Monday, February 28, 2011

الثورة المضادة: كيف المواجهة؟


يبدو الموقف الذى تمر به الثورة المصرية العظيمة بعد شهر من اندلاعها وأكثر من أسبوعين على خروج رئيس النظام السابق من منصبه، شديد الدقة والحساسية فى مواجهة تطورات وتغيرات كثيرة على مختلف المستويات فى المجتمع والدولة المصريين. وفى قلب هذه التطورات والتغيرات السريعة المتلاحقة يبرز الخطر الأكبر الذى بات الأكثر هيمنة على الحوار العام فى البلاد، وهو التخوف من نجاح قوى النظام المنهار فى حشد طاقاتها وصفوفها للانقضاض على الثورة لاستعادة نظامها القديم فيما يسمى تقليديا بالثورة المضادة. والحقيقة أن تحليل مكونات هذه الثورة المضادة ومدى خطورتها والسبل الأكثر كفاءة فى مواجهتها، يستلزم أولا التطرق إلى طبيعة الثورة المصرية والخصائص الرئيسية التى اتسمت بها وذات العلاقة بهذه الثورة المضادة سواء من زاوية عوامل ظهورها أو من زاوية إمكانيات مواجهتها.

اتسمت الثورة المصرية الشعبية الأولى من نوعها فى التاريخ المصرى الحديث بكونها قبل كل شىء مفاجئة بصورة لم تخطر ببال أكثر المحللين ولا الفاعلين السياسيين خيالا بل ولا حتى المجموعات الشبابية التى دعت إلى مظاهرات الخامس والعشرين من يناير والذين لم يكن هدف إسقاط نظام حسنى مبارك وخلعه هو شخصيا من الرئاسة مطروحا عليهم بأى صورة من الصور فى الساعات الأولى من اندلاع المظاهرات الاحتجاجية قبل أن تتحول إلى ثورة شعبية كاملة. اتسمت هذه الثورة من الناحية الثانية ارتباطا بالخاصية السابقة بأنها افتقدت حتى اللحظة وجود أحزاب أو تنظيمات كبرى ذات طابع مركزى تقودها وتحرك جماهيرها الغاضبة الواسعة على الرغم من وجود مجموعات وائتلافات شبابية متنوعة نشأ معظمها على الفيس بوك وجماعة الإخوان المسلمين وبعض الأحزاب تحت التأسيس وأخرى محظورة قانونا. أيضا اتسمت الثورة المصرية بأنها بدأت بشعارات وأهداف سياسية تدور كلها حول التغيير فى طبيعة النظام الحاكم، ثم اتسع مجالها بانضمام فئات وطبقات اجتماعية أوسع وأكثر فقرا إلى صفوفها مما وسع من دائرة الشعارات والأهداف لتشمل المجالين الاجتماعى والاقتصادى، إلا أنها فى الحالين لم تكن تحمل تفاصيل ولا برامج محددة بصورة زمنية لتحقيق هذه الأهداف والشعارات وتحويلها إلى مؤسسات وتشريعات وسياسات تشكل معا نظام الحكم الجديد المنشود بناؤه.

هذه الخصائص الثلاث الرئيسية للثورة المصرية، وغيرها كثير بالطبع، هى الأكثر ارتباطا بظهور ما يسمى بالثورة المضادة، حيث إن فجائية الثورة وافتقادها القيادة التنظيمية واتساع شعاراتها وأهدافها دون امتلاك تصورات تفصيلية لتحقيقها، كانت هى البوابات الرئيسية التى بدأت الثورة المضادة فى الدخول منها مرة أخرى إلى المجال السياسى ومحاولة تعويق مسيرة الثورة وعرقلة خطواتها تمهيدا للانقلاب عليها والسعى لإعادة النظام القديم ولو بمسميات وأشخاص آخرين. فأركان النظام القديم، على فساده واستبداده، يملكون القدرة على مواجهة فجائية الثورة بما كان لديهم جاهزا من قبلها سواء فى أجهزتهم الأمنية أو الحزبية من خطط وبدائل للتغلب على أية محاولات لإسقاط نظامهم سواء عن طريق هبات وانتفاضات جماهيرية أو حركات انقلابية من داخل مؤسسات النظام. كذلك فهم يملكون القدرة التنظيمية التى تفتقدها الثورة، حيث تتوحد صفوفهم خلف قيادة حزبية يمثلها الحزب الوطنى، وأخرى أمنية تمثلها بعض أجهزة وزارة الداخلية وفى القلب منها أمن الدولة، وثالثة اجتماعية ــ اقتصادية يمثلها كبار رجال الأعمال الذين قام النظام السابق عليهم وقامت عليه مصالحهم الحيوية، ورابعة سياسية ــ اجتماعية ــ محلية يمثلها قيادات الحزب الحاكم والأجهزة التنفيذية المنتشرون فى مختلف مدن وقرى مصر. أيضا فهم يملكون فى مواجهة أهداف الثورة وشعاراتها العامة تصورات تفصيلية لنظام سياسى ــ اجتماعى ــ اقتصادى كامل قام على الفساد والاستبداد لعقود طويلة استقرت فى هيئة مؤسسات وتشريعات وسياسات وجماعات مصالح وحتى عصابات نهب وبلطجة.

بذلك يبدو واضحا حتى اللحظة أن نجاح ثورة المصريين فى الإطاحة برأس النظام وبعض من أبرز أركانه والبدء فى هدم أجزاء من قواعده وأعمدته لم يترافق بعد مع المهمة الثانية لأى ثورة مكتملة، وهى بناء قواعد وأعمدة نظام جديد يحل فى النهاية محل القديم المنهار، وقد كان للخصائص الثلاث السابقة للثورة الدور الرئيسى فى عدم البدء بصورة جادة وسريعة فى أداء هذه المهمة الثانية. وقد بدت المفارقة واضحة فى أن الثورة التى لم يكن الجيش طرفا فيها منذ البداية وإن مثل تدخله فى اليوم الرابع لاندلاعها أحد العوامل الحاسمة لاستمرارها ونجاحها برفضه العلنى التدخل العنيف ضدها، أضحى تنفيذ مطالبها سواء بهدم بقية أركان النظام القديم أو وضع قواعد جديدة للنظام القادم منوطا بهذا الجيش وبخاصة مجلسه الأعلى الذى أصبح مركز السلطة الفعلى والأكبر فى البلاد. وبذلك ظلت الثورة فى نفس الإطار «المطلبى» الذى تعودت عليه الحالة المصرية المعارضة لسنوات طويلة، وإن كانت الإضافة الأبرز والأهم هى الدعوة للتجمع والتظاهر فى ميدان التحرير بالقاهرة وبعض ميادين مدن مصرية أخرى فى أيام الجمعة لممارسة ضغوط إضافية على المجلس الأعلى للقوات المسلحة لكى يستجيب أو يسارع فى الاستجابة لبعض «مطالب» الثورة سواء لاستكمال هدم النظام القديم أو تشكيل ملامح النظام الجديد.

من هذه الفجوة الواسعة والخطيرة بدا واضحا أن عناصر الثورة المضادة راحت تتسرب وتعيد ترتيب صفوفها للانقضاض على الثورة التى اتضح لهم أن ما تملكه حتى اللحظة لاستكمال مراحلها الرئيسية من الناحية التنظيمية والتصورات التفصيلية والأدوات العملية ليس كثيرا بالمقارنة مع ما يملكونه هم على نفس الأصعدة. ومن هنا أيضا بدا واضحا أن عناصر هذه الثورة المضادة المتبقين والنافذين فى مناطق كثيرة ومهمة من المجتمع والدولة راحوا يركزون هم أيضا جهودهم على مركز السلطة الفعلى فى البلاد، أى قيادة الجيش، لدفعها بطرق عديدة شملت العلاقات القديمة فى جهاز الدولة وإخفاء والتلاعب فى المعلومات الحساسة التى يسيطر عليها البعض منهم عن هذه القيادة وافتعال وتفجير صراعات وصدامات بل وتخريب فى بعض القطاعات بهدف هيمنة حالة من الفوضى فى البلاد على الصعيد الاقتصادى والاجتماعى بما يدفع قيادة الجيش إلى التمهل والتباطؤ أحيانا فى الاستجابة لمطالب الثورة وضرورات استكمال مراحلها.

وحتى لا يظل التحليل وصفيا وينتقل إلى اقتراح تصورات عملية محددة يجب القيام بها بصورة عاجلة لمقاومة الثورة المضادة والاستكمال المنظم لمراحل الثورة الشعبية العظيمة، فإن الأمر يتطلب أولا تحديد المستويات التى يجب أن تجرى فيها هذه المواجهة. والمستوى الأول والأبرز للثورة المضادة هو قاعدتها الاجتماعية ــ الاقتصادية التى هى نفسها قاعدة النظام السابق، وهى تتشكل من حلف رجال الأعمال الواسع مع فئات واسعة أيضا من رجال الإدارة العليا والوسطى وعديد من القيادات والعناصر الأمنية، وهو حلف لا يزال يمسك بمقاليد الثروة والاقتصاد كما كانت تقريبا فى ظل النظام السابق، ولم يتعرض حتى الآن سوى لضربات قانونية لبعض ممثليه دون أن يمتد الأمر إلى سياسات محددة وواضحة لتفكيك قدراته بصورة قانونية وإجرائية. من هنا فإن مهمة مزدوجة سريعة وعاجلة على أبناء الثورة والحريصين عليها يجب أن تنجز فورا: الشق الأول منها أن تبدأ صياغة تصورات عملية فى هيئة تشريعات وسياسات اقتصادية ومالية ونقابية يبدأ الأخذ بها فى المرحلة الانتقالية لتحقيق هذا التفكيك، منها مثلا الأخذ بالضريبة التصاعدية واستعادة الأراضى المخصصة لبعض رجال الأعمال والتى لم تذهب للأغراض التى خصصت من أجلها ووضع أهداف تأشيرية للاقتصاد القومى يلتزم بها رجال الأعمال وتشكيل نقابات واتحادات عمالية فى مؤسسات الأعمال الخاصة وإعادة تشكيل الاتحاد العام لعمال مصر، وغيرها. أما الشق الثانى فيتلخص فى ضرورة تشكيل لجان متخصصة وفعالة للبحث فى تفاصيل ووقائع قضايا ومستندات الفساد المالى والسياسى المرتبط بهذا الحلف وتقديمها فورا إلى جهات التحقيق المختصة والرأى العام المصرى.

أما المستوى الثانى للمواجهة مع الثورة المضادة فقد بدأ بالفعل، وهو انتخابات مجلسى البرلمان القادمة، والذى بدأ الحلف المشار إليه سابقا بقيادة كبار ومتوسطى قيادات الحزب الوطنى فى الاستعداد لها بطرق عديدة تقليدية باستخدام المال والعصبيات والبلطجية وأخرى جديدة أبرزها ركوب موجة الثورة بتشكيل لجان ومشروعات أحزاب وجمعيات أهلية تزعم انتسابها لها وتسعى لتجميع الشباب الثورى والغاضب فيها على مستوى دوائر الجمهورية كلها ومدنها الصغيرة والمتوسطة وحتى قراها أيضا. وتسعى الثورة المضادة على هذا المستوى إلى استغلال حرية الانتخابات البرلمانية القادمة لكى يحصلوا فيها على نسبة تجعلهم القوة الأكبر فى البلاد بما يضعهم مرة أخرى فى قيادتها بصورة «ديمقراطية» تضيع بعدها كل مكاسب الثورة بل والثورة نفسها، وذلك اعتمادا على كثرة مرشحيهم ذوى الخبرة فى دوائرهم وبالاستفادة من كل الإمكانيات المالية والأمنية والعنيفة التى يتشكل منها حلف الثورة المضادة.

ولذلك فإن مواجهة هذا المستوى الخطير من الثورة المضادة تستلزم أربع خطوات محددة: الأولى أن يصبح التصويت بالرقم القومى مطلبا رئيسيا يستحق أن تفرد له إحدى جمع ميدان التحرير لأنه سيلغى إلى حد كبير إمكانية التزوير وسيدفع بأكثر من عشرة ملايين مصرى جدد إلى الهيئة الناخبة. الثانية أن تشن حملة قومية متواصلة من شباب الثورة وأبنائها لدفع المصريين إلى ضرورة التصويت فى تلك الانتخابات، وهو الأمر الذى سيضيف إلى التصويت الفعلى فى الانتخابات السابقة والمتراوح بين 4 و5 ملايين أكثر من عشرين مليون صوت جديد إذا ما صوت المصريون بنسبة 50% فقط من هيئتهم الناخبة التى ستصل لنحو 50 مليون ناخب، وسيكون معظم هؤلاء من أنصار الثورة ومرشحيها. الثالثة أن تتشكل قائمة موحدة لمرشحى الثورة على مستوى الجمهورية على أن يبدأ تشكيلها من الدوائر وليس من المستوى المركزى بالقاهرة، بحيث يتم اختيار من يصلحون كمرشحين للثورة فيها قادرين على النجاح بغض النظر عن ألوانهم السياسية، على أن يتم التنسيق بين القوى السياسية حول نسب تمثيلها فى تلك القائمة بعد استكمال الاختيارات المحلية والتى يجب أن ينشغل بها شباب الثورة طوال الفترة القادمة. أما الخطوة الرابعة فهى قرينة للخطوة السابقة وهى أن يكون شعار إنجاح مرشحى الثورة هو الوجه الأول لشعار آخر وهو إسقاط كل بقايا النظام المنهار فى الانتخابات القادمة وتوصيل الحقيقة للمصريين جميعا بأن عودتهم مرة أخرى ستعنى القضاء على المصالح العامة من الثورة وكل مصلحة خاصة لأى واحد أو واحدة منهم.

بقلم:ضياء رشوان - الشروق

No comments: