أبدي عدد من الباحثين الجادين دهشتهم من البرنامج، الذي أعدته جماعة الإخوان، وبعث به المرشد العام إلي خمسين شخصية، لقراءته وإبداء الرأي فيه. دهشة هؤلاء الباحثين جاءت من أن البرنامج يقدم دعوة مباشرة إلي قيام دولة دينية، وتشكيل هيئة من «كبار العلماء لمراجعة قرارات الدولة وكبار المسؤولين،
واعتبر بعض الباحثين ذلك حالة من الدعوة أو تبني «ولاية الفقيه» كما هو الأمر في إيران، وأتصور أن الموضوع لا علاقة له بولاية الفقيه، ففي مفاوضات المرشد الثاني حسن الهضيبي سنة ١٩٥٣ مع جمال عبدالناصر ورفاقه من الضباط، طالب الهضيبي بذلك حرفياً، وهو ما أغضب عبدالناصر كثيراً، واعتبره نهاية الطريق مع الجماعة.
لكن بعض الباحثين المتمتعين بحسن النوايا وحسن الظن، تصوروا أن الجماعة نضجت أكثر وازدادت خبرة، مما يجعلها تطرح برنامجاً لدولة مدنية، تعتمد قيمة المواطنة وتداول السلطة، وقد خاب ظنهم، ولا أعرف كيف تصور هؤلاء الأعزاء ذلك، بينما لم تقم الجماعة بمراجعة فكرية حقيقية، ولا حدث تطور فعلي لها، ويبدو لي أن فكر الجماعة مغلق تماماً، فهم من البداية وإلي اليوم لم يؤمنوا بالديمقراطية.. تحالفوا مع إسماعيل صدقي ضد الوفد، ومع ضباط يوليو ضد الديمقراطية، ومع الرئيس السادات في بطشه بخصومه من اليسار واليمين.
ومؤخراً أجرت جريدة «الدستور» في عددها الأسبوعي - ٢٦ سبتمبر ٢٠٠٧ - حواراً مع د.محمد مرسي عضو مكتب الإرشاد، وهو رئيس لجنة الإعداد للبرنامج السياسي، الذي وزعه مرشد الجماعة، وهو من المحسوبين علي ما يسمي «جيل الوسط»، الذي يوصف بأنه أكثر اعتدالاً وتفتحاً من الجيل القديم. في ذلك الحوار رفض د. مرسي اعتبار البرنامج الذي طرح برنامجاً حزبياً، بل سماه «برنامجاً إصلاحياً».
ولا تخفي الدلالة الفكرية والسياسية لتلك التسمية، والواضح أن فكرة الحزب، والأحزاب عموماً، لم تستقر بعد لدي الجماعة، فهناك «الجماعة» فقط، وما دون ذلك يتفرع عنها ويعود إليها في النهاية، ومن ثم لا مكان للأحزاب.
لكن أخطر ما جاء في الحوار قول د. مرسي بالحرف «.. لنا شرعية، شعبية، فأساتذة القانون والدستور يدرسون ويعلمون الناس أن الشرعية الشعبية أقوي من الشرعية الدستورية، بل فوق الشرعية الدستورية..»، ولا نعرف في أي الجامعات يتم تدريس ذلك، ومن بين أساتذة القانون الدستوري من يهدر الشرعية الدستورية، لصالح ما يسميه عضو مكتب الإرشاد «الشرعية الشعبية».
والذي نعرفه أن الدستور هو «أبو القوانين»، وأنه يعلو علي الجميع، ولا يعلي عليه وتنحني له الجباه، والذي نعرفه أيضاً أن هناك من أفتي سنة ١٩٥٣ بأن «الشرعية الثورية» تجب «الشرعية الدستورية»، وكان الغرض من ذلك التهرب وتجنب دعوة مجلس النواب للانعقاد وإطلاق يد ضباط يوليو ليتصرفوا خارج الدستور ويطيحوا بالوفد وبزعيمه مصطفي النحاس وبجميع القوي السياسية المدنية ويتهربوا من الدعوة للعودة إلي الثكنات. وصاحب هذه الفتوي نال لقب «رائد ترزية القوانين»، التي اتسع نطاقها في حياتنا إلي اليوم،
وقد دفع الشعب المصري غالياً ثمن تلك الفتوي استبداداً وتسلطاً، واليوم يطرح علينا منظّر الإخوان مقولة جديدة لتطيح بالدستور، وبالقوانين، وما يترتب علي ذلك من إهدار للمؤسسات ومبدأ الحقوق والواجبات، العام منها والخاص، وهكذا أول القصيدة إهدار الدستور.
والقول بالشرعية الشعبية يتيح لأي فصيل أو تيار أن يزعم لنفسه أنه صاحب شعبية، ويمتلك تلك الشرعية، ويكون من حقه إهدار الدستور. وطبقاً لذلك فإن الحزب الوطني يدعي أنه صاحب شعبية طاغية، وأن لديه أكبر عدد من الأعضاء المنتظمين، فهل يعني ذلك أن يهدر الحزب الدستور والقوانين، ألا نكون نحن مخطئين حين نعترض علي تصرفات وسلوك الحزب الذي يري القائمون عليه أن لديهم «شرعية شعبية» ويتباهون بذلك؟
ولنترك الحزب الوطني وجميع الأحزاب، ألا يتمتع النادي الأهلي بشعبية طاغية، تفوق شعبية الإخوان، فهل يعطي ذلك الحق للنادي العريق أن يتجاوز الدستور والقوانين، فيستولي علي أي قطعة أرض ويقيم عليها استاداً، وينزع ملكيات الأفراد التي يقرها الدستور ويهدر حريات الأعضاء وحقوقهم. وإذا كان الأهلي لديه تلك الشرعية فإن الزمالك يتمتع بها كذلك، ويمكن أن نضيف نوادي المحافظات خارج القاهرة، ومن ثم يصبح كل ناد جمهورية مستقلة، بل يمكن ألا يعترف بالجمهورية، لأن النظام الجمهوري من الدستور الذي يجب أن ينحني أمام «الشعبية»؟!!
ولنترك المؤسسات كالأحزاب والنوادي، ونتوقف أمام نجوم المجتمع في الفن والرياضة وغيرهما، ولدينا من يتمتعون بشعبية طاغية مثل عادل إمام، فهل يكون هؤلاء فوق الدستور والقوانين بشرعيتهم الشعبية.. وماذا نفعل إذا كان لدينا نجوم غير مصريين مثل نانسي عجرم وجمال سليمان وآخرين، كيف نتعامل مع شرعيتهم الشعبية؟!
علي العموم ما قال به د. مرسي ليس جديداً تماماً، ففي ظرف سابق، كتب الراحل سيد قطب في مجلة «روزاليوسف» - ١٩ أغسطس ١٩٥٢ - يندد بالذين طالبوا وقتها باحترام الدستور في الإجراءات التي تتخذ، قال: «هذا الاتجاه إلي دستور سنة ١٩٢٣ يحمل الدليل علي أن عقلية الثورة تنقصنا. لقد كان ينبغي ألا نبحث لنا عن سند في دستور انتهي أمره، بل أن نبحث عنه في منطق الحوادث، وفي طبيعة الموقف، بغض النظر عما إذا كان الدستور يقره أو لا يقره..» وقال سيد قطب كلاماً كثيراً وقتها في هذا الصدد وقبل أن تنقصم علاقته هو والجماعة مع عبدالناصر والضباط الأحرار..
هذا الشبل من ذاك الأسد، ودعك من طنطنة الاعتدال والإيمان بالدولة المدنية وحق الآخرين في الاختلاف، فهذا كله يدخل في باب سد الذرائع، وهو سد براجماتي سوف يرفع حين الوصول إلي السلطة، والبشائر واضحة أمامنا، ومعذرة للزملاء وللأصدقاء من حسني النوايا.. الإخوان هم الإخوان، بلا زيادة أو نقصان
لكن بعض الباحثين المتمتعين بحسن النوايا وحسن الظن، تصوروا أن الجماعة نضجت أكثر وازدادت خبرة، مما يجعلها تطرح برنامجاً لدولة مدنية، تعتمد قيمة المواطنة وتداول السلطة، وقد خاب ظنهم، ولا أعرف كيف تصور هؤلاء الأعزاء ذلك، بينما لم تقم الجماعة بمراجعة فكرية حقيقية، ولا حدث تطور فعلي لها، ويبدو لي أن فكر الجماعة مغلق تماماً، فهم من البداية وإلي اليوم لم يؤمنوا بالديمقراطية.. تحالفوا مع إسماعيل صدقي ضد الوفد، ومع ضباط يوليو ضد الديمقراطية، ومع الرئيس السادات في بطشه بخصومه من اليسار واليمين.
ومؤخراً أجرت جريدة «الدستور» في عددها الأسبوعي - ٢٦ سبتمبر ٢٠٠٧ - حواراً مع د.محمد مرسي عضو مكتب الإرشاد، وهو رئيس لجنة الإعداد للبرنامج السياسي، الذي وزعه مرشد الجماعة، وهو من المحسوبين علي ما يسمي «جيل الوسط»، الذي يوصف بأنه أكثر اعتدالاً وتفتحاً من الجيل القديم. في ذلك الحوار رفض د. مرسي اعتبار البرنامج الذي طرح برنامجاً حزبياً، بل سماه «برنامجاً إصلاحياً».
ولا تخفي الدلالة الفكرية والسياسية لتلك التسمية، والواضح أن فكرة الحزب، والأحزاب عموماً، لم تستقر بعد لدي الجماعة، فهناك «الجماعة» فقط، وما دون ذلك يتفرع عنها ويعود إليها في النهاية، ومن ثم لا مكان للأحزاب.
لكن أخطر ما جاء في الحوار قول د. مرسي بالحرف «.. لنا شرعية، شعبية، فأساتذة القانون والدستور يدرسون ويعلمون الناس أن الشرعية الشعبية أقوي من الشرعية الدستورية، بل فوق الشرعية الدستورية..»، ولا نعرف في أي الجامعات يتم تدريس ذلك، ومن بين أساتذة القانون الدستوري من يهدر الشرعية الدستورية، لصالح ما يسميه عضو مكتب الإرشاد «الشرعية الشعبية».
والذي نعرفه أن الدستور هو «أبو القوانين»، وأنه يعلو علي الجميع، ولا يعلي عليه وتنحني له الجباه، والذي نعرفه أيضاً أن هناك من أفتي سنة ١٩٥٣ بأن «الشرعية الثورية» تجب «الشرعية الدستورية»، وكان الغرض من ذلك التهرب وتجنب دعوة مجلس النواب للانعقاد وإطلاق يد ضباط يوليو ليتصرفوا خارج الدستور ويطيحوا بالوفد وبزعيمه مصطفي النحاس وبجميع القوي السياسية المدنية ويتهربوا من الدعوة للعودة إلي الثكنات. وصاحب هذه الفتوي نال لقب «رائد ترزية القوانين»، التي اتسع نطاقها في حياتنا إلي اليوم،
وقد دفع الشعب المصري غالياً ثمن تلك الفتوي استبداداً وتسلطاً، واليوم يطرح علينا منظّر الإخوان مقولة جديدة لتطيح بالدستور، وبالقوانين، وما يترتب علي ذلك من إهدار للمؤسسات ومبدأ الحقوق والواجبات، العام منها والخاص، وهكذا أول القصيدة إهدار الدستور.
والقول بالشرعية الشعبية يتيح لأي فصيل أو تيار أن يزعم لنفسه أنه صاحب شعبية، ويمتلك تلك الشرعية، ويكون من حقه إهدار الدستور. وطبقاً لذلك فإن الحزب الوطني يدعي أنه صاحب شعبية طاغية، وأن لديه أكبر عدد من الأعضاء المنتظمين، فهل يعني ذلك أن يهدر الحزب الدستور والقوانين، ألا نكون نحن مخطئين حين نعترض علي تصرفات وسلوك الحزب الذي يري القائمون عليه أن لديهم «شرعية شعبية» ويتباهون بذلك؟
ولنترك الحزب الوطني وجميع الأحزاب، ألا يتمتع النادي الأهلي بشعبية طاغية، تفوق شعبية الإخوان، فهل يعطي ذلك الحق للنادي العريق أن يتجاوز الدستور والقوانين، فيستولي علي أي قطعة أرض ويقيم عليها استاداً، وينزع ملكيات الأفراد التي يقرها الدستور ويهدر حريات الأعضاء وحقوقهم. وإذا كان الأهلي لديه تلك الشرعية فإن الزمالك يتمتع بها كذلك، ويمكن أن نضيف نوادي المحافظات خارج القاهرة، ومن ثم يصبح كل ناد جمهورية مستقلة، بل يمكن ألا يعترف بالجمهورية، لأن النظام الجمهوري من الدستور الذي يجب أن ينحني أمام «الشعبية»؟!!
ولنترك المؤسسات كالأحزاب والنوادي، ونتوقف أمام نجوم المجتمع في الفن والرياضة وغيرهما، ولدينا من يتمتعون بشعبية طاغية مثل عادل إمام، فهل يكون هؤلاء فوق الدستور والقوانين بشرعيتهم الشعبية.. وماذا نفعل إذا كان لدينا نجوم غير مصريين مثل نانسي عجرم وجمال سليمان وآخرين، كيف نتعامل مع شرعيتهم الشعبية؟!
علي العموم ما قال به د. مرسي ليس جديداً تماماً، ففي ظرف سابق، كتب الراحل سيد قطب في مجلة «روزاليوسف» - ١٩ أغسطس ١٩٥٢ - يندد بالذين طالبوا وقتها باحترام الدستور في الإجراءات التي تتخذ، قال: «هذا الاتجاه إلي دستور سنة ١٩٢٣ يحمل الدليل علي أن عقلية الثورة تنقصنا. لقد كان ينبغي ألا نبحث لنا عن سند في دستور انتهي أمره، بل أن نبحث عنه في منطق الحوادث، وفي طبيعة الموقف، بغض النظر عما إذا كان الدستور يقره أو لا يقره..» وقال سيد قطب كلاماً كثيراً وقتها في هذا الصدد وقبل أن تنقصم علاقته هو والجماعة مع عبدالناصر والضباط الأحرار..
هذا الشبل من ذاك الأسد، ودعك من طنطنة الاعتدال والإيمان بالدولة المدنية وحق الآخرين في الاختلاف، فهذا كله يدخل في باب سد الذرائع، وهو سد براجماتي سوف يرفع حين الوصول إلي السلطة، والبشائر واضحة أمامنا، ومعذرة للزملاء وللأصدقاء من حسني النوايا.. الإخوان هم الإخوان، بلا زيادة أو نقصان
بقلم حلمى النمنم ١١/١٠/٢٠٠٧
المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment