Sunday, November 25, 2007

صانع الرؤساء


للمرة الثانية اضطر البطريرك الماروني نصر الله صفير لمحاولة لعب دور في «صناعة» رئيس جمهورية لبنان، وهي حرفة امتهنتها الدول العظمى والدول الإقليمية، ووجد البطريرك نفسه وسط معمعتها على طريقة «مُكرَه أخوك لا بطل». يعتقد كثيرون ان البطريرك اخطأ عندما اختار بالأمس القريب خمسة أسماء رشحها لرئاسة الجمهورية، لكن الاختيار لم يحصل لان السياسيين الذين اعلنوا التزامهم بها مسبقا، اسقطوا كل اسمائها بالفيتوات المتبادلة، وبات لبنان امام فرصة اخيرة قبل ظهر اليوم لانتخاب رئيس او الوقوع في الفراغ مع كل ما يعنيه هذا الفراغ من أخطار. قبل البطريرك هذا التحدي رغم إدراكه لحجم المخاطرة، علما ان تجربة العام 1988 لا تزال ماثلة امامه، فقد اختار آنذاك خمسة اسماء لم تمنع وقوع الفوضى والفراغ. لكن البطريرك تجرع كأس الاختيار لأنه كان يرى ان الوضع لا يسمح له بترف التغاضي عن التسمية... فسمى. لا يعتقد مطران بيروت للموارنة بولس مطر ان البطريرك أخطأ بتسمية مرشحين للرئاسة مرة ثانية، وهو يعتبر ان البطريرك لجأ الى «فك مشكل» لأنه لو لم يسم لكان قيل انه مسؤول عن خراب البلد».
شكل البطريرك صفير خلال 21 سنة أمضاها حتى الآن في سدة أعلى مقام للطائفة المارونية في المشرق، حالة مميزة. ورغم ان العديد من القوى الدولية والاقليمية والمحلية سمحت لنفسها بتجاوزه، الا ان الجميع كانوا يتهيبون فعل ذلك لما لموقع البطريرك من اهمية عند المسيحيين اللبنانيين الذين ينقسمون في الولاء السياسي ويتوحدون في الولاء الديني. فموقف البطريرك من قضية النصاب لا يزال العائق الأكبر امام فريق الاكثرية البرلمانية للاتيان برئيس للجمهورية بنصاب النصف زائدا واحدا. ويشير مطر الى ان موقف البطريرك من نصاب الثلثين «موقف سياسي لا دستوري. وانه اتخذه لمصلحة لبنان ولمنع الاقتتال فيه». ويقول ان كون بكركي «محجة للسياسيين» ليس امرا جديدا فهي كانت كذلك منذ القدم، لكن الجديد هو الاعلام الذي يسلط الضوء عليها الآن. مشيرا الى ان والد جد الرئيس السوري سليمان الأسد «كان من الذين زاروا بكركي للمطالبة بدعم استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي. فالبطريرك كان يعامل منذ ايام السلاطين العثمانيين معاملة رئيس الجمهورية عند استقباله». ويصف مطر البطريرك صفير بأنه «رجل الزهد والتجرد» ويقول:«انه متواضع وكبير ولين وصلب في آن واحد... ورغم انه بطريرك الموارنة فإنه قريب من كل الطوائف»، مشيرا الى ان البطريرك «بكى خلال مشاهدته صور مجزرة قانا خلال عملية عناقيد الغضب الاسرائيلية على لبنان عام 1996». ويعلق مطر على تلك الحادثة التي كان شاهدا عليها:« لقد جعلني اشعر انه ليس رجلا لجماعته فحسب، فلبنان بالنسبة اليه هو بكل ابنائه. وهو يعتبر انه مؤتمن على حسن العيش الإسلامي ـ المسيحي. وقد تصدى مع البابا (الراحل يوحنا بولس الثاني) عام 2001 بعد هجمات 11 سبتمبر (ايلول) لكل من يقول ان الإسلام والإرهاب صنوان». في المقابل يقول بعض السياسيين ان البطريرك «لا يمتلك بنية مساعدة حوله، فقلائل ممن هم في محيطه يفكرون مثله، وهو لا يستطيع ان يتحرر كليا من هذا الجو». كما يأخذون عليه قبوله بتجمع طائفي مثل «لقاء قرنة شهوان» الذي ترأسه المطران بشارة الراعي بأمر منه. ويعتبر هؤلاء ان هذا الموقف اضعف صدقية بكركي، حتى في الجانب المسيحي.
صفير يطفئ في مايو(ايار) المقبل شمعته الـ88، ولد قبل نشوء دولة لبنان ذكرا وحيدا مقابل خمس شقيقات، واختار حياة الرهبنة رغم الضغوط الهائلة التي مارستها العائلة على وحيدها الذي كانت تريد منه ان يكمل ذريتها. يقدم البطريرك صفير نفسه كالآتي: «ولدت في ريفون (قضاء كسروان) في الخامس عشر من نوار (مايو) 1920 ونشأت في بيت تقي، والدي ووالدتي كانا يصليان دائماً. كان يتهيأ لي دائما ان هذه هي دعوتي في الحياة وانه ليس بمقدوري القيام بأي أمر آخر. كنت اشعر في كل الأوقات بأن كل الطرق مسدودة أمامي وطريق الكهنوت مفتوحة، لم اشعر يوما أنني مدعو لان أكون طبيباً أو محامياً. كان عندي ميل دائم الى الكهنوت، والكهنة الذين صادفتهم في خلال مسيرتي كانوا يشجعونني على المضي. طبعاً اهلي لم يشجعوني لأنني كنت الابن الوحيد بل كانوا يتمنون ألا أصبح كاهنا ووضعوا لي الكثير من العراقيل وحاولوا مرارا ترغيبي بالحياة العادية، وكانوا يلحون علي لكي أتزوج وان يكون لي نسل لتأمين استمرار اسم العائلة».
ويروي أستاذ صفير، الخوري انطون الحداد، لقاءه الأول بنصر الله صفير، أو نصري كما كان يناديه، «أذكر جيداً كم كان الصندوق الخشبي الذي يحمله وراء ظهره كبيرا وكيف كان يتمايل به. فلم تكن الحقائب متوافرة ايامها. منذ نحو سبعين عاماً أعرفه ويمكنني القول انه لم يتغير كثيراً، خصوصا في النواحي الأساسية من شخصيته ومن طلعته. لا يزال رصيناً ومحباً للنكتة في آن واحد، لا تزال ضحكته الكبيرة التي تميز بها كما هي ولم يطرأ عليها اي تغيير باستثناء بعض التجاعيد في وجهه. فلولا هذه التجاعيد ولحيته البيضاء، لكان يمكن القول انه حتى في الشكل لم يتغير. كان نصري جدياً ومولعاً بالمعرفة والثقافة وكان غالباً ما ينال ثقة وتقدير الرؤساء والمربين. ومع انه لم يكن «هيناً»، اذ كان يحب المزاح والضروب ولكن مشاركته كانت تقتصر على التخطيط دون التنفيذ ولم يكن يدين ألعابنا. محافظ جدا كان ولا يزال».
يصف الكاتب انطوان سعد الذي اعطاه البطريرك صفير حظوة وضع كتاب عنه، البطريرك بأنه «شخصية متحفظة، حذرة، غير قابلة للاختراق إلا بمقدار ما يسمح هو به. قلّة تعرفه بالعمق على رغم ادعاء كثيرين معرفته». ويرى ان خطأ السياسيين اللبنانيين وغير اللبنانيين الدائم كان ـ ولا يزال ـ ظنهم انه بإمكانهم حمله على تبني وجهات نظرهم ومواقفهم. لم يفهموا إلا متأخرين أنه يأخذ وقته ليقتنع، ولكن متى اقتنع بأمر فليس من السهولة، وبعض الأحيان ليس من الممكن، اقناعه بعكسه». ويقول انه «يخشى ان يخدع، وتجربته كأمين سر للبطريركية ثم كنائب بطريركي عام لمدة ربع قرن علمته حجم الاكاذيب التي يمكن ان يلجأ اليها البعض من اجل تحقيق مآرب شخصية والوصول الى مناصب سياسية».
البداية العملية كانت في العام 1956 وكان بعض السياسيين لفت نظر البطريرك بطرس بولس المعوشي الى حاجته الى كاهن شاب مثقف يتولى امانة سر البطريركية التي يؤمها زوار اجانب ومحليون. فقام المعوشي باستدعائه وبتعيينه امينا للسر. عرف المطران صفير كيف يتعامل مع البطريرك المعوشي القوي الشخصية والصعب المزاج، وكان يتقبل منه ملاحظاته وإن بلغت حد منعه من المشاركة في أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني، الحدث التاريخي الابرز في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية في القرن العشرين رغم تلقيه دعوة من الكرسي الرسولي.
لكن المعوشي، كان يقدّر كثيراً صفات نائبه العام صفير الذي لم يستغل بتاتاً موقعه في بكركي لنفسه أو لأقاربه أو لأصدقائه وبقي يمدحه حتى أيامه الأخيرة قائلا: «لم يطلب مني أمرا واحدا خلال السنوات العشرين التي قضاها معي. لم يطلب حتى فنجان فهوة». هذه الصفة ستلازم البطريرك صفير حتى بعد توليه رئاسة الكنيسة المارونية. لم يطلب يوما من اي مسؤول رسمي خدمة أو وساطة، لا بل رفض في العديد من المرات أن يزكي اشخاصاً لتولي حقائب وزارية. فالرئيس رفيق الحريري عرض عليه مراراً تسمية وزيرين مارونيين في الحكومات التي شكلها، غير ان رفض البطريرك صفير كان دوما قاطعاً».
أتى صفير الى كرسي البطريركية فجأة، فهو لم يكن من بين المرشحين المعروفين، وكتب له ان يكون الخيار الثالث وسط صراع معلن بين الفاتيكان والقوى المسيحية اللبنانية. حاول كل من الطرفين المجيء ببطريرك يناسب طموحاتهم وفشلا... فانفتحت الدرب أمامه ليصبح البطريرك السادس والسبعين للموارنة.
يقول انطوان سعد في كتابه عن البطريرك ان الاستراتيجية الفاتيكانية في منتصف الثمانينات لاحياء الحضور المسيحي في لبنان ولإحداث التغيير الجذري المنشود، كانت مشروعا متكاملا يستند الى سبعة مرتكزات يشكل انتخاب بطريرك ماروني جديد صلبها، وأساس هذا المشروع «إحداث تغيير على مستوى البطريرك الماروني يأتي بمن يكون مقبولاً اسلامياً ومتعاوناً في الوقت نفسه مع الفاتيكان لتنفيذ مشروعه ومتحرراً من تأثير «الجبهة اللبنانية» و«القوات اللبنانية». كما أن الخطة الفاتيكانية طمحت الى تغيير مماثل في كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك والإتيان ببطريرك جديد يكون أكثر استعداداً للتنسيق مع البطريرك الماروني العتيد». كان الفاتيكان يأمل في انتخاب المطران ابراهيم الحلو بطريركاً، أما «القوات اللبنانية، ومن ورائها «الجبهة اللبنانية« فقد كان استحقاق الانتخابات البطريركية بالنسبة اليها حيوياً أيضاً. إذ لطالما اعتبر أركان الجبهة ان مواقف البكريركية المارونية «تراوحت بين التخلي عن القضية اللبنانية واللامبالاة، وانه لو كانت البطريركية ملتزمة اكثر بالمسألة اللبنانية لكان الموقف المسيحي أكثر تأثيرا على الاصعدة المحلية والاقليمية والدولية». وقد شرح نائب قائد «القوات اللبنانية» آنذاك كريم بقرادوني هذا الموقف بالقول: «كنا نريد بطريركاً قوياً، وبدا لنا ان المطران يوسف الخوري هو الأفضل».
بدأت العملية الانتخابية وكرّت سبحة دورات الاقتراع ولم يستطع احد من المرشحين في الدورات الخمس الأولى الحصول على ثلثي المجمع الماروني الذي يضم تسعة عشر أسقفا من بينهم البطريرك المستقيل انطونيوس بطرس خريش. فتقاسم المرشحان المطرانان الحلو والخوري الأصوات. كان الأساقفة يعرفون انه في حال عدم تمكن المجمع الماروني من انتخاب بطريرك، يحق عندها للفاتيكان التدخل، وتعيين من يراه مناسبا على الكرسي الأنطاكي. وكان اختيار روما معروفا ولا يحظى بإعجاب العدد الكافي من اعضاء مجلس الأساقفة الموارنة. برز اتجاه بين المطارنة ينادي بضرورة التوصل الى تسوية تبعد احتمال التعيين. فبادر راعي أبرشية صربا، المطران ميخائيل ضوميط، الى طرح النائب البطريركي نصر الله صفير، تلميذه اثناء مرحلة الدراسة اللاهوتية في جامعة القديس يوسف، مرشحا توافقيا. فحظي اقتراحه بموافقة معظم اعضاء مجلس الأساقفة.
يقول صفير الذي نُقل عن البطريرك المعوشي وصفه إياه بأنه «أفضل رجل ثان»: «لم اطلب من احد ان ينتخبني، فقناعتي كانت ولا تزال ان طالب الولاية لا يولّى. سألني يومها بعض الأساقفة أن أرشح نفسي فأجبتهم بأنني غير مرشح ولكنني اقبل بتحمل المسؤولية في حال انتخبت».
بين البطريرك المعوشي الذي كان مفرطاً في التدخل في الشؤون السياسية والوطنية، وبين البطريرك خريش المحجم عنها في شكل شبه كلي، كان اختيار صفير ان يحاول «تدوير الزوايا وايجاد الحل الوسط». وحاول البطريرك صفير الاستفادة من تجارب البطريركين اللذين سبقاه على الكرسي الأنطاكي. فسعى الى الإقلال من التدخل في الشؤون الوطنية من غير التخلف عن القيام بالواجب البطريركي عند كل استحقاق يفترض التدخل».
وقد أثار انتخاب البطريرك صفير ترحيبا عارما في مختلف الاوساط السياسية والحزبية والدينية في لبنان، الاسلامية والمسيحية، باستثناء قيادة «القوات اللبنانية» وبعض أعضاء «الجبهة اللبنانية» الذين شعروا بنوع من الاحباط من جراء انتخاب البطريرك صفير. فكان قائد القوات اللبنانية ونائبه السياسيين الوحيدين الغائبين من المنطقة الشرقية (المسيحية) عن تهنئة البطريرك صفير بانتخابه، وعن المشاركة في احتفال تنصيبه. ولم يزورا بكركي الا بعد خمسة اشهر على انتخابه، بعد سجال عنيف بين بكركي و«القوات اللبنانية»، في محاولة للوصول الى نوع من الهدنة وتجنب استمرار صدور البيانات والبيانات المضادة. ومع هذا لقّب بعض السياسيين والمسؤولين البطريرك بـ«أبو سمير» لتبنيه قضية قائد القوات «سمير جعجع الذي ظلم لمحاكمته انتقائيا وحده دون بقية المرتكبين» كما قال مطر.
في عام 1988 كان لبنان على موعد مع ازمة جديدة. ولاية الرئيس أمين الجميل شارفت نهايتها، والانقسام السياسي على أشده بما يهدد حصول انتخابات رئاسية طبيعية. وقد خرج الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران حينها بفكرة وضع البطريركية المارونية لائحة أسماء للمرشحين المقبولين منها فتعرض على القيادات الإسلامية، وتحديدا على رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الوزراء سليم الحص فيضيف اليها النواب المسلمون أسماء وتتم غربلتها الى لائحة تقدم للأميركيين ومنهم الى السوريين للوصول الى رئيس يرضي الجميع. لكن جاء من يهمس في أذن البطريرك بإمكان تخطي الجانب الإسلامي، فكان ان جمع البطريرك النواب المسيحيين وأجرى «انتخابا ابيض» انتهى الى لائحة من خمسة أشخاص رفعت الى الأميركيين والسوريين، فخلصا معا الى سادس لم يرد في اللائحة... أو الفوضى كما حذر آنذاك مساعد وزير الخارجية الأميركي، ريتشارد مورفي، لكن القيادات المسيحية اختارت يومها الفوضى على «فرض» رئيس لا يحظى بقبولها.
يأخذ رئيس مجلس النواب السابق، حسيني الحسيني، على البطريرك انه اخذ بـ«النصيحة السيئة»، فقال للمطران خليل أبي نادر الذي زاره موفدا من صفير: «ابلغه ان المسلمين في لبنان لم يعودوا جالية مصرية او سورية. انهم لبنانيون ويريدون ان ينتخبوا رئيسهم مثل كل اللبنانيين». وقد كرر الحسيني كلامه هذا في حديث شهير أدلى به الى «الشرق الأوسط» مباشرة بعد لقائه أبي نادر.
لم تقطع هذه الواقعة الصلات بين الحسيني وصفير، فالبطريرك كما يقول الحسيني «شخص عاقل ومؤمن بوحدة لبنان وعيش اللبنانيين المشترك والثروة الحضارية القائمة على التنوع في الانتماء الطائفي والمذهبي». وردا على سؤال عن كيفية «تلخيصه» البطريرك قال الحسيني:«ماروني محب جدا لطائفته، لكنه لا يرى طائفته خارج الطوائف الأخرى ولا يراها خارج لبنان. الكلام الصريح معه هو الكلام المفيد، المجاملات والكلام المنمق ليست في محلها معه». ويشير الحسيني الى ان صفير «اكتسب نتيجة معايشته بكركي مع البطاركة الثلاثة عريضة والمعوشي وخريش وصولا اليه، اطلاعا واسعا على مجريات الامور في بكركي ولديه شبكة علاقات جيدة جدا مبنية على الثقة مع شخصيات متنوعة الانتماء من طوائف اخرى».
وبعد وصول العماد ميشال عون الى رئاسة الحكومة العسكرية عام 1988 تعرض البطريرك لحملة من انصار عون لأنه لم يتخذ موقفاً واضحاً من شرعية حكومته، وكتب النائب الراحل جبران تويني وكان حينها رئيس تحرير مجلة «النهار العربي والدولي»: «من غير المسموح ان لا تتوحد كلمتنا حول العماد عون وحيال شرعية الحكومة العونية، وليسمح لنا غبطة البطريرك صفير ان نسأله عن حقيقة تردده حيال حكومة الجنرال عون(...). ونسأل المترددين عندنا عن رأيهم في موقف مفتي الجمهورية المنحاز الى الحص وجماعته معتبرا انهم الشرعية».
كانت العلاقة بين بكركي وقيادة الجيش في ظل عون بدأت بالتراجع قبيل الفراغ الدستوري، ولم يفاجأ فريق عمل الجنرال بموقف البطريرك مع الفراغ الدستوري ومن تنازع الشرعية بين الحكومتين، لكنه لم يتغاض عنه واعتبره خطأً جسيماً. وفي هذا الاطار قال رئيس مكتب التنسيق المركزي المؤيد لعون، روجيه عزّام: «ان سوء التفاهم الأول بين البطريرك صفير والجنرال عون كان سببه عدم اعترافه بشرعية حكومة عون ووضعها في المرتبة نفسها مع حكومة الحص. وكان الاعتقاد السائد لدينا بأن الاميركيين هم من دفعوه نحو هذا الخيار».
وتابعت العلاقة طريقها الانحداري مع عون بعد «حرب التحرير» التي اعلنها ضد الوجود السوري فاطلق صفير «حركة سياسية تشجع على اطلاق الحوار مع الشطر الغربي من العاصمة يؤدي الى انهاء الوضع الشاذ والاتفاق على آلية تفضي الى انتخاب رئيس للجمهورية يخرج البلاد من الفوضى التي انزلقت اليها». وتعرض النواب الثلاثة والعشرون الذين حضروا اللقاء لتهديدات واستهدفت مكاتب بعضهم الآخر بالحجارة او بالحرق. فيما توجهت تظاهرة من مؤيدي عون الى الصرح البطريركي تدعو النواب الى «خرق جدار الصمت والإعلان ان سورية تقوم بحرب ابادة ضد لبنان». أما بعد اقرار الطائف فقد اقتحم متظاهرون مقر البطريركية واندفع بعضهم الى صورة البطريرك الماروني المعلقة فوق الجدار وعلى باقي الجدران وعلقوا صور عون عليها وعلى الكرسي البطريركي. وطلب المتظاهرون ان يخرج البطريرك صفير لمقابلة الجماهير التي ملأت الساحة الداخلية فذهب البطريرك معهم وقد احاط به بعض منهم مع الدرك ثم طلبوا منه القاء كلمة فيهم تأييداً للعماد عون. ثم طلب احد المتظاهرين من البطريرك ان يقبّل صورة عون المرفوعة فوق رأسه وتبعه كثيرون يقولون: «بوس الصورة، بوس الصورة». فرفض البطريرك ذلك. فما كان من المتظاهرين الا ان حملوه ورقصوه على ايديهم ووضعوا صورة الجنرال على وجهه. بعد الحادثة بأعوام ، عاد احد الشبان الذين هاجموا البطريرك لزيارته وهمس في أذنه بأنه كان في التظاهرة وبأنه شديد الأسف لما حصل. فأجابه «أنا نسيت الحادثة، هل ما زلت تذكرها؟ وابتسم وأكمل حديثه مع الناس المحيطين به».
غادر صفير بكركي وأمضى ثمانية عشر يوماً في الديمان ولم يعد الى بكركي الا بعد زيارة قام بها عون الى هناك واتصال هاتفي أجراه معه. ومع هذا قام صفير بعد عودته الى بكركي بيومين بإيفاد نائبه العام المطران رولان أبو جودة لتهنئة الرئيس الياس الهراوي بانتخابه. كما تمسك بموقفه من موضوع الوفاق الوطني وضرورة تسليم السلطة الى الرئيس الجديد. ومواقف البطريرك صفير من التدخل السوري في لبنان كانت حاسمة، ولهذا رفض زيارة سورية رغم كل المساعي التي بذلت، وهو وصف فترة السلام السوري بـ«الزمن الرديء الذي لا إمكانية للخروج منه إلا باجتماع اللبنانيين حول الثوابت الوطنية الأساسية وفي مقدمها السيادة والاستقلال والقرار الحر والعيش المشترك القائم على قواعد الاحترام والمحبة وشد الأواصر والتضامن». عن علاقة البطريرك مع سورية يقول المطران مطر: « لم يكنّ يوما العداء لسورية أو أراد بها الشر». ويضيف:« لقد تقلب الناس بين الولاء لسورية والعداء معها، لكن البطريرك وحده لم يتغير». أما عن نظرته الى العالم العربي فهو يرى ان المسيحيين فيه «موضوع قيمة مضافة للجميع وهو يكن محبة لهذا العالم ويريد له ان يتقدم ويتطور». وعندما وصل الرئيس رفيق الحريري الى السلطة سعى البطريرك صفير لمساعدة رئيس الحكومة الجديدة ودعمه لتحقيق ما يصبو اليه اللبنانيون من نهوض للبنان في شتى الميادين. وظن ان مؤهلاته الشخصية وقدراته السياسية والمالية العالية وعلاقاته العربية والدولية تخوله لعب دور كبير في انقاذ لبنان من الهيمنة السورية عليه، او التخفيف منها. فقد كان البطريرك يرى في الحريري «الشخص المناسب الذي يحظى بالحصانة العربية والإسلامية الكافية لبدء عملية اعادة التقارب بين المسيحيين والمسلمين وتحقيق المصالحة الحقيقية بينهم، تمهيداً لنزع الذريعة التي تبرر استمرار وجود القوات السورية في لبنان». وقد كوّن البطريرك صفير هذه الفكرة عن قدرات الحريري ونياته بعد لقاءات عديدة عقدها معه في روما وباريس وبون، وعززتها في ما بعد لقاءاته معه في لبنان خلال السنتين الأوليين لحكومته.
ويعتبر البطريرك صفير من أهم الناطقين بالعربية لغة وكتابة في لبنان والمنطقة. ويفخر بأن أحد أجداده كان يكتب لقائد ثورة الفلاحين، طانيوس شاهين، خطاباته ومراسلاته سنة 1856. وإتقانه اللغتين العربية والفرنسية، هو ما فتح له أبواب العمل في بكركي سنة 1956. فالشاعر سعيد عقل يروي أنه يوم اطلع في تلك الفترة على التصحيح الذي أجراه الخوري نصر الله صفير لكتاب أعدّه راهب ماروني يسوعي دمشقي من آل الياس، فأُعجب بأسلوبه إلى حد دفعه إلى تزكية الخوري الشاب لدى البطريرك المعوشي. ورغم أن العديد من القيادات الإسلامية السياسية والدينية تقول ان سلاسة لغته ساهمت كثيراً في عبور أفكاره إليهم، فإن البطريرك نادرا ما يلجأ الى الكلام الواضح، والكثير من اللبنانيين يأخذون عليه عدم اتخاذه مواقف حاسمة، فكلما ألقى البطريرك عظة أو اتخذ موقفا سارع الجميع الى تأويل كلامه وفقا لما يناسب موقفهم السياسي. لكن هذه الصفة ينفيها المطران بولس مطر، معتبرا ان «البطريرك ليس رجلا سياسيا، بل هو رجل وطني لديه من الحكمة ما يجعله يرى تغير الأمور وتقلبات الناس. فهو يزن الأمور، وعندما يتخذ موقفا يبقى عليه لأنه عنيد مع الحق».
ورغم تجاوزه عامه الـ87 فان المقربين من البطريرك يصفونه بأنه «يقظ وواع ويعمل كأنه ابن 50 سنة»، كما ان البطريرك رياضي وهوايته المفضلة المشي في الأحراج. وهو زاهد في طعامه. ويروي الكاتب أنطوان سعد يوما نموذجيا في حياة البطريرك صفير الذي يستيقظ الخامسة إلا ربعا فجرا ، ثم يؤدي صلاة الصباح والقداس في كنيسة صغيرة مقابلة لجناحه الملاصق لقاعة الاستقبال الكبرى حيث يستقبل يومياً زواره. ثم يتناول طعام الفطور.
في الثامنة صباحا ينصرف البطريرك الى أعمال روتينية إدارية، كالاطلاع على البريد والعناوين العريضة للصحف. بعدها يبدأ استقبالاته في القاعة الكبرى بين التاسعة صباحا والثانية عشرة والنصف بعد الظهر. في الواحدة ينتقل البطريرك الى الغداء ثم صلاة شكر وجيزة، فبعض المشي. ليخلد الى الراحة حتى الثالثة والنصف فينال استراحة على كرسي مريح مع قراءة الصحف كاملة وبعض الأعمال الإدارية. يعود «سيد بكركي» الى نشاطه في الرابعة والنصف فيرأس اجتماعات إدارية مع الأساقفة ومع بعض السياسيين الذين يودون زيارة بكركي بعيداً عن الأضواء الإعلامية، علما أن مديرية المخابرات في الجيش تطلع على أسماء الزوار بواسطة الوحدة العسكرية المولجة حماية الصرح. في السادسة والنصف يؤدي صفير صلاة المساء، ثم يتناول طعام العشاء، يليه نحو نصف ساعة من المشي بين قناطر الصرح البطريركي الداخلية. وفي أمسيات الشتاء، يستعيض سيد بكركي عن المشي ببعض التمارين على السجادة الكهربائية. وعند الثامنة يشاهد البطريرك نشرة الأخبار، يعود بعدها إلى جناحه للمطالعة وإعداد العظات والتقارير، ويخلد إلى النوم قرابة منتصف الليل
بيروت: ثائر عباس
الشرق الأوسط 23-11-2007

No comments: