Friday, July 30, 2010

أكون أو لا أكون

كان يوسف شاهين يخجل من حذائه المقطوع. هو الفقير بين أرستقراطية الإسكندرية في مدرسة فيكتوريا كوليدج (تخرج فيها ملوك وتجار ونجوم من الملك حسين إلي إدوارد سعيد مروراً بعمر الشريف). أحلامه كبيرة. متعثرة. لا يقدر علي شراء بدلة علي الموضة ولا حذاء أبيض. يملك فقط خفة الدم. ومهارة الرقص مع البنات في كوكتيلات الطبقة العليا. هذه أدواته في لفت الانتباه وسط محيط الأغنياء المتعجرفين. ولد يوسف شاهين يوم 26من يناير 1926 في عائلة مهاجرة وتحلم بهجرة أخري. الأجداد تركوا «زحلة» النائمة في أحضان جبل لبنان وأبحروا إلي الاسكندرية. مدينة «العالم» التي كان يعيش بها 600 ألف «خواجة». تمتزج ثقافاتهم... وأفكارهم وتتصارع رغباتهم في ملعب الطموح السياسي والمالي.. بينهم كان يوسف: نصف خواجة. بربع إمكانيات مالية. وعناد شخصي لا حدود له. أبوه محامٍ يحلم بأن يعبر الابن من خندق الفقر عبر الاقتراب من عالم الأثرياء. الإنجليز أصحاب السلطة والسطوة. والمصريون الذين سيختارهم الإنجليز وزراء وأصحاب نفوذ. العائلة متوترة علي سطح من رغبات مكتومة في هجرة ثانية.. إلي درجة أعلي في سلم البرجوازية. كان الشاب مرتبكاً دائماً ويتكلم بسرعة لكي لا يلحظ أحد توتراته الداخلية. ظل معذباً برغبات العائلة وأحلامها في الصعود. وبمحاولة إقناع المحيط الغريب من حوله بإمكانية قبوله. في مرة كان عليه أن يذهب إلي حفلة ولم يستطع؛ لأن الاختيار كان إما أن يشتري بدلة مناسبة، أو تشتري أخته فستاناً جديداً. لم يذهب. لكنه عاد في اليوم التالي إلي المدرسة بفكرة اكتشف معها طريقة جديدة لاستعراض مواهبه. وإثبات أنه متفوق. يستطيع السيطرة علي الانتباه. وقف أمام فصل من 30 تلميذاً «همج كما وصفهم». وألقي مونولوج الملك «ريتشارد الثاني» أحد أبطال تراجيديا شكسبير.المونولوج كان في لحظة حكم علي الملك فيها بالتنازل عن كل شيء. مصير قاس لشخص يهوي من علي عرش إمكانياته وجبروته إلي التسليم. والشاب لعب بكل أعصابه للسيطرة علي المشاعر الهائجة والساخطة وأنهي المشهد بدموع ساخنة. وهم استقبلوه بتصفيق حاد. يومها اكتشف الفن كطريقة من طرق إثبات الوجود. واكتشف المسرح، وشكسبير. هنا تحول الحلم من اللحاق بطابور الجامعة (والتخرج محامياً مثل والده أو موظفاً في بنك ينتظر الراتب أول كل شهر كما قالت أمه) إلي التمثيل. النجومية. هوليوود. وهنا جمعت العائلة كل طاقاتها المالية (باعوا قطعاً من الأثاث والبيانو)، لكي يسافر الشاب الطموح ويركب السفينة إلي «باسادينا» في العالم الجديد (أمريكا). هناك اكتشف أنه لا يصلح لكي يكون ممثلاً. هذا قبل أن يعود (يحب الآن أن يشبه عودته إلي مصر ببطل فيلمه «ابن النيل» المغامر الذي اكتشف وجه المدينة الشرير وعاد ليبحث عن تحقق في بلده.. عاد ليكون مخرجاً مصرياً.. وليس فقط لأن أحوال عائلته المالية بعد موت الأب تدهورت بشكل كبير). المهم عاد يوسف.. وقابل المصور الإيطالي ألفيزي أورفانيللي الذي فتح الباب أمام أول تجربة له: «بابا أمين» ليصبح مخرجاً وعمره 23 سنة فقط.

المسافة طويلة بين هذه البدايات و بين نهايته السعيدة عندما أصبح أشهر مخرج سينما في مصر والعالم العربي.نجم ينافس نجوم التمثيل.ارتبط يوسف شاهين بنقلة نوعية حين بدأ الفيلم ينسب إلي المخرج، لا الممثل. عرفه الناس وحفظوا لزماته وأثارتهم تهتهاته. رغم أن النظرة العمومية تراه: مخرجاً «متحذلقاً». وهذه واحدة من اختصارات طالت يوسف شاهين.

كل سنة.. أنت في الذاكرة

- الدستور

No comments: