Thursday, January 29, 2009

مصر أم الدنيا‮.. ‬وأبوها كمان

الحمد لله‮.. ‬خلصت‮.. ‬بعد المذابح والدمار والمؤتمرات والقمم العربية والشتائم والتصريحات واحتفالات النصر الحاسم‮.. ‬وصلنا إلي‮ ‬مرحلة ملايين الدولارات واليورو والريال والدرهم وهي الفصل الأخير من الجزء السابع والخمسين من المسلسل اللي‮ ‬مش باين له آخر الشهير‮ »‬بالقضية الفلسطينية‮«
‬وأنا أعرف مسبقًا أحداث الحلقة الأخيرة سيكون بها مشاهد معادة بها كثير من المط والتطويل واللت والعجن وهي مسابقة في شد الحبل للحصول علي‮ ‬الأموال لإيداعها بسرعة تحت حساب‮ »‬النضال‮« ‬في بنوك سويسرا قبل أن تنتهي التهدئة ويبدأ الفاصل ونعود للجزء الثامن والخمسين من المسلسل وبصراحة كفاية قوي كده وخلينا في حالنا‮.. ‬وفلسطين معاها ربنا وحماس والفلوس‮.‬
لا أعرف لماذا وفي هذا الوقت بالتحديد تداعت الذكريات القديمة وتدفقت بكل تفاصيلها وكأنها حدثت بالأمس القريب‮.. ‬ولماذا‮ ‬يلح علي ذهني‮ »‬محمد أبوصديق‮« ‬بالذات‮!!.. ‬في‮ ‬يناير من عام‮ ‬1974‮ ‬كنت أعمل في قرية تتبع مركز نجع حمادي وتقع في مواجهتها علي‮ ‬الشاطئ الغربي للنيل‮.. ‬وكانت الوحدة الصحية في قرية‮ »‬الهيشة‮« ‬تقع علي‮ ‬شاطئ النيل لا‮ ‬يفصلها عنه سوي‮ ‬غيط قصب صغير‮.. ‬والنيل في نجع حمادي رائع الجمال شديد الاتساع‮.. ‬وفي صباح أحد الأيام وبينما أشرب الشاي وأنا أطل علي‮ ‬هذا المنظر الخلاب‮.. ‬إذا بأصوات شجار عالية تأتي من أسفل سكن الأطباء حيث العيادة الخارجية‮.. ‬أسرعت بالنزول ورأيت شابًا صعيديًا لا‮ ‬يتعدي الخامسة والعشرين‮ ‬ينهر الممرضة ويطلب حضور طبيب الوحدة فورًا‮.. ‬ذراعه اليمني مربوطة ومعلقة إلي كتفه والممرضة تتشاجر معه قائلة‮: »‬مين انت‮ ‬يعني عشان الدكتورة تغير لجنابك بنفسها؟‮.. ‬قال صارخًا‮: »‬أنا جاي من الحرب‮ ‬يا واكلة ناسك‮« ‬أسرعت بالتدخل‮.. ‬ورحبت به وشددت علي‮ ‬يده السليمة وأدخلته إلي حجرة العيادة وطلبت له الشاي بينما الممرضة تتراجع وهي تبرطم‮ ‬غير راضية‮.. ‬هدأ‮.. ‬وقدم لي تقريرًا طبيًا وأشعات وقال‮: ‬انا محمد أبوصديق‮. ‬لسه واصل من مستشفي السويس من‮ ‬يومين أهلي كانوا فاكرين إني شهيد‮.. ‬بصوا لجوني وسطيهم أصلي‮ ‬كنت في‮ ‬غيبوبة‮ ‬يجي شهرين‮.. ‬الحمد لله‮.. ‬لسه لي عمر‮.. ‬بالك؟‮.. ‬أنا فرحت بالحرب جوي ليه؟ عشان ولاد عمي اللي راحوا في سبعة وستين‮.. ‬وغيرهم كتير من بلدنا‮.. ‬راحوا في أول‮ ‬يوم ولا نعرف ماتوا إزاي ولا فين ولا نعرف لهم تربة‮.. ‬صحيح شهداء ما جلناش حاچة‮.. ‬لكن تارهم في رجبتنا‮.. ‬أنا چولت النفر بعشرة من اليهود‮.. ‬وربنا كان معاي وجتلت من اليهود عشرين وزيادة أنا كنت مدفعية كنا أربعة علي‮ ‬المدفع‮.. ‬وفي‮ ‬يوم لچينا المشير بنفسه واچف جدامنا وچال‮: »‬الرچالة علي اليمين والـ‮ ..... ‬علي الشمال‮« ‬أنا فطيت علي‮ ‬اليمين طوالي‮.. ‬مش رچالة إزاي‮ ‬يعني؟‮.. ‬وكل الكتيبة جال‮: ‬المهمة واعرة چوي ويمكن ما ترچعوش واصل‮.. ‬أصل اليهود ولاد الكلب دخلوا الدفرسوار وعملوا ثغرة عشان‮ ‬يداروا خيبتهم‮.. ‬وانتوا هاتخشوا جواها‮.. ‬لعلم حضرتك اليهود جبناء في الحرب الفرداني‮.. ‬خوافين جوي‮.. ‬هما بيتداروا جوه دبابة ولاَّ‮ ‬مدرعة ولاَّ‮ ‬طيارة‮.. ‬لكن وش لوش إكده؟ زي الأرانب‮.. ‬إحنا كلنا جولنا في نفس واحد تمام‮ ‬يا أفندم‮.. ‬جال لنا فيه زميل بطل كانت مهمته‮ ‬يجفل محابس مواسير النابالم اللي بتضخ علي‮ ‬شط الكنال ولما ماعرفش‮ ‬يجفل المحبس سد الماسورة بجسمه‮.. ‬دخل جواها وانتوا مش أجل منه‮.. ‬جولنا تمام‮ ‬يا أفندم‮.. ‬واتحركنا ودخلنا وضربنا وانضربنا‮.. ‬طاجم المدفع بتاعي كله مات وأنا أخدت شاظية في رجبتي‮.. ‬نزفت جوي‮.. ‬كنا بالليل‮.. ‬حطيت‮ ‬يدي علي‮ ‬الجرح وربطت عليه زي ما علمونا‮.. ‬ومسكت الصفارة وقعدت أقرأ الشهادة وأجاوم النوم لغاية ما سمعت الاسعاف‮.. ‬صفرت وغبت عن الوعي فجت لچتني بعدها بشهرين في مستشفي السويس‮.. ‬الأول ما كنتش جادر أحرك‮ ‬يدي والدكتور جال لي انت محظوظ‮.. ‬الشاظية كبيرة جوي دخلت الرجبة من جدام وطلعت‮ ‬يادوب جنب النخاع الشوكي شوفي سيادتك الأشعة‮.. ‬لسه فيه شاظيتين صغيرين بس في حتة خطر‮.. ‬جال لي ها‮ ‬يطلعوا لوحديهم بع سنة ولا اتنين ولو ما طلعوش مش مهم‮.. ‬دراعي اليمين كويسه لكن ما أعرفش أرفعها من الكوع لفوق‮.. ‬أصل عضلة الكتف اتشلت‮.. ‬الحمد لله بأعمل علاج طبيعي واتحسنت‮.. ‬بالك إنتي‮.. ‬جصدي حضرتك جالنا ناس كتير في المستشفي وستات جابوا لنا هدايا أنا زعلت جوي واتخانجت معاهم‮.. ‬ليه كيف؟ وهو أنا كنت بأحارب ومستني هدايا؟ عيب جوي‮.. ‬ها‮ ‬يدوني أجرة ولا إيه؟ زعلت وما خدتش منهم حاچة‮..‬ ما تأخذنيش‮ ‬يعني عشان عليت صوتي ساعة ما چيت‮.. ‬أصل الممرضة دي كلامها‮ ‬يعني كده ماعچبنيش‮.. ‬والله العظيم الدكتور هو اللي جال لازم اللي‮ ‬يغير لك علي‮ ‬الجرح‮ ‬يكون دكتور‮.. ‬وكاتب إكده في التجرير‮.. ‬بس‮ ‬يعني‮ ‬آدي السبب‮.‬ قلت‮: ‬حمد الله علي‮ ‬السلامة‮ ‬يا محمد صرنا أصدقاء حتي‮ ‬بعد أن تم التئام الجرح‮.. ‬ودعاني محمد لشرب القهوة في منزل عائلته‮.. ‬وألح في الدعوة‮.. ‬وشرب القهوة عند الصعايدة معناه‮ »‬تناول الغداء‮« ‬وذهبت لشرب القهوة مع عائلة محمد‮.. ‬وكان‮ »‬محمد‮« ‬آخر من رأيت قبل أن‮ ‬يتحرك القطار من محطة نجع حمادي في اتجاهه إلي القاهرة بعد أن صدر قرار بنقلي‮.. ‬ولا أنسي‮ ‬يده المرفوعة نصف رفعة‮ ‬يلوح لي بها مودعًا‮.. ‬حتي‮ ‬الآن وبعد مرور خمسة وثلاثين عامًا مازلت أذكر‮ »‬محمد أبوصديق‮« ‬المصري الصعيدي الذي فطر علي‮ ‬عشق الوطن والتضحية في سبيله بسخاء‮.. ‬دون شعارات رنانة أو كلمات كبيرة‮.. ‬وأيضًا دون مقابل حتي‮ ‬لو كان هدية بسيطة قدمت له وهو علي‮ ‬سرير الجرحي‮.. ‬ولأن محمد مصري‮.. ‬فمصر أم الدنيا‮.. ‬وأبوها‮.. ‬وست ستها
بقلم: د. لميس جابر
الوفد

No comments: