Tuesday, December 25, 2007

مصر بين عهدين: ذروة تنذر بشيوع الفوضى

مع نهاية عام يستعد للانصراف واقتراب آخر يتهيأ للدخول، تبدو مصر وكأنها تحمل فوق ظهرها عبء نظام قديم شاخ ، انتهى عمره الافتراضي منذ زمن لكنه ما زال متشبثا بالبقاء حيا، حتى ولو داخل غرفة للعناية الفائقة، كما تبدو وكأنها تحمل جنينا لم ينضج أو تظهر علامات مخاضه بعد.
ورغم صعوبات التنبؤ بما قد يحدث لهذا البلد الكبير العجيب إلا أن ساحته السياسية تبدو مرشحة لتفاعلات وتجاذبات حادة بين القوى المتشبثة بالإبقاء على النظام المحتضر، حتى ولو بوسائل التنفس الاصطناعي، وأخرى تبدو راغبة في الإجهاز عليه وإعلان وفاته رسميا، حتى لو اضطرت إلى رفع الأجهزة عنه قسرا وتهيئة الأجواء لاستقبال مولود جديد!.
ولذلك يمكن القول من دون تردد إن العام 2007 شكلّ نهاية لمرحلة، وإن العام 2008 يمهد لمرحلة جديدة تبدو قادمة لا محالة وسيشكل بالتالي فاصلا بين عهدين.
وفي تقديري أن النظام السياسي الراهن في مصر، والذي تأسس منذ ثورة تموز (يوليو) 1952 كان يتمتع حتى وقت قريب بقدرة عالية على إعادة إنتاج نفسه، وبالتالي على البقاء والاستمرار، وذلك من خلال آليات ثلاث:
الأولى: مكنته من ضبط التفاعلات السياسية والأمنية،
والثانية: مكنته من ضبط التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية،
والثالثة: مكنته من تحقيق التناغم والتوازن بين تفاعلات وضغوط الداخل والخارج.
غير أن هذه الآليات راحت تتآكل تدريجيا، بفعل التقادم وسوء الاستخدام، وباتت مع نهاية العام 2007 تبدو ليس فقط عاجزة عن أداء وظائفها التقليدية وإنما غير قابلة للإصلاح أيضا.
كان الرئيس السادات حاول، مسلحا بما استطاع إنجازه في حرب تشرين(أكتوبر) إدخال تعديلات جوهرية على البنية السياسية للنظام، لكن محاولاته ما لبثت أن انتكست ورحل عن عالمنا بعد أن أسس حزبا سياسيا يقوده بنفسه لم يكن في حقيقة الأمر سوى امتداد لنمط الحزب الواحد أو المهيمن.
ورغم أن مبارك لم يقم بإدخال أي تعديل على جوهر النظام السياسي الذي ورثه، إلا أنه تميز عن عبد الناصر والسادات في أمرين على جانب كبير من الأهمية والخطورة.
الأول: جسده إصراره العنيد على عدم تعيين نائب له طوال ربع قرن قضاها في السلطة.
الثاني: سماحه لنجله جمال مبارك بلعب دور مؤثر على مسرح الحياة السياسية وتواكب ذلك مع إشاعات متزايدة عن محاولات تجري وراء ستار بحثا عن سيناريو يضمن له خلافة والده في السلطة.
وكان هذا هو السياق الذي انطلقت معه عملية حراك سياسي رافض لسيناريو التوريث.
لم يكن لدى غالبية الشعب المصري، في ما يبدو، أي اعتراض على إتاحة الفرصة كاملة لجمال مبارك لتحقيق كل ما يصبو إليه من طموحات سياسية، ولكن في إطار عملية تحول ديموقراطي حقيقي على أساس من تكافؤ الفرص للجميع على قدم المساواة. غير أن سياق الأحداث اللاحقة أثبت بما لا يدع اي مجال للشك أن التعديلات كافة التي تم إدخالها على النظام السياسي خلال السنتين الأخيرتين لم تستهدف سوى شيء واحد، وهو فتح طريق السلطة أمام جمال مبارك وإغلاقه أمام سواه. فقد تم تعديل المادة 76 بطريقة سمحت جراء «انتخابات» رئاسية لم يتمكن من خوضها سوى شخصيات من أمثال أيمن نور ، الذي زج به في غياهب السجن، و نعمان جمعة ، الذي أطيح في انقلاب حزبي داخلي، ثم جرت انتخابات تشريعية أتت كالعادة بأغلبية مريحة ضمنت تمرير التعديلات الدستورية اللازمة لتمهيد الطريق أمام النجم السياسي الصاعد، ولأن الدستور يشترط في المرشح لمنصب الرئاسة أن يكون مضى على عضويته في «الهيئة العليا» للحزب الذي ينتمي إليه عاما على الأقل، وهو شرط لم يكن متوافرا في جمال مبارك، فقد تكفل المؤتمر الأخير للحزب الوطني بإزالة هذه العقبة، إذ تم تعديل لائحة الحزب بما يسمح بدمج المكتب السياسي مع مكتب الأمانة العامة (وجمال عضو فيها) في «هيئة عليا» واحدة!، بعد أن اكتشف فقهاء الحزب أن الأمانة العامة للحزب ليست هيئته العليا.
وعلى الصعيد الاجتماعي والاقتصادي: كان النظام الذي أسسته ثورة تموز (يوليو) قام بإدخال تغييرات عميقة على البني الاقتصادية والاجتماعية في مصر في المرحلة الناصرية، بدأت بالإصلاح الزراعي وانتهت، بعد محاولات متعثرة لتنمية مستقلة تعتمد على آليات السوق، باقتصاد مخطط مركزيا يقوم على سيطرة الدولة على معظم وسائل الانتاج.
وترتب على هذه السياسة استئصال النفوذ السياسي والاجتماعي لطبقتي الإقطاع الزراعي الراسخة والرأسمالية البازغة، وتوسيع نطاق الطبقة الوسطى وفتح آفاق جديدة وتحقيق مكاسب اقتصادية واجتماعية عديدة للطبقات الفقيرة والمطحونة، غير أن تغيرا عميقا طرأ على هذه التوجهات والسياسات، خصوصاً بعد رحيل عبد الناصر، وبدأت مرحلة «انفتاح اقتصادي» انتهت باعتماد قوى وآليات السوق والتخلص التدريجي من مظاهر تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، ورغم أن توترات اجتماعية حادة، كانتفاضة الخبز عام 1977 واكبت هذا التحول، إلا أن النظام تمكن في البداية من احتوائها بأساليب ووسائل مختلفة لم تكن كلها أمنية.
لكن ما إن بدأ الاندفاع الشديد نحو الخصخصة وبيع أصول وممتلكات القطاع العام، خصوصاً منذ التسعينات، حتى بدأت تتشكل خريطة اقتصادية واجتماعية جديدة لمصر بدت مختلفة تماما وواكبتها توترات اجتماعية وسياسية أكثر عمقا، فقد راحت تبرز تدريجيا طبقة جديدة من رجال الأعمال اعتمد معظمهم في جمع ثروة، راحت تتراكم بسرعة مذهلة، على الدولة من ناحية وعلى المعونات والتوكيلات الأجنبية وخصوصا الأميركية، من ناحية أخرى.
في سياق تلك التحولات العميقة برزت معالم نظام اجتماعي جديد له سمات خاصة أهمها:
1-
فجوة هائلة تتسع بسرعة شديدة بين الأغنياء والفقراء مع تدهور متزايد في مستويات معيشة الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة ومعها
كل شرائح الطبقة الكادحة إلى أن وصلت إلى حالة من البؤس غير مسبوقة.
2-
تزايد دور طبقة رجال الأعمال في صنع السياسات واقترابهم الشديد من مراكز صنع القرار مع شيوع وانتشار أنواع من الفساد والجرائم المنظمة والتسيب لم تكن مألوفة في المجتمع المصري.
3-
تدهور مفاجئ وخطير في حالة معظم المرافق والخدمات العامة، بدءً من النقل والمواصلات وانتهاء بالتعليم والصحة.
ولأنه كان من الطبيعي أن تنعكس هذه التحولات العميقة على حالة التماسك والاستقرار السياسي والاجتماعي، فبدأت تظهر تدريجيا أشكال
مختلفة وغير مسبوقة من الاحتجاجات والتظاهرات والاعتصامات والاضرابات وصلت ذروتها عام 2007 حتى باتت تنذر بخطر شيوع الفوضى.
وعلى صعيد التناغم والاتساق بين السياسات الخارجية والداخلية: كان نظام تموز (يوليو) في مراحله التأسيسية الأولى شديد الحرص على استقلال وطني خاض من أجله سلسلة معارك كبرى ناجحة (صفقة الأسلحة، الأحلاف، باندونج، السد العالي، السويس، وغيرها) أكدت مكانة مصر الدولية وأهلتها للعب دور مؤثر وفعال على الصعيدين الإقليمي والعالمي، غير أن هذه السياسة عرضت مصر في الوقت نفسه لضغوط وضربات موجعة كان أخطرها هزيمة 1967.
ورغم أن مصر لم تستسلم وتمكنت، بدعم من محيطها العربي، من غسل عار هزيمة حزيران (يونيو)، إلا أن السياسات التي تبناها السادات عقب حرب تشرين(أكتوبر) 73 وخصوصا في ميدان إدارة الصراع مع إسرائيل، أحدثت انقلابا في تحالفاتها الدولية أدى إلى تآكل تدريجي في دورها وفي مكانتها على الصعيدين الإقليمي والعالمي،
ثم تبين تدريجيا أن التوجهات والسياسات الخارجية الجديدة لم تكن في الواقع سوى انعكاس لسياسات داخلية أفرزت نخبة اجتماعية واقتصادية بمواصفات خاصة أصبحت هي ركيزة نظام الحكم وارتبطت مصالحها ارتباطا عضويا بالخارج، خصوصا مع صعود جمال مبارك،
صحيح أن التوجهات الجديدة للسياسة الخارجية مكنت مصر من استعادة سيناء، لكنها لم تمكنها، رغم فترة «السلام» الطويلة مع إسرائيل، من تحقيق انطلاقة تنموية كبرى تضاعف من قدراتها الشاملة وتعوض بالاقتصاد ما خسرته في عالم السياسة، ولذلك راحت درجة تبعيتها للخارج تتزايد بالتوازي مع تآكل قدرتها على التأثير في محيطها الدولي والإقليمي، ويكفي إلقاء نظرة واحدة على ما يجري في العراق وفلسطين ولبنان والصومال والسودان للتدليل على أن مصادر تهديد أمن مصر القومي باتت تنذر بالخطر.
في سياق كهذا يمكن القول إنه مع نهاية 2007 بدأت تظهر في مصر حالة تداخل بين معالم نظام سياسي قديم لا يريد أن يرحل ومعالم نظام جديد لا يريد أن يولد تتجلى سماتها كالتالي:
1-
رئيس دولة يقترب من الثمانين بلا نائب يخلفه.
2-
حزب حاكم يستمد ثقله من مؤسسات الدولة ويديره عمليا نجل للرئيس في ظل عملية منظمة تجري منذ عشر سنوات لإعداده للخلافة.
3-
حالة استقطاب سياسي حاد بين الحزب الحاكم وجماعة الإخوان المسلمين «المحظورة» قانونا، وآخر اجتماعي لا يقل حدة بين شريحة محدودة من الأغنياء وبحر واسع من الفقراء، في ظل غياب شبه كامل للأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني.
4-
بنية مؤسسية وقانونية تتسم بالفوضى والارتجال تجري في ظلها عملية حراك اجتماعي تتسم بدورها بالفوضى والارتجال، رغم أنها تبدو في حالة أشبه بالغليان ووصلت إلى مرحلة من التوتر تنذر بالانفجار
.
قد لا يكون بمقدور أحد أن يقطع بما إذا كان جمال مبارك سينجح في الوصول إلى موقع الرئاسة في ظل أوضاع كهذه، لكن ذلك، إن حدث،
سيؤدي عمليا إلى نتيجتين على جانب كبير جدا من الأهمية والخطورة في ذات الوقت:
الأولى نقل السلطة من المؤسسة العسكرية إلى المؤسسة المدنية، وهذه معضلة كبيرة في حد ذاتها،
والثانية: نقل السلطة من الأب إلى الابن في نظام جمهوري وفي غياب عملية ديموقراطية حقيقية ومقنعة، وتلك معضلة أكبر، ولأنه ليس بوسع أحد أن يوقف عجلة التفاعلات السياسية والاجتماعية أو يعكس اتجاه دورانها فمن المرجح أن يشهد عام 2008 اندلاع أحداث كبرى على الساحة المصرية أغلب الظن أنها ستشكل فاصلا بين عهدين، خصوصا وأنه العام الذي سيشهد انتخابات رئاسية أميركية ربما تشكل بدورها فاصلا بين عهدين على الصعيد العالمي.
د. حسن نافعة
الحياة - 26/12/2007

No comments: