركي آيزنهاور، وهو رئيس الدولة «الإمبريالية» التي ناصبتها «الثورة» العداء.
أما مسألة «الاستعمار»، فقد كانت مسألة مبالغا فيها، إذ أن القضية كانت محكومة باتفاقيات ومواثيق، وكان لا بد له أن يرحل في النهاية بطوعه وبناء على بنود المواثيق، مع بقاء علاقات المصالح قائمة دون حاجة لعدوان أو عدوان مضاد، كما حدث في منطقة الخليج عام 1971، ولكنها الآيديولوجيات و«الزخم الثوري» الذي لا يعيش إلا في افتعال القضايا وتأجيج المشاعر، حتى لو كان ذلك على حساب مصلحة الوطن والمجتمع. أما الإصلاح الزراعي، فقد كان هو الآخر مشروعاً مطروحاً على برلمان مصر، وكانت المسألة في النهاية مسألة وقت ليس إلا. أما مساعدة الحركات الثورية والتحررية في أرجاء العالم، فهي من عيوب
«الثورة» لا من مزاياها، فقد أهدرت موارد مصر التي كان من الممكن أن تصب في مجالات تنمية لا حدود لها، وهي التي في النهاية أدت إلى انهيار مصر عام 67، وما حرب اليمن والتورط المصري فيها إلا غيض من فيض.
أنا أعلم أن ما مضى لا يُمكن أن يُعاد، وأن التاريخ يتحدد وفقاً لقرارات معينة، بحيث أن الحاضر يتحدد بقرارات الماضي، وأن المستقبل يتحدد بقرارات الحاضر، ولا شيء يمكن أن يُفعل حين يُتخذ القرار ويُنفذ، ولكنها تأملات هدفها كيف يمكن أن يكون الحال لو اتخذ هذا القرار دون ذاك.
لقد كان من أخطاء النظام الملكي في مصر أنه لم يقطع الطريق على الانقلابيين بعملية إصلاح في الوقت المناسب، فالوقت ومناسبته هو الأهم في أحداث التاريخ، فالتوقيت غير المناسب هو كارثة التاريخ. لو أن إصلاحات غورباتشوف كانت قبل ذلك بعشرين عاماً مثلاً، لما انهار اتحاد السوفيات، ولو أن قادة مصر سارعوا للإصلاح بعد حرب 48، لما كانت الحركة الانقلابية في 52. ولكن تصوروا لو أن حركة يوليو لم تحدث في مصر، فما يا ترى كان عليه الوضع اليوم؟ اليوم فتحت مصر أبوابها لمن طردتهم بالأمس، وهي مستميتة في جذب الاستثمارات
«الأجنبية» إلى أرض مصر، وقد كان ذلك ملكَ يمينِها حين كان عالم العرب يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. عقود من الزمان خسرتها مصر وإنسان مصر نتيجة التجربة والخطأ، وها هي مصر تعود اليوم من حيث بدأت بعد حركة الضباط الأحرار. عقود كان من الممكن أن تجعل مصر اليوم غير مصر الغارقة في أمراضها المستعصية، وهي التي كانت ذات يوم مركزاً لإشعاع ثقافي وسياسي واقتصادي، جعل يابان الميجي ترسل لها بعثات كي تتعلم كيف تكون النهضة من مصر.
وما يُقال عن مصر، يُقال عن العراق وسوريا، وغيرها من بلدان العرب التي بُليت بمرض «الثورة»، وتسممت دماؤها بداء الآيديولوجيا، واختنقت بالشعبوية وأربابها. لقد كان نوري السعيد عظيماً محباً لبلده بصدق، وهو الذي كان متهماً بالدكتاتورية والخنوع للاستعمار، حين كان العراق مصدراً للسلع الغذائية، وذا تعددية سياسية نادرة، لم يكن فيها سني أو شيعي، كردي أو عربي، بل كان الكل عراقيين في ذاك الزمان. وقد كان شكري القوتلي مواطناً عربياً من طراز فريد، ولم يكن له من خطيئة إلا الانخداع بوهج آيديولوجيا العروبة في ذاك الزمان، حين كانت الساحة السورية تعج بالأحزاب السياسية، وحين كانت سوريا منطقة جذب لفقراء العرب في الجنوب، واليوم هم من يبحث عن لقمة العيش في ذلك الجنوب، بل لو قارنا اليوم بين سوريا ذات الموارد المتعددة، والأردن الذي لا موارد له، لوجدنا أن الأردن أفضل حالاً بكثير، لسبب بسيط وواحد هو أنه لم يُبتلَ بالانقلابيين.
ليس لنا أن نعود بالتاريخ إلى الوراء بطبيعة الحال، ولكن لنا ان نتعلم من التاريخ، فلا نعيد ارتكاب ذات الأخطاء، وتحت أي مبرر أو شعار كان، ومن لا يتعلم من التاريخ لا يمكن أن يكون من زمرة العقلاء، وإن كان لديه عقل، وهذا كلام موجه للحكومات بمثل ما هو موجه لمن هم من المعارضة، فالكل في النهاية أمام البلاء سواء
صحيح أن قلة من كبار الرأسماليين، مصريين وغير مصريين، كانوا هم من يتحكم في الاقتصاد المصري تلك الأيام، ولكنهم كانوا أصحاب استثمارات ومشاريع وظفت شرائح كبيرة من المجتمع. وصحيح أنه كانت هناك إقطاعيات واسعة لبضعة باشاوات يُمكن أن يُعدُوا بالأسماء، ولكن كان هناك برلمان وحرية سياسية قادرة على نقد كل شيء وأي شيء، وتقديم مشاريع قوانين لإصلاح الأوضاع كان من الممكن أن تُقبل في تطور تدريجي، ولعل من أهمها قوانين الإصلاح الزراعي التي كانت مقدمة للبرلمان المصري قبيل حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو، وكانت تفوق في قوتها قوانين الإصلاح الزراعي التي أتت بها الحركة بعد ذلك.
وفي المجال الثقافي، كانت مصر ما قبل حركة يوليو تشهد نهضة ثقافية واعدة، في ظل أجواء من حرية هي أفضل بكثير من الأجواء التي سادت بعد حركة الضباط الأحرار. في تلك الفترة، كتب طه حسين «في الشعر الجاهلي»، وكتب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم». وكان هناك سلامة موسى ومحمد عبده وغيرهما. وفي مجال الفن كان هناك سيد درويش ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وغيرهم كثير، ونهضة سينمائية أفرزت نجوم الفن المصري الذين أثروا الساحة الفنية بنتاجهم وإبداعهم. وكانت القاهرة في ذلك الزمان واحدة من أجمل مدن الدنيا وأكثرها نظافة. نعم كان هنالك فساد سياسي وإداري، وكان هنالك ظلم اجتماعي فادح، ولكن أجواء الحرية السياسية والثقافية كانت كفيلة بنقد الأوضاع وفضح كل ذلك الفساد، الذي لابد للنظام في النهاية من الاستجابة له، وإصلاح ذاته، وهكذا كان من الممكن أن تتغير الأوضاع تدريجياً، دون حاجة لأن تضيع مصر عقوداً من الزمان لتعود إلى درجة الصفر من جديد.
وجاءت حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو عام 1952، منادية بالثورة على الظلم والفساد واعوجاج الأمور، فما الذي حدث لمصر خلال تلك الفترة؟ من الناحية السياسية، وئدت الحرية النسبية التي كانت سائدة في
«العهد البائد»، وساد الفساد السياسي والإداري كافة مؤسسات الدولة الجديدة. وأصبح الخوف جاثما على الروح ويقتل الحياة. ربما كان فاروق ملكاً فاسداً شخصياً، ولكن فساده لم يؤثر كثيراً على الأجواء العامة في مصر، إذ بقيت حرية القول والفعل والنقد قائمة، وبقي فساد فاروق لنفسه وعلى نفسه. وربما كان عبد الناصر نزيهاً وصالحاً شخصياً، ولكن نزاهته وصلاحه الشخصي لم يؤثرا على أجواء الرعب والفساد والكبت والقمع التي سادت نظامه الجديد. ومن الناحية الاقتصادية، أُممت المؤسسات الخاصة باسم الاشتراكية وتحقيق العدل الاجتماعي، وطُرد «الخواجات» من القطر المصري، وأصبح كل شيء ملكاً للدولة والمهيمنين على الدولة. أصبح الجميع موظفين لدى الدولة، وبالتالي أصبحت هي المهيمن على لقمة عيشهم، تعز من تشاء وتُذل من تشاء، فانتشر النفاق والكذب وساءت الأخلاق، إذ بدون ذلك لا يمكن للمواطن المغلوب على أمره أن يعيش. وعندما أصبح كل شيء ملكاً للدولة، وتحول الجميع إلى موظفين لدى الدولة، سادت روح الاتكالية، وخُنقت روح الإبداع، وأصبح الهدف هو رضا الدولة بأي شكل من الأشكال. ومن الناحية الثقافية والفنية، أصبح كل شيء موجها من أجل مصلحة «الثورة» ومحاربة أعدائها الحقيقيين والوهميين والمختلقين في أكثر الأحيان. لم تعد الثقافة ولم يعد الفن تعبيراً عن الذات بأشكال متعددة وطرق مختلفة، بقدر ما أصبح نوعا من البروباغاندا باتجاه واحد وشكل واحد، فالحقيقة في النهاية هي حقيقة واحدة هي حقيقة الثورة، وما تعتبره الثورة حقيقة، لا يعرفها ولا يفسرها إلا الثورة والأوصياء على الثورة.
لقد قامت حركة الضباط الأحرار بعد مأساة فلسطين، على أساس الثورة على الأوضاع الفاسدة وتحقيق عدة أهداف، في مقدمتها بناء جيش قوي قادر على مسح عار هزيمة 1948، فما الذي حدث؟ كانت هزيمة يونيو/حزيران 1967، أي بعد خمسة عشر عاماً من قيام «الثورة»، هي أبلغ تعبير عن الوضع العام، قبل أن يكون تعبيراً عن وضع عسكري خاص. كانت هزيمة يونيو مجرد رأس الجليد العائم، وما خفي كان أكبر وأكثر. قد يقول قائل إنني أبالغ هنا، فللحركة مزاياها وإنجازاتها، وربما كان هذا صحيحاً، ولكنه ليس صحيحاً كل الصحة كما حاولت بروباغاندا «الثورة» أن تقنعنا، وقد أقنعتنا حينها. فأهم إنجازات «الثورة» كانت تأميم قناة السويس، وطرد الاستعمار من أرض مصر، والنصر على العدوان الثلاثي عام 1956، وبناء جيش قوي، وبناء السد العالي، والإصلاح الزراعي، ومجانية التعليم، ومساعدة الحركات الثورية في آسيا وأفريقيا، والتصدي لـ«الإمبريالية» الأميركية.
لو نظرنا إلى هذه الإنجازات نظرة الفاحص المدقق، لوجدنا أنها كان من الممكن أن تتحقق في ظل النظام السابق تدريجياً، دون الحاجة إلى أن يمر المجتمع بحالة التجربة والخطأ، ودون أن يتحول المجتمع إلى فأر تجارب قد يعيش فيها وقد يموت. فاتفاقية قناة السويس كانت ستنتهي طبيعياً عام 1967، وبالتالي، فإن تأميم القناة كان تسريعاً لأمور كانت ستحدث دون أن يرافقها كل ذلك الضجيج، وكل تلك الفواجع التي حدثت بعد التأميم. وبناء جيش قوي مسألة فضحتها هزيمة 67، أو لنقل مأساة 67. أما مجانية التعليم، فهي مسألة كانت مطروحة منذ أن قال طه حسين، وزير المعارف آنذاك، إن التعليم مثل الماء والهواء لا غنى لأحد عنه، وكان لا بد في النهاية أن تجد طريقها إلى التطبيق، فالمسألة كانت مسألة وقت ليس إلا. أما السد العالي، فقد كان مشروعاً مطروحاً على البرلمان المصري منذ زمن، وكان لا بد في النهاية أن يُنفذ طالما كان فيضان النيل مسألة مؤرقة لمصر وأهل مصر. والنصر على العدوان الثلاثي ما كان ليتم لولا وعيد الرئيس الأميركي آيزنهاور، وهو رئيس الدولة «الإمبريالية» التي ناصبتها «الثورة» العداء.
أما مسألة «الاستعمار»، فقد كانت مسألة مبالغا فيها، إذ أن القضية كانت محكومة باتفاقيات ومواثيق، وكان لا بد له أن يرحل في النهاية بطوعه وبناء على بنود المواثيق، مع بقاء علاقات المصالح قائمة دون حاجة لعدوان أو عدوان مضاد، كما حدث في منطقة الخليج عام 1971، ولكنها الآيديولوجيات و«الزخم الثوري» الذي لا يعيش إلا في افتعال القضايا وتأجيج المشاعر، حتى لو كان ذلك على حساب مصلحة الوطن والمجتمع. أما الإصلاح الزراعي، فقد كان هو الآخر مشروعاً مطروحاً على برلمان مصر، وكانت المسألة في النهاية مسألة وقت ليس إلا. أما مساعدة الحركات الثورية والتحررية في أرجاء العالم، فهي من عيوب
«الثورة» لا من مزاياها، فقد أهدرت موارد مصر التي كان من الممكن أن تصب في مجالات تنمية لا حدود لها، وهي التي في النهاية أدت إلى انهيار مصر عام 67، وما حرب اليمن والتورط المصري فيها إلا غيض من فيض.
أنا أعلم أن ما مضى لا يُمكن أن يُعاد، وأن التاريخ يتحدد وفقاً لقرارات معينة، بحيث أن الحاضر يتحدد بقرارات الماضي، وأن المستقبل يتحدد بقرارات الحاضر، ولا شيء يمكن أن يُفعل حين يُتخذ القرار ويُنفذ، ولكنها تأملات هدفها كيف يمكن أن يكون الحال لو اتخذ هذا القرار دون ذاك.
لقد كان من أخطاء النظام الملكي في مصر أنه لم يقطع الطريق على الانقلابيين بعملية إصلاح في الوقت المناسب، فالوقت ومناسبته هو الأهم في أحداث التاريخ، فالتوقيت غير المناسب هو كارثة التاريخ. لو أن إصلاحات غورباتشوف كانت قبل ذلك بعشرين عاماً مثلاً، لما انهار اتحاد السوفيات، ولو أن قادة مصر سارعوا للإصلاح بعد حرب 48، لما كانت الحركة الانقلابية في 52. ولكن تصوروا لو أن حركة يوليو لم تحدث في مصر، فما يا ترى كان عليه الوضع اليوم؟ اليوم فتحت مصر أبوابها لمن طردتهم بالأمس، وهي مستميتة في جذب الاستثمارات
«الأجنبية» إلى أرض مصر، وقد كان ذلك ملكَ يمينِها حين كان عالم العرب يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. عقود من الزمان خسرتها مصر وإنسان مصر نتيجة التجربة والخطأ، وها هي مصر تعود اليوم من حيث بدأت بعد حركة الضباط الأحرار. عقود كان من الممكن أن تجعل مصر اليوم غير مصر الغارقة في أمراضها المستعصية، وهي التي كانت ذات يوم مركزاً لإشعاع ثقافي وسياسي واقتصادي، جعل يابان الميجي ترسل لها بعثات كي تتعلم كيف تكون النهضة من مصر.
وما يُقال عن مصر، يُقال عن العراق وسوريا، وغيرها من بلدان العرب التي بُليت بمرض «الثورة»، وتسممت دماؤها بداء الآيديولوجيا، واختنقت بالشعبوية وأربابها. لقد كان نوري السعيد عظيماً محباً لبلده بصدق، وهو الذي كان متهماً بالدكتاتورية والخنوع للاستعمار، حين كان العراق مصدراً للسلع الغذائية، وذا تعددية سياسية نادرة، لم يكن فيها سني أو شيعي، كردي أو عربي، بل كان الكل عراقيين في ذاك الزمان. وقد كان شكري القوتلي مواطناً عربياً من طراز فريد، ولم يكن له من خطيئة إلا الانخداع بوهج آيديولوجيا العروبة في ذاك الزمان، حين كانت الساحة السورية تعج بالأحزاب السياسية، وحين كانت سوريا منطقة جذب لفقراء العرب في الجنوب، واليوم هم من يبحث عن لقمة العيش في ذلك الجنوب، بل لو قارنا اليوم بين سوريا ذات الموارد المتعددة، والأردن الذي لا موارد له، لوجدنا أن الأردن أفضل حالاً بكثير، لسبب بسيط وواحد هو أنه لم يُبتلَ بالانقلابيين.
ليس لنا أن نعود بالتاريخ إلى الوراء بطبيعة الحال، ولكن لنا ان نتعلم من التاريخ، فلا نعيد ارتكاب ذات الأخطاء، وتحت أي مبرر أو شعار كان، ومن لا يتعلم من التاريخ لا يمكن أن يكون من زمرة العقلاء، وإن كان لديه عقل، وهذا كلام موجه للحكومات بمثل ما هو موجه لمن هم من المعارضة، فالكل في النهاية أمام البلاء سواء
تركي الحمد
الشرق الأوسط - 8/9/2007
No comments:
Post a Comment