Wednesday, February 18, 2009

الدين‮ ‬100٪‭ ‬لكن ماذا عن التطبيق ؟

‭ ‬مائة بالمائة من المصريين يعتبرون أن الدين يلعب دورا هاما في حياتهم‮..
‬وقد حققوا بذلك الرقم القياسي وتفوقوا علي كافة شعوب العالم في الاستطلاع الذي أجراه معهد جالوب الأمريكي علي مدي السنوات الثلاث الماضية في‮ ‬143‮ ‬من بلدان العالم ونشرت نتائجه مؤخرا‮.
‬ولم يصل شعب واحد علي وجه الأرض إلي هذه النتيجة النهائية القصوي وهي‮ ‬100٪‮ ‬وإن كانت الدول الإسلامية قد احتلت المقدمة في هذا الاستطلاع حيث جاءت بنجلاديش في المركز الثاني بعد مصر بنسبة‮ ‬99٪‮ ‬وتلتها دول إسلامية أخري مثل إندونيسيا والمغرب والسنغال والإمارات العربية المتحدة،‮ ‬وقد تساوت بنسبة‮ ‬98٪‮ ‬والغريب أن إيران التي يحكمها آيات الله منذ ثلاثين عاما جاءت في ترتيب متأخر نسبيا حيث لم يعتبر سوي‮ ‬83٪‮ ‬فقط من أبنائها أن الدين يلعب دورا هاما في حياتهم‮.
‬أما إسرائيل التي قامت علي أساس الدين،‮ ‬ومازالت المواطنة فيها تمنح لمن يثبت أنه يهودي،‮ ‬فقد وصلت النسبة فيها إلي‮ ‬50٪‮ ‬فقط لا‮ ‬غير‮.‬ وفي العالم الغربي تصدر الأمريكيون قائمة الدول التي يلعب فيها الدين مكانة كبيرة في حياة الناس واتضح أنهم أكثر الشعوب الغربية تمسكا بالدين حيث إن‮ ‬65٪‮ ‬أجابوا بنعم عن سؤال الاستطلاع وهو‮: "‬هل يلعب الدين دورا هاما في حياتك؟‮"
‬ ‮****‬ ويتضح من الاستطلاع أن هناك فارقا كبيرا في المكانة التي يحتلها الدين بين شعوب الدول المتقدمة ودول العالم الثالث حيث إن متوسط من سلّموا بأن الدين يلعب دورا محوريا في حياتهم لم يتعد‮ ‬36٪‮ ‬‭ ‬في دول الشمال في حين أنه زاد علي‮ ‬90٪‭ ‬في دول الجنوب‮.
‬وعلي المستوي الإجمالي فإن‮ ‬82٪‮ ‬من أبناء البشرية أعلنوا عن تمسكهم بالدين في حياتهم الخاصة أي أن ثمانية من كل عشرة أشخاص علي وجه الأرض يؤمنون بضرورة الالتزام بالأديان‮
. ‬وعلي النقيض كانت هناك شعوب تعترف بأن الدين لا يلعب في حياتها دورا هاما حيث كانت النسبة في فرنسا‮ ‬25٪‮ ‬وفي سويسرا‮ ‬36٪‭ ‬أما الرقم القياسي المعاكس للرقم المصري فكان من نصيب إستونيا التي كانت النسبة بها‮ ‬14٪‮ ‬لا أكثر‮.
‬ ‮****‬ واحتلال الشعب المصري للمكان الأول بين الشعوب المتدينة في العالم بنسبة‮ ‬‭ ‬100٪‭ ‬‮ ‬هو خبر من شأنه أن يثلج الصدور‮. ‬لكن من حقنا أن نتساءل عن مغزي نتيجة هذا الاستطلاع وانعكاساته علي حياة المجتمع المصري وعلي العلاقات بين الناس‮.
‬ولاحظ أيها القاريء العزيز أن السؤال لم يكن‮ : ‬هل أنت مؤمن؟ وإنما كان‮ : ‬هل يلعب الدين دورا هاما في حياتك؟ أي أن السؤال يتضمن بعدا أساسيا وهو التطبيق وليس مجرد الاكتفاء بالإيمان بوجود الله‮.
‬فالدين له وفقا لكبار العلماء شقان رئيسيان‮: ‬الأول هو العبادات والآخر هو المعاملات أي الأخلاقيات وأساليب التعامل مع الغير في ضوء تعاليم الدين وكلها أمور معروفة وقتلت بحثا علي مر القرون الماضية‮. ‬
لكن هذا الانقسام لا يعني أنه يمكن الفصل بين الشقين،‮ ‬بل هما متلازمان متشابكان والالتزام بأحدهما دون الآخر يخل بجوهر الإيمان‮.‬
فلو افترضنا أن هناك إنسانا محسنا طيب القلب يصنع الخير ولا يؤذي أحدا ولا يكذب ولا يزني لكنه لا يلتزم بالصلاة والصيام فإن ما يصنعه لا يكفي ويخالف صحيح الدين‮. ‬وأعتقد‮ ‬أن العكس صحيح‮.
. ‬أي أن من يؤدي الصلوات في موعدها ويصوم ويحج إلي بيت الله الحرام ويؤدي الزكاة ثم يظلم الناس ويقسو علي المقربين منه فقد أخل بالتوازن الإيماني الطبيعي الذي يطالبنا به الدين‮. ‬وقد أوجز الرسول الكريم هذا المعني ببلاغته السامية عندما قال‮ "‬الدين المعاملة‮".
‬ ‮****‬ ومن منطلق هذه النظرة التي أومن بها إيمانا شديدا طرأ في نفسي سؤال وأنا أطالع نتائج استطلاع الرأي عن الأديان‮ : ‬هل يلتزم الشعب المصري بنسبة‮ ‬‭ ‬100٪‭ ‬بالأخلاق الحميدة وبالأوامر والنواهي التي يفرضها الدين؟
هل يلتزم الناس بنسبة‭ ‬100٪‭ ‬بالمنظومة الأخلاقية التي وضعها القرآن الكريم وأوضح أبعادها الرسول من خلال سنته وأحاديثه المحفوظة؟ هل يلتزم‭ ‬100٪‭ ‬من المصريين بالاهتداء بحياة الرسول وصدقه وترفعه وتواضعه ونقاء قلبه مما جعل من يحيطون به علي استعداد لافتدائه بأرواحهم ؟‮ ‬
لقد كان الهمّ‮ ‬الأول للرسول في السنوات الثلاث والعشرين التي نزل فيها الوحي من السماء أن يرسّخ في القلوب المعني الجوهري للإيمان وهو إعمار الأرض وخدمة المجتمع وصناعة الخير وعدم إيذاء الآخرين وعدم العدوان والتجبر،‮ ‬وهناك مئات الأحاديث التي تنبيء كل من تسول له نفسه أن يخرق أصول الدين في المجال الأخلاقي بمصير مظلم وبالويل والثبور‮.‬
‮ ****‬ وفي اللحظة التي وقعت فيها عيناي علي نتائج الاستطلاع وجدت أسئلة عديدة تتسابق إلي ذهني‮ : ‬كم إنسانا يستطيع أن ينظر اليوم في عيون الآخرين ويقول‮: ‬أنا ألتزم بأخلاقيات الدين ولا أخالف المثل والقيم التي احتذي بها السلف الصالح حسبما جاءنا من روايات تنشرح لها القلوب نتعلمها بالمدرسة والجامعة ونقرأ عنها في كتب السيرة والتراث؟
كم إنسانا في بلادنا يستطيع أن ينظر في المرآة بضمير مستريح،‮ ‬ويقول أنا أحتذي بتعاليم الدين وأخلاقياته؟
كم إنسانا يستطيع أن يرفع رأسه ويقول في نهاية يومه‮: ‬أنا لم أكذب اليوم ولم أظلم أحدا ولم آخذ حقا لغيري ولم تخرج من فمي كلمة جارحة أو مسيئة ؟
في هذا الزمان الصعب أعتقد أن من يستطيعون ذلك يعدون علي الأصابع‮. ‬فهل الموظف الذي يتعمد تعذيب الناس وتسويف مصالحهم يلتزم بأصول الدين‮..
‬هل صاحب السلطة الذي يتعمد إذلال وإيذاء من يعملون تحت إمرته يحترم نواهي الدين ؟ ناهيك عن الموظف الذي يتقاضي الرشوة أو‮ "‬الإكرامية‮" ‬من أجل إنجاز الأعمال وإنجاز مصالح العباد‮.
‬هل الضابط أو أمين الشرطة الذي‮ "‬يفتري‮" ‬علي الناس في الشارع المصري ويتجاوز في سلطاته يستطيع أن يقول ذلك ؟ هل الذي يكذب عشرات المرات في اليوم يستطيع أن يرفع رأسه ويقول‮ : ‬أنا ألتزم بالدين وأعمل بتعاليم الرسول الكريم ؟
هل من يرفع قضايا علي أشقائه أو أبيه أو أمه ويقاطعهم من أجل أمور مادية يطبق القيم الدينية ؟
‮****‬ وأرجو ألا يتبرع أحد باتهامي بأنني أتجني أو أبالغ‮..
‬فالشكوي من تدهور مستوي الأخلاق ومن سوء المعاملة ومن البذاءات التي أصبحت لغة التخاطب العادية في كثير من الحالات هي شكوي عامة ترد الآن علي لسان‮ ‬الوزير كما نسمعها من أبسط موظف أو عامل‮. ‬
ومع ذلك فإنني أعلم تماما أن هناك ملايين من الناس الطيبين الذين يتعرضون للأذي في كل يوم،‮ ‬وهم ضحايا لمن يضرب عرض الحائط بتعاليم الدين في المجال الأخلاقي‮.
‬وأدرك تماما أن الناس تخطيء بدرجات متفاوتة،‮ ‬وأن هناك فارقا جوهريا بين من يختلس ومن يكذب لغرض أو لآخر‮. ‬أعلم أن هناك ملايين يبذلون كل جهدهم لإرضاء ربهم والتحلي بأخلاقيات الدين‮.
‬لكن كم من هؤلاء يعامل زوجته وأولاده المعاملة الكريمة التي يرتضيها الدين ؟
كم منهم حريص علي مصالح أقاربه وجيرانه ولا يتعدي علي هذه المصالح ؟‮
‬ والخطير في الأمر أن الناس عندنا صاروا يصنعون الخير ليس من أجل الخير ذاته وإنما طمعا في الجنة‮
. ‬وكثيرا ما أستمع إلي الأسئلة التي يطرحها البعض علي شاشات التليفزيون وفي الإذاعات فأجدها تدور حول مسائل بديهية لكن أسلوب الطرح يدل صراحة علي أن السائل لا يهمه الالتزام بالأخلاق والقيم والمباديء بقدر ما يستهدف تجنب إغضاب الخالق خوفا من النار أو طمعا في الجنة‮.
‬وبالتأكيد أن ورود الجنة مطمع مشروع لكل إنسان ومن الطبيعي أن نحلم جميعا بدخول الفردوس،‮ ‬لكن أن يكون ذلك هو السبب الوحيد لفعل الخير يجعل هذا الخير منقوصا ولا أدري إلي أي مدي يحتسب في ميزان الحسنات‮.
‬ وحيث إن ديننا وثقافتنا وتراثنا قد علمونا أن الأعمال بالنيات فإنه من الواضح أن نية كثير ممن يسعون لفعل الخير ليس صافية لأن الدافع الأساسي لها هو أغراض ومآرب خاصة‮.‬ ‮
‬ والخلاصة،‮ ‬هي أن هناك تناقضا واضحا بين نتيجة هذا الاستطلاع وبين واقع الحياة في بلادنا‮. ‬فمن يقرأ أن الدين يلعب دورا هاما لدي‭ ‬ ‬‮ ‬من المصريين يتصور أننا مجتمع من الصالحين والبررة الذين لا يكفون عن فعل الخير ويتجنبون كل ما يغضب الله‮..
‬لكننا نعلم جميعا أن ذلك ليس الوصف الحقيقي الذي يتصف به الجيل الحالي‮.
‬والسبب في رأيي أن هناك سوء فهم للدين في هذا الجيل حيث يتصور البعض أن الالتزام بشق العبادات يكفي تماما للمؤمن ويعفيه عن شق المعاملات والأخلاقيات‮.
‬وهذا المفهوم يؤدي إلي الخلل والاضطراب الأخلاقي الذي نعايشه اليوم في مجتمعنا‮.‬
بقلم‮ : ‬شريف الشوباشي
*نقلاً عن الوفد

No comments: