تبدو بانوراما الواقع للحركة العمالية المصرية خلال العامين الأخيرين فى تواتر وتصاعد مستمرين, توجتها إعتصام عمال شركة الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى فى 23 سبتمبر 2007 وما ترافق معه من حركات تضامن من مصانع وشركات أخرى
.ومما يعطى لهذا التحرك أهمية خاصة كون هذا المصنع يعتبر الأكبر فى منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا ويضم بين جنباته ما يقرب من 30000 عامل,
وخاصة أنه الإضراب الثانى الناجح لعمال الشركة فى عام واحد.والمعروف أن مصنع غزل المحلة يعتبر من أقدم وأهم مصانع الغزل والنسيج فى العالم بعد مصنع يوركشير بالمملكة المتحدة وقد أسسه رائد الصناعة المصرى الإقتصادى العظيم طلعت باشا حرب فى الثلاثينيات من القرن الماضى إباّن العمل على إنشاء إقتصاد وطنى مستقل.وقد إنتهى الإعتصام صبيحة يوم السبت 29/9 بتلبية جزئية لمطالب العمال ودون تدخل أمنى عنيف كما كان يحدث فى الماضى من قطع الماء والكهرباء عن المعتصمين وإقتحام المصنع وإعتقال العمال وتشتيت وفصل المحرضين
.وتاريخ الإعتصامات والإضرابات والمظاهرات العمالية فى مصر طويل يقترن بنشأة هذه الطبقة بداية بإضراب لفافى السجائر فى نهاية القرن التاسع عشر ومرورا بعدد هام من المحطات النضالية فى تاريخ الحركة العمالية يمكن إيجازها فى ما يلى:-
الإضرابات العمالية المتواترة والمستمرة قبل وأثناء ثورة 1919 والدور الوطنى البارز للعمال.-
وقوع أكثر من 50 إضراب لعمال النسيج بالقاهرة وضواحيها فى الفترة من يناير الى ابريل 1945-
إضراب 80000 عامل فى قاعدة قناة السويس وانسحابهم من العمل.-
اللجنة الوطنية العليا للعمال والطلبة فى عام 1946 والكفاح المشترك.-
اضراب عمال الغزل والنسيج بكفر الدوار سنة 1952 وإعدام خميس والبقرى. -
هبّة عمال حلوان 1968 ضد أحكام الطيران عقب النكسة وإعادة المحاكمات.-
-انتفاضة العمال فى 18 و19 يناير1977 ضد رفع الأسعار ومشاركة الطلاب معهم.وكان لقيام ثورة 23 يوليو أثرا بالغا على الحركة العمالية المستقلة حيث استخدم النظام الجديد اقسي أساليب القمع تجاه العمال وذلك لعدم سماح الضباط لأي تحد منظم للنظام الجديد وفى المقابل قدم بعض المكاسب للعمال ليضمن ولائهم مثل:1- قانون عقد العمل الفردى :- والذى حدد فترة للاختبار ووفر الرعاية الطبية وحماية الحق النقابى وتعويض الفصل. 2-قانون نقابات العمال:- والذى سمح لأول مرة لعمال الزراعة بالانخراط فى العمل النقابى وتكوين اتحاد عام للنقابات.3- اصدار قانون بخصوص التحكيم والتوفيق والغاء حق الاضراب
.ومع تبنى عبد الناصر للفكر الاشتراكى وتحالفه مع الاتحاد السوفييتى وعداؤه للاستعمار تحققت للعمال كثيرا من المكاسب مع معاداة وقمع وتصفية اية بادرة عمالية مستقلة ومن تلك المكاسب:
- وضع حد أدنى للأجور.-
المشاركة فى الأرباح.-
المشاركة فى مجالس الادارة -
حقوق أخرى كثيرة فى السكن والمواصلات والأجور ....الخ.و
هكذا نجح النظام الناصرى فى حشد العمال بعيدا عن تأثير القيادات النقابية المستقلة والتى وضع أغلبها فى السجون وطويت صفحة القادة النقابيون الكبار أمثال محمد يوسف المدرك ومحمود العسكرى وطه سعد عثمان وسيد سليمان رفاعى وسيد ندا وغيرهم كثيرين.
وفى ظل المد الثورى والصراع ضد الاستعمار والأحلاف والرجعية والتفاف الشعب خلف القيادة أمكن للنظام الجديد أن يصفى الحركة العمالية المستقلة وأن يلقى بقادتها فى السجون دون مقاومة تذكر
.ظلت الحركةالعمالية و الثورية عموما فى حالة ضبابية مفتقدة للقيادة حتى حدث زلزال النكسة فى 67 لينقشع الظلام عن الوعى الزائف والأحلام العظيمة ويعود الكثيرون الى أرض الواقع وتبدأ حالة ثورية جديدة فى التشكل عبر قيادات شابة جديدة مستفيدة من خبرات القيادات التاريخية للحركة العمالية التى خرجت من السجون فى عام 1964 ليعود أغلبها الى ميدان المعركة من جديد لتطفو على السطح تحركات العمال فى حلوان 68 وحركات فلاحية وطلابية ولعب المثقفون الدور الأكبر فى هذه المرحلة فى نقل الوعى الثورى الى مختلف طبقات وفئات الشعب.
وجاء رحيل عبد الناصر المفاجيء وقفز السادات الى السلطة ثم صراعه مع بقايا الناصريين ليعطى زخما جديدا لهذه الحركة ليتصاعد دور الطلاب فى النهوض بالوعى الثورى كما كان دورهم دائما منذ ثورة 1919 وعام 1935 واللجنة الوطنية العليا للعمال والطلبة فى 1946 وانتفاضتى فبراير ونوفمبر 1968.بعدها تجيء حرب اكتوبر 1973 وما اعقبها من محادثات الكيلو 101 وفض الاشتباك والتحول فى السياسات الداخلية والخارجية دراميا وإعلان مرحلة جديدة من الانفتاح الاقتصادى والارتماء فى أحضان الولايات المتحدة الأمريكية بما يمثله ذلك عمليا من تخلى الدولة عن السيطرة على الإنتاج الصناعى لصالح حفنة مفبركة من رجال الأعمال الجدد وبقايا الإقطاعيين وإستشراء الفساد والخضوع لأوامر البنك الدولى من خصخصة القطاع العام وتقليص الدعم للسلع الأساسية ونمو طبقة طفيلية تعيش على العمولات والسمسرة والتوكيلات التجارية.خلال حقبة السبعينيات والحراك الإجتماعى الواسع بدأ التحرك العمالى والطلابى يكتسب أبعادا جديدة واستعاد اليسار تاثيره القوى وانتشرت الخلايا الشيوعية فى الجامعات والمصانع مثل الحزب الشيوعى وحزب العمال الشيوعى والتيار الثورى وحركة 8 يناير وغيرها لتفرز الحركة العمالية قياداتها الجديدة من أمثال فاروق عبد الحميد وخضرى منصور ومصطفى عبد الغفار وغيرهم كثيرون
. توجت السنوات المحتدمة فى السبعينيات وتراكم الغضب الشعبى انتفاضة الخبز فى 77 ونزول الجيش الى الشوارع والعدول عن قرار رفع الأسعار , وتعلم النظام الدرس من عدم اللجوء الى الصدمات وتمرير سياساته الإقتصادية بهدوء, وإرهاق القيادات العمالية و الطلابية بالسجن والإعتقال والملاحقة والإستمرار فى التغاضى عن نمو التيار الدينى الأصولى والذى بدأ السادات تشجيعه مبكرا منذ بدايات السبعينيات معتمدا على النهوض العفوى للحالة الدينية للمصريين كإنعكاس لهزيمة 67 وتردى الأوضاع الإقتصادية وفشل التجربة الناصرية. أدى تصاعد العنف المسلح للجماعات الأصولية المختلفة من التكفير والهجرة والجهاد وغيرها إلى احتقان شديد وتبادل للمواجهات العنيفة من عنف وعنف مضاد وتصفيات جسدية تصاعدت الأزمة مع الصدام بين السادات وجميع القوى السياسية بمختلف أطيافها إلى قرارات سبتمبر المشئومة والتي كانت مقدمة لحادث المنصة,ومع بداية حكم مبارك اتسعت موجة التفاؤل من الإفراج عن المعتقلين السياسيين واستقبالهم بالقصر الجمهوري والسماح لصحف المعارضة بمعاودة الظهور وعقد المؤتمر الاقتصادي...الخ.
ولكن سرعان ما كشف النظام عن وجهه القبيح متمثلا في ممارسات بوليسية شديدة السفور من تدخل فج في الانتخابات النقابية والبيع الجائر للقطاع العام وقطاع الأعمال والبنوك وخصخصة التأمين الصحي وإحالة نصف مليون عامل غالى التقاعد المبكر والأدهى هو ما يتردد بين الحين والآخر من خصخصة الجامعات وبيع قناة السويس والسكة الحديد وكأنه لم يبق شيء إلا أن يبيعوا لنا التروماى أو أن يعرضوا الأهرام للبيع في مزاد علني.
وبنظرة سريعة على الأوضاع السائدة للحركة العمالية حاليا يمكن ملاحظة ما يلي:
أولا ) معظم المطالب التي ترفعها الحركة العمالية فى صلبها مطالب معيشية خاصة بالأجور والحوافز والبدلات والمواصلات والسكن مع استبعاد شبه تام للسياسة العليا والقضايا الوطنية والديمقراطية وتعكس فى الحقيقة الظروف الاقتصادية المتردية وعدم القدرة على مواجهة تكاليف الحياة
.ثانيا ) وتتصل بالنقطة الأولى من حيث الأزمة الاقتصادية الخانقة ووجود جيش من العاطلين مع تضخم العمالة بالقطاع العام وسيف الخصخصة المسلّط على الرقاب وإغراق السلع المستوردة والمهربة من صينية وسورية وغيرها وتقلص فرص العمل بالخارج مما يؤدى إلى القلق وعدم الاستقرار ومحاولة الخلاص الفردي
ثالثا) عدم نضج القيادات الجديدة مع ضعف الخبرات واعتماد الحركة على ما تبقى من قيادات السبعببنيات متمثلة فى تكتيكات الحركة وشعاراتها مثل شعار:سامع صوت المكن الدايربيقول لينا كفاية مذّلةنفس الصوت اللى فى حلوانبيقول شدّى الحيل يا محلةوكذلك أيضا: عايزين حكومة حرّة....دى العيشة بقت مرّة
رابعا) يمثل أيضا التاريخ المتراكم للقمع الدموي في مواجهة التحركات العمالية خلفية في العقل الواعي للقيادات ومحاولة بعض التنظيمات اليسارية إحراز أهداف إعلامية فى مرمى الحكومة إلى دفع المواجهات إلى حافة الهاوية ,ولكن الجديد الذى يجب الإنتباه إليه جيدا هو موقف الحكومة التهادنى والمتراجع والذى قد يفسر بمحاولتها الظهور بمظهر المتفهم للمعاناة الإقتصادية للمواطنيين ورغبتها تجميل القيادات العمالية الموالية لها والتمهيد للتوريث وأيضا نتيجة للضغوط الخارجية والضغوط الداخلية المتمثلة فى حركة الإخوان المسلمين ومنظمات المجتمع المدنى والصحافة المعارضة وحركة المدونيين
على أننا يجب أن نتوقف الآن لإلقاء نظرة تحليلية متأنية على الأحداث ومحاولة لإستشراف المستقبل برؤية متواضعة أرجو أن تتسع لها الصدور
.إذا كان لنا أن نحدد طبيعة المرحلة والظروف القائمة محليا وعالميا تستبعد إمكانية القفز عليها بإتجاه ثورة إشتراكية وأن المطلوب هو تكاتف جميع القوى الفاعلة فى المجتمع لإحداث تحول ديموقراطى الذى لا يتم بالضرورة بقيادة الطبقة العاملة ولكن من خلال بناء تحالف عريض لكافة القوى الوطنية والديموقراطبة وعزل التيارات السلفية والرأسمالية الطفيلية
رياض حسن محرم
No comments:
Post a Comment