بادئ ذي بدء أعتذر عن عدم الكتابة خلال الأسبوعين الماضيين، ولم تكن أجازة صيفية أو رحلة خارجية أو أي سبب آخر سوي حالة إحباط قد تصيب أي إنسان من كثرة مشاهداته اليومية لما يحدث حولنا، وحالة المجتمع التي بدأت تتراجع يوماً تلو الآخر.
حالة من الخلل التام في جميع أجهزة المجتمع وأعضاء جسده.. وكأنه في غرفة الإنعاش.. ودعوني أصف لكم مشاهداتي تلك .. علنا نتكاتف وندخله إلي غرفة الإفاقة ثم العناية المركزة، إن كان هناك رغبة في الحياة.
البارانويا «جنون العظمة»
جنون العظمة مصطلح تاريخي مشتق من الكلمة الإغريقية «ميغالومانيا» وتعني وسواس العظمة، لوصف حالة من وهم الاعتقاد، حيث يبالغ الإنسان بوصف نفسه بما يخالف الواقع فيدعي امتلاك قابليات استثنائية، وقدرات جبارة أو مواهب مميزة ليس لها وجود حقيقي.
وقد حفل التاريخ بمآسٍ كثيرة حدثت جراء قيادات مصابة بداء جنون العظمة أودت إلي صنع الكوارث والحروب في تاريخ البشرية.
وما يحدث الآن من حولنا أن جنون العظمة بدأ يستشري بين بعض القيادات في مختلف المؤسسات، ولا لوم عليهم فقط بل علي الجموع التي من حولهم والتي ساعدت هذه القيادات علي تزايد ونمو «الأنا» وتضخمها، فيستشري المرض وتزداد الاضطرابات النفسية والعقلية لديهم ويصبح شعار كل علي حدة «أنا وما بعدي الطوفان»، ويبدو أن الطوفان قد بدأت ملامحه علي الأفق، وللأسف أيضا أن أول المتضررين من أعراض البارانويا هم من ساعدوا علي وجودها.
ويصل حال مريض جنون العظمة إلي عدم رده عن أفعاله لأنه لا يجد من يعارضه أو يرده أساساً «يعني قالوا للفرعون إيه فرعنك؟ قال ما لقيتش حد يردني»!
لو تأملت قليلا في مجتمعنا العربي وتحديداً المصري ستجد مثل هذه القيادات قد انتشرت في مختلف المواقع، ويبدو أنها عادة فرعونية، حيث كانوا يمجدون الملوك ويضعونهم في مرتبة الإله.. حاشي.
ولا أعلم هل يفيق هؤلاء القيادات إلي ما هم عليه؟! هل يفيق الجموع وتقلل من سلوكياتها في النفاق الاجتماعي والمصالح المادية أو الوظيفية؟! هل نكف عن حالات التملق والتسلق والتعلق بذراع بشر؟!
تلك نظرة أضعها أمامكم علنا نرتدي عدسة حقيقية تري الأشياء والأشخاص بأحجامها الطبيعية لا تهول ولا تهون.
قانون الغابة
ذكرت لي د. ليليان - طبيبة أمراض جلدية - موقفاً تعرضت له ابنتها «فتاة في العشرينات» حيث تعرضت الفتاة لحادث تصادم سيارتها بسيارة فتاة أخري، وهو موقف يحدث لنا جميعا في ظل السلوكيات المرورية الغوغائية التي سادت الشارع المصري، فما كان علي الفتاة إلا أنها نزلت من السيارة وتوجهت إلي ضابط المرور الذي كان شاهداً علي الحادث بالصدفة، وقالت له: أعمل إيه دلوقتي.. حضرتك شايف إنها «أي الفتاة الأخري» غلطانة، وكسرت لي العربية؟
فما كان علي الضابط إلا الإجابة بسرعة:
لازم تحركي العربية دلوقتي، علشان فيه مسئول ح يعدي من هنا.. وعايزة تاخدي حقك خدي مفتاح العجل واكسري لها عربيتها.. غير كده مش ح تطولي حاجة!
وهنا تساءلت د. ليليان:
هل يُعقل هذا؟! وهل يصدر هذا من رجل أمن مسئوليته الأولي تطبيق القانون، وأمن حياتنا وحياة أولادنا؟!
هل نربيهم نحن علي النظام واتباع التعليمات وعدم السكوت عن حقنا والمطالبة به عن طريق القانون المعمول به في المجتمع، ويأتي الضابط لهدد ما بنيناه في سنوات عمرنا؟!
هل نطلب منهم الالتزام بعد ذلك وعدم تخطي حرية الآخرين واحترام القيم والتقاليد في الوقت الذي يدفعهم حامي أمنهم ورجل القانون إلي تطبيق قانون الغابة؟!
هل نطلب منهم الانتماء ومعرفة واجباتهم وهم لا يأخذون حقوقهم؟!
هل وصل بنا الحال إلي هذه الدرجة؟!
تلك تساؤلات وضعتها د. ليليان أضعها أمامكم.
مصير زوج بمهنة مذيع!
هزني بشدة الحادث الذي تعرض له الزميل إيهاب صلاح - المذيع بقطاع الأخبار - والذي قتل زوجته بالرصاص بعد حالة غضب عارمة بحسب اعترافاته.
ورغم أنني لم أتقابل يوما مع إيهاب فإنني سمعت الإشادة بدماثة خلقه من معظم الزملاء الذين تحدثوا عنه.
ورغم ألمي الشديد أن يصل إعلامي، ناضج، مثقف وناجح إلي هذه الحالة التي أنهي بها حياة زوجته وقضي علي حياته الشخصية والمهنية، فإنه استوقفني الحادث نفسه ومردوده علي مؤسسة الزواج في مصر، والتي تؤكد أرقامها وإحصائياتها والدراسات الخاصة بها أنها مؤسسة فاشلة بكل المعايير.
وأن مظاهر هذا الفشل بدأ يتفشي وينتشر بين مختلف الطبقات والثقافات ولا يتحرك ساكن في البلد.
إن الحديث عن فشل هذه المؤسسة قُتل بحثاً، وأكدت كل الدراسات أن هناك خللاً في النشأة وفي تمييز الولد عن البنت، ومفهوم المجتمع الذكوري ثم في ظاهرة الزواج المبكر والتي لا تكون فيها الفتاة أو الشاب قد نضجا بالقدر الكافي للاختيار، فهم يتربون أساسا علي فكرة الوصايا وفكرة قوائم الممنوعات وأنهم يتعرضون للائحة من اللاءات لا حصر لها «لا تفعل ولا تفعل ولا ولا..».
ليس داخل الأسرة فقط بل في جميع المؤسسات المسئولة عن النشء.. كالمدرسة والجامع والكنيسة وهلم جرا.
نحن لا نربي العقول علي النقد والتحليل والدراسة بل علي الطاعة العمياء حتي لو كانت الأوامر خاطئة، ولماذا الأوامر من أساسه؟!
وبالتالي تلك العقليات لا تستطيع أن تحدد ما يناسبها سواء في اختيار مستقبله أو في اختيار شريك حياته.
فضلا عن أن المفهوم الحقيقي للزواج غائب ومفتقد، فبالتالي تحل محله مفاهيم أخري زائفة تؤدي إلي هذه النتائج التي نراها من حولنا إما طلاقاً أو خيانات زوجية أو تعدد زوجات أو حتي إلي أسوأ النتائج وهو قتل الأزواج والزوجات وهذه الأخيرة بدأت تنتشر منذ عشرات السنين ولعلكم تتذكرون «أكياس البلاستيك» التي ربت عقدة للأزواج من كثرة تعبئة الزوجات أجساد أزواجهن بعد التقطيع!
هذا لأن المفاهيم السائدة أن الزواج مجرد شكل اجتماعي «لابد» أن يحدث، وأنه لإشباع الرغبات الجنسية، وإنجاب أطفال.. وخلاص.
وغاب المفهوم الحقيقي أن هذا الزواج هو لجعل الحياة أكثر سعادة، وبهجة.. وأن الاثنين يتوحدان في شخص واحد بحبهما، وأن هذه الأسباب السابقة هي مجرد أدوات لتحقيق السعادة والوحدة.
ولو عدنا إلي بداية الخليقة لوجدنا أن الله عندما خلق آدم ووجده وحيداً وحزيناً خلق له حواء حتي تصبح حياته سعيدة، وهذا هو غرض الله الحقيقي.
أما ثقافتنا في الزواج فتؤكد أننا قد بعدنا عن هذا الغرض، بل إن واقعنا المرير يؤكد أن آدم خُلق وحيداً، وخُلقت له حواء كي يزداد وحدة ومللاً وتعاسة!
أرجوكم .. ربما يكون حادث إيهاب صلاح قد هز المجتمع، وقدر الإعلامي أن يكون مردود عمله في صالح الناس.. فلعل ما دفعه إيهاب من ثمن لمستقبله وحياته يفيد المجتمع ويجعلنا نتحرك ونتدارك تلك الأزمات الاجتماعية الخطيرة.
هل أدركتم الآن لماذا لم أستطع الكتابة في الأسبوعين الماضيين؟
هل أدركتم الأن أن مجتمعنا في عناية مركزة؟.. فإما أن نفيق جميعا، وإما أن يُفرض علينا موته إكلينيكياً ورفعه من علي الجهاز، ونشيل الفيشة
عاطف كامل- الدستور
No comments:
Post a Comment