Wednesday, January 28, 2009

ثورة‏1919‏ تسعون عاما‏

عندما هزمت الثورة العرابية‏,‏ تبدي للجميع أن مصر قد ركعت أمام سطوة الاحتلال وخيانة الخديوي وكبار الملاك‏,‏ لكن المعتمد البريطاني لورد كرومر فاجأ الجميع بأن قال في أحد تقاريره إن مصر تذوب شوقا إلي الثورة‏.‏
ولابد للثورة من زعيم‏.‏ وقد حاول الكثيرون تحديد ملامح هذا الزعيم فقال البعض مصري من أصل فلاحي‏,‏ ضد الاحتلال‏,‏ ضد الخديوي‏.(‏ هولت ـ التغير السياسي والاجتماعي في مصر الحديثة ص‏48‏ ـ الطبعة الإنجليزية‏).‏ وفي أبريل‏1887,‏ كتب بلنت‏,‏ وكان معروفا بأنه صديق لمصر رسالة إلي سالسبوري يقول فيها‏,‏ المصريون غير راضين عن الاحتلال خاصة أنه لا يوجد وزير واحد من أصل مصري رغم أن الثورة العرابية قد تفجرت لهذا السبب‏,‏ وأقترح أن يختار وزير مصري من بين الأسماء التالية‏:‏ محمد عبده ـ سعد زغلول ـ إبراهيم الوكيل‏(‏ بلنت ـ مذكراتي ـ ج‏1‏ ـ ص‏58‏ ـ بالإنجليزية‏),‏ وأحال سالسبوري الرسالة إلي بارينج‏,‏ وكان الرد في ظل الوضع الراهن يكون تعيين واحد من أصدقاء بلنت المصريين وزيرا أمرا مثيرا للسخرية تماما‏,‏ كما لو عين أحد رؤساء قبائل الهنود الحمر حاكما عاما لكندا‏,‏ إن أصدقاء بلنت ليسوا سوي متعصبين‏,‏ وفاسدين‏,‏ وجهلة‏.‏
ورغم ذلك كانت مصر تمضي في نسيج زعامة مصرية‏,‏ فلاحية‏,‏ ضد الاحتلال‏.‏ وكان سعد الله زغلول واحدا من هؤلاء المؤهلين لذلك‏,‏ وسعد ابن لمالك ريفي متوسط‏,‏ تعلم في الكتاب ثم الجامع الدسوقي ثم الأزهر‏.
‏ وفي أكتوبر‏1880‏ اختاره محمد عبده محررا بالوقائع المصرية بمرتب ثمانية جنيهات‏,‏ ويبدأ سعد الله رحلة الدفاع عن الوطن والديمقراطية‏,‏ ويكتب في الوقائع‏(1881)‏ المستبد عرفا هو من يفعل ما يشاء غير مسئول‏,‏ ويحكم بما يرسم به هواه وافق الشرع أم خالفه‏.‏ لهذا ينفر الناس من هذا اللفظ لعظم مصابهم له‏,‏ وحق لهم النفور والاشمئزاز‏,‏ إذ لم ينالوا من جرائمه إلا وبالا‏.
‏ وفي عام‏1882‏ ساعده محمد عبده كي يصبح ناظرا بقلم قضايا الجيزة‏(‏ عباس العقاد ـ سعد زغلول ـ سيرة وتحية ـ ص‏67).‏
ولما هزمت الثورة فصل من الوظيفة‏,‏ وطلب إليه أن يكتب معربا عن شماتته بالمهزومين وأن يترامي في أحضان الغالبين‏,‏ لكنه أبي لرجولته‏(‏ العقاد ـ ص‏19)‏ ولم يجد سعد سوي أن يعمل بالمحاماة متسترا فقد كانت تعتبر مهنة حقيرة لكنه ما لبث أن قبض عليه بتهمة بتأسيس جماعة الانتقام التي تسعي لاغتيال عملاء الاحتلال‏.‏ وكان الدليل عبارة بخطه تقول ولي في ضمير الدهر سر ظاهر‏.‏ وأفرج عنه‏.
‏ ويبقي سعد زغلول كما يقول ألبرت حوراني علي أفكار مدرسة الشيخ محمد عبده التي تنادي بالإصلاح سبيلا لتحرير مصر‏(‏ الفكر العربي في العصر الليبرالي ـ ص‏214‏ ـ بالإنجليزية‏).‏
وظل محمد عبده يسانده دوما‏,‏ فقد كان صاحب اقتراح تعيينه قاضيا بعد أن قبل سعد نصيحة الأميرة نازلي بأن يتعلم الفرنسية ليصبح محاميا عصريا‏.‏ والحقيقة أن صالون نازلي كان ملتقي لقادة الاحتلال كرومر مع صفوة من المفكرين المصريين‏(‏ زغلول ـ محمد عبده ـ قاسم أمين وغيرهم‏).‏ ولعل كرومر كان يبحث آنذاك عن أشخاص يصلحون لعمل قيادي في الجهاز الإداري‏.(‏ عفاف لطفي السيد ـ مصر وكرومر ـ ص‏95‏ ـ بالإنجليزية‏).‏ وقد حرص القاضي سعد زغلول علي إصدار أحكام تستند إلي مفهوم ليبرالي وديمقراطي ففي إحدي القضايا استندت فيها الحكومة إلي نص قانوني يعفيها من المسئولية عن أعمال موظفيها‏,‏ كتب زغلول في حيثيات الحكم الذي خالف نص القانون لا يمكن أن يكون المراد هو حماية الأعمال الاستبدادية المخالفة للعدل والقانون والمضرة بحقوق الأفراد‏,‏ لأن ذلك لا ينطبق علي مبدأ الحكومات العادلة‏(‏ عبده حسن الزيات ـ سعد زغلول من أقضيته ـ ص‏5).‏ وفي حكم آخر أدان زغلول استخدام العنف لإظهار مرتكب الجرم‏.‏ فهذا أشد خطرا علي النظام من خفاء الجاني‏(‏ ص‏319).‏ وفي الجمعية التشريعية التي انتخب وكيلا لها‏..‏
ألقي خطابا تحدث فيه عن رجال الإدارة ومسئولي الأمن قال فيه‏:‏ كل هؤلاء أخشاهم كما تخشونهم أنتم‏.‏ لأننا جربنا أعمالهم‏(‏ أحمد فهمي حافظ ـ سعد زغلول في الجمعية التشريعية ـ ص‏98)‏ ورغم أخطاء عديدة وجسيمة أحيانا‏,‏ يواصل سعد استكمال مقومات الزعامة‏,‏ فإذ توشك جريدة المؤيد علي التوقف‏,‏ يمنحها سعد مالا تواصل به مسيرتها‏..‏ ومن بيت سعد زغلول صدر أول نداء لحملة جمع التبرعات لإنشاء الجامعة الأهلية‏.‏
وهكذا اقترب زغلول من أن يكون مشروع زعيم شعبي حقا‏.‏ وربما لهذا السبب قرر اللورد كرومر أن يقترب منه‏.‏ ولكن رغم أن كرومر قد وصف بأنه ما من إنجليزي يعرف مصر والمصريين أفضل منه‏(‏ سير أوكلاند كلفن ـ صناعة مصر الحديثة ـ ص‏878‏ ـ بالإنجليزية‏)‏ فإن كرومر كعادة المستبدين لم يستطع قياس الوجدان الوطني عند الزعيم المقبل‏,‏
ومن ثم ومع صعود السخط بعد محاكمات دنشواي والتي صمت سعد عن إدانتها بحجة أنه لا يجوز له التداخل في حكم قضائي آخر‏,‏ بدأ الاحتلال خطة جديدة تميل إلي الاعتراف بالوطنية المصرية‏,‏ وكان أن تولي سعد وزارة المعارف‏(‏ العقاد ـ ص‏96)‏ ـ وقد تكاثرت تفسيرات اختيار سعد لهذا المنصب لكن أهمها في اعتقادنا يأتي في برقية أرسلها كرومر للخارجية البريطانية يقول فيها إن سعدا ليس فقط أكفأ المصريين الذين تعاملت معهم وإنما هو أيضا أقواهم شخصية‏(‏ من كرومر للخارجية‏3‏ مارس‏1907)‏ أما همفري باومان فقد قال كان سعد نموذجا فريدا من الوزراء ولم يسبق أن ضم مجلس الوزراء وزيرا أكفأ منه نافذة علي الشرق الأوسط ـ ص‏72‏ ـ بالإنجليزية‏.‏ لكن سعدا كان يتطلع إلي ما هو أبعد‏..‏ إلي الزعامة‏.‏
ومن ثم تصدي لنفوذ دنلوب المستشار البريطاني لوزار ة المعارف ولمشروعه بتجاهل تعليم اللغة العربية فقرر نقل التعليم من الإنجليزية إلي العربية‏,‏ فأغضب الإنجليز‏,‏ وأنشأ مدرسة القضاء الشرعي فأغضب الخديوي والأزهر‏.‏ وأبطل التحية العسكرية للوزراء والمستشارين الإنجليز‏,‏ وجعل رأس السنة الهجرية إجازة رسمية بالمدارس‏.‏
وواصل سعد معركته المصرية‏.‏ ورغم بعض الأخطاء فإنه واصل صناعة نفسه كمشروع زعيم مصري‏,‏ الأمر الذي دفع أحد الباحثين الإنجليز إلي القول لابد أن كرومر قد شعر بالخطأ في اختياره لشخص استطاع أن يصبح زعيما حقا‏(‏ فالنتين شيرول ـ ص‏77).‏
وترك سعد الوزارة شبه مطرود بعد أن تحالف الخديو مع كتشنر خليفة كرومر فقد كان يستحق رئاسة الوزراء بحكم أقدميته لكن الاحتلال والقصر أتيا بمحمد سعيد باشا لهذا المنصب‏(‏ مذكرات فتح الله بركات باشا ـ كراس‏16‏ ب ـ ص‏10).‏ وبهذا بدأ اكتمال مقومات الزعامة‏,‏ فقد بدأ سعد معركته ضد الاحتلال والقصر معا‏.‏
ونواصل مع زغلول مشروع صناعته لنفسه كزعيم‏
بقلم : د‏.‏ رفعت السعيد
الأهرام‏

No comments: