Wednesday, May 20, 2009

المصريون.. ومحنة الرئيس


لا أعرف شعباً يعرف للموت جلاله كالمصريين ، فهذه المسألة عنصر أساسى فى ملامح الشخصية المصرية منذ فجر التاريخ، فلم نكتشف حتى اليوم قصراً للفراعنة، لكننا نعثر يومياً على مقابر جديدة، بدءاً بالأهرامات وصولاً لمقابر العمال البسطاء، كان المصريون دائماً يقفون أمام جلال الموت بكل احترام.
فى لحظة الموت يتحول المصريون لعائلة واحدة ، يتجاوزون خلافاتهم وخصوماتهم، ويتعاطون بكل إنسانية وحميمية مع الموقف، تصبح مصر مثل قرية نائية فى أقصى الصعيد أو قلب الدلتا، تتحول كل منازلها لدور عزاء، ولا يتسامحون مطلقاً مع أراذل الخلق، الذين قد تبدر منهم أى إشارة يفهم منها أدنى شعور بالشماتة، ومن ينزلق لهذا الدرك الأسفل فإنه يكون قد خط شهادة نبذه اجتماعياً، من القريب قبل الغريب.
لعلها الدولة الوحيدة فى المنطقة التى تصحو وتنام شوارعها وصحفها ومقاهيها ودواوينها، على توجيه أقسى ألفاظ النقد، بل السخرية الجارحة أحياناً من الحاكم، مهما كانت صفته، عندما كان فرعوناً، وحين أصبح ملكاً، وحتى صار رئيساً، ومع ذلك يلتف هذا الشعب حول حاكمه، فى أوقات المحن والمخاطر، لأنهم فى هذه اللحظة يرون الحاكم أباً ورب العائلة، وربان السفينة التى ينبغى أن ترسو على مرفأ.
بوسع الجميع أن يتخيلوا حجم الأسى ولوعة الفجيعة لدى الأم، وكيف يتضاعف الأمر فى وجدان الجدة، لأن «أعز الولد.. ولد الولد»، كيف تحاصر مخيلة السيدتين ذكرياتهما مع الصبى الذى اختطفه الموت قبل أن «يدخل دنيا»، أسوأ ما فى الموت هو الفراق، وحين يكون الامتحان فى زهرة العمر يصبح عبء الامتثال لقضاء الله وقدره مهمة بالغة الصعوبة، لا يدرك عمقها سوى من كابدها، عافانا الله وإياكم.
«المحبة لا تدرك عمقها إلا ساعة الفراق»،
هكذا قال جبران، فى رائعته «النبي»، جالت بى هذه العبارة فى فضاءات الخيال، تصورت الرئيس مبارك .
وهو فى نهاية المطاف أب وجد مصرى شأن كل آبائنا وأجدادنا ـ لكن تزيد عليه أعباء مهمة شاقة هى «الحكم»، وهو ما يحرمه مثلاً من نزهة فى القناطر أو حتى فى مدينة الملاهى مع أحفاده، لا يستطيع الرئيس أن يفعل هذا، ومهما وفرت فى منزلك من وسائل الترفيه، يبقى للسينما مذاقها المختلف عن شاشات البيوت، وللشاى فى المقهى نكهة تختلف عن تلك التى تقدمها لنا الزوجات أو الخادمات، ولا يمكن لصبى أن يستمع وحده، بل تكمن المتعة فى مشاركة بل مزاحمة الآخرين، هذه سمة بشرية، وكثيراً ما تتحول النعم إلى نقم، وتصبح القصور سجوناً حتى لو كانت فاخرة، لأن «الجنة من غير ناس ما تنداس».
«أولادنا أكبادنا تمشى على الأرض»، لن نخترع العجلة حين نتحدث عن أم تجتر ذكرياتها مع أول مولود، وتتذكر يوم مولده وفطامه، وأول مرة سار فيها على قدميه، وأول يوم ذهب إلى المدرسة، وأول وأول.
يعرف الجميع أن المصريين شعب عاطفى بامتياز ، حتى لو شوهت وجدانه خبرات مريرة ومراحل انتقالية وعرة، لكننى أتمنى ألا أتهم بالشوفينية حين أراه لم يزل أكثر شعوب المنطقة نبلاً فى أوقات المحنة، وأراهن على ذلك بموقفين، الأول حين تعرض الرئيس مبارك لمحاولة الاعتداء الغادرة فى أديس أبابا، وكيف خرجت الناس وقتها للشوارع تؤكد مساندتها للرجل، وتدين هذا العمل الإجرامى، لأن المصريين فى هذه اللحظات لا يرون وجه الرئيس ولا الملك، لكنهم يرون فيه «الرمز» ويصبح «الكل فى واحد»..
هذا ملمح جوهرى فى «الكود النفسى للمصريين»، لهذا ينتفض المصرى فى الخارج حين يستمع من الآخرين انتقادات لحكومته، ويدافع عنها بشراسة، مع أنه حين يكون فى مصر وسط أهله وأصدقائه، يوجه لنفس الحكومة أقسى عبارات النقد.
الموقف الثانى هو المحنة الراهنة للرئيس وأسرته، برحيل الفتى على هذا النحو المفجع، وقد حرصت على متابعة عشرات المنتديات على الإنترنت، ورصد انطباعات الناس من شتى المشارب، ولم أقرأ أو أستمع سوى أكثر عبارات المواساة عذوبة، فللموت جلاله، ويتضاعف الأمر حين يتعلق بصبى أخضر، فى هذه اللحظة الأليمة يلتف المصريون حول الرئيس وأسرته، لا يرون فيها سوى الجدة والأم، والجد والأب المكلومين، وحينها إذا لم تكن مصريا وتعرف الناس جيداً، فلن تستطيع التمييز بين معارضين وموالين ولا بين مسلمين ومسيحيين، لأنهم فى هذه اللحظات سيصبحون أسرة واحدة تعتصم بذاتها.
قلوب ملايين المصريين معك سيدى الرئيس حسنى مبارك، وقلوبهم مع السيدة الفاضلة سوزان، وهى تمتحن بفقد «أعز الولد»، ومع أخيهم علاء الذى امتحنته الإرادة الإلهية فى ثمرة عمره، وقلوب الجميع أيضاً مع السيدة الفاضلة والدة الفقيد، وهى صاحبة «الفاتورة الثقيلة» فى هذه المحنة، ونحتسب ابننا محمد علاء مبارك وديعة لدى من لا تضيع عنده الودائع
بقلم نبيل شرف الدين ٢٠/ ٥/ ٢٠٠٩
المصرى اليوم

No comments: