Friday, March 20, 2009

القاهرة: وداع حزين للتنوُّع الثقافي العالمي في حاضرة مصر

عندما تسير وسط مدينة القاهرة هذه الأيام، فأنت إنما ترى نفسك في حاضرة مغبرَّة وملوَّثة ومزدحمة ومكتظة بالسكان إلى حدٍّ بعيد.
لكن في أربعينيات القرن الماضي لم تكن عليه الحال كذلك، فقد كانت المدينة تحفل بمظاهر الأناقة والترف وتعج بالغنى والتنوع الثقافي، ولا عجب في ذلك لطالما كانت القلوب ترنو إليها باعتبارها القلب النابض لحركة النهضة العربية
فعلى امتداد الجادَّات والشوارع التي تجذب جميع صنوف محبي المغامرة من شتى أصقاع المعمورة، كانت البارات (الحانات) والنوادي الليلية تنتشر وتزدهر وتملأ المكان.
ومنذ ذلك الحين، فقد اختفى وتلاشى العديد من تلك البارات والملاهي والنوادي الليلية (الكباريهات) أو ساءت سمعتها، إذ أن المصريين أصبحوا أكثر التزاما وتقيدا بقيم الإسلام المحافظة. فندق وندسور
ورغم ذلك، فلا تخلو الأمور من تلك المظاهر، إذ أن بعض تلك المرابع قد نجا بنفسه، ويقف فندق وندسور كمثال حيٍّ وواضح على ذلك. فالفندق، الذي بُني مطلع القرن الماضي ليكون كحمامات للأسرة المالكة في مصر، تحول في وقت لاحق إلى نادٍ للمستعمرين حيث كان مقصدا هاما للضباط البريطانيين على وجه الخصوص
أما اليوم، فما زال "بار باريل" في الفندق المذكور يحظى بالشعبية والتفضيل من قبل الأوروبيين، وذلك على الرغم من أنه يمثل الآن صورة للأبهة والفخامة الآفلة والتي تجد طريقها للتلاشي والانقراض.
فقد نجا مقسم الهاتف القديم من الاندثار وما زال موجودا في بهو الفندق في ركن الاستقبال حتى يومنا هذا. كما أن المصعد القديم ما زال موجودا في مكانه، بالإضافة إلى لوحات اللوفتهانزا التي راحت تزين المداخل والأروقة والممرات في الفندق منذ ستينيات القرن الماضي
وتدير الفندق عائلة دوس، وبشكل رئيسي الأخوان وصفي ووفيق وشقيقتهما ماريليز التي تقول: "أتذكر تلك المقاهي الفخمة الأنيقة، فقد كان وسط مدينة القاهرة هو المكان الذي لا بد من أن يراه الزائر. كان الكل يرتدي الملابس الأنيقة والفخمة، وكنت أنا ما زالت فتاة في ريعان الصبا. لكنني أتذكر أنني كنت أشعر بالفخر والاعتزاز بفستاني الصغير وجواربي البيضاء."
أما نادي شهرزاد، فقد نجا هو الآخر من عملية الغربلة تلك، إلا أن مربع الرقص الشرقي هذا يبدو اليوم بعيدا جدا عما كان يرفل فيه من أُبَّهة وفخامة أيام العز والذروة الغابرة.
فداخل النادي هناك العديد من الستائر الحمراء المخملية الثقيلة والناعمة، وترى على الجدران صور بعض أشهر وألمع الأسماء في ميدان الراقص الشرقي في العالم، والتي كانت تقصد المكان ذات يوم للمارسة فن "هزِّ" الخصر.
يقول الصحفي ماكس رودينبيج، مؤلف كتاب "القاهرة: المدينة المنتصرة"، إن نجم الرقص الشرقي قد أفل خلال السنوات العشر الماضية.
ويضيف: "لقد عانى (أي الرقص الشرقي) حقيقة من موجة العودة إلى القيم المحافظة التي اكتسحت المكان."
أما الكاتب علاء الأسواني، مؤلف رواية "عمارة يعقوبيان" التي ضربت شهرتها الآفاق وأصبحت أكثر الكتب مبيعا، فينظر هو الآخر بعين المولع والمُغرم إلى قاهرة أيام زمان، ويلقي باللائمة على "الإسلام المحافظ لما جرى لوسط القاهرة من موت وذبول
يقول الأسواني: "منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، أصبح من الصعب للغاية، لا بل أحيانا مستحيلا، بالنسبة لمالك رخصة للمشروبات الكحولية ان يورثها لابنه أو لمالك جديد."
وإلى حد بعيد، فقد اختفى وسط القاهرة الذي كان ذات يوم رمزا للتنوع العالمي، فقد هجر المغامرون المكان ورحل أفراد الطبقات الوسطى وما فوق المتوسطة إلى الضواحي.
فالبارات والنوادي الليلية والملاهي التي كان يعج بها المكان خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي أضحت اليوم جزءا من التاريخ، وذلك في الوقت الذي تشيح فيه مصر وجهها عن مُتع وملذات الغرب، والتي قد يعتبرها البعض من الرذائل والنقائص.
فأنت عليك اليوم أن تبذل جهدا مضنيا للعثور في وسط القاهرة على تلك البارات، التي نجت (ونفدت بريشها أو بجلدها) من الاندثار، إذ لم تعد تستطيع أن تلمح الأضواء الوامضة والمتلألئة التي كانت ذات يوم تدل على تلك المرابع التي نُقلت بعيدا عن الشوارع الرئيسية ليحط بها الرحال في مبانٍ غريبة الأطوار لا نوافذ فيها ويصعب على المرء وصفها
ومن بين تلك الأماكن واحد اسمه "هاواي" حيث ترى كائنات الليل تنسل خلسة عبر الأزقة المضاءة بأنوار خافتة لتصل في نهاية المطاف إلى أحد تلك الأمكنة حيث يمكن للمرء احتساء كأس من البيرة (الجعة) والاستماع إلى مطرب محلي يشدو بصوته في أحد البارات.
يقول الصحفي سمير الأطرش، أحد أولئك الذين يعرجون بين الفينة والأخرى على تلك الأمكنة: "إن الناس هنا يريدون فعلا إطلاق العنان لأنفسهم والتنفيس عن مشاعرهم المكبوتة والعيش في شيء من أجواء اللهو والمرح والبهجة."
ويضيف الأطرش قائلا: "إن الأمر لا يتعلق بالفخامة ولا بالعيش على الطراز الحديث. لكن علينا ان نتذكر أن هؤلاء الناس يعيشون وسط الكثير من القيود المفروضة على حياتهم. أما هنا، فهم لا يجدون أي قيود، فأي شيء يمكن الأخذ به وتجريبه."
والحق يُقال، إن تجربتي في نادي "هاواي" أشعرتني بالحزن والأسى، فهي لم تكن طبيعية ولم أشعر خلالها بأن الأمور كانت تسير على ما يُرام.
كريستيان فريزر
BBC
القاهرة

No comments: