هناك عشرات الأسباب التي تقف وراء اختفاء الحرية في بلد من البلدان، وهذه الأسباب المتعلقة بالحكام والطغاة والمؤسسات والأنظمة الاقتصادية والاجتماعية يجري ذكرها على كل لسان، وفي أيامنا هذه يصرخ بها كل متحدث في فضائية، وكل كاتب في صحيفة. ولكن هناك سببا وحيدا لا يتحدث به أحد وهو أن من يريدون الحرية يصمتون عندما يتعلق الأمر بحرية الآخرين سواء كانت هذه الحرية متعلقة بالحقوق السياسية أو الاجتماعية، ولكن قبل ذلك وبعده حرية الاعتقاد.
فالحقيقة الثابتة طوال التاريخ الإنساني هي أن الاعتقاد في دين أو مذهب أو طريقة سياسية ـ أي أيدلوجية ـ هو مسألة ذاتية تماما تخص الإنسان وتاريخه وما يحقق له السلام الداخلي. وليس معروفا أبدا لماذا أصبح المسلمون مسلمين، والبوذيون بوذيين، ولماذا انقسم المسلمون إلى شيعة وسنة وانقسم المسيحيون إلى بروتستانت وكاثوليك وفرق ومذاهب تحاربت لمئات الأعوام. وربما كان التفسير الوحيد هو ما جاء في جميع الأديان والمذاهب أن الله جعلنا شعوبا وقبائل متنوعة ومتعددة حتى نتعارف ونتبادل الأفكار، وإلا لكانت الإنسانية طبعة واحدة من الملائكة أو الشياطين.
وفي البلاد العربية جميعها، سقطنا جميعا في الامتحان عندما اقترب الأمر دوما من حرية العقيدة، أو عندما اقترب الأمر من حرية الانتماء إلى جماعة عرقية مختلفة حتى ولو اشتركت معنا في نفس الدين وحتى في نفس المذهب. وعندما كان صدام حسين يذبح الأكراد ويدفنهم في الصحراء صمتت الأمة صمتا رهيبا أو تمتمت بالتعجب والرجاء؛ وكان وراء المسألة كلها هو التضامن مع نظام فاشي في مواجهة مع الإمبريالية أو خوفا من الانفصال الكردي فتتفتت دولة العراق التي نريدها موحدة. المدهش في الموضوع أن الصمت العربي في المسألة الكردية كان واحدا من الأسباب التي قادت في النهاية إلى الاحتلال الأمريكي للعراق، والاستقلال الفعلي للأكراد حتى ولو كان الإقليم الكردي لا يزال جزءا من الفيدرالية العراقية التي لم تقم بعد.
وفي مصر تحديدا سقطنا في أكثر من امتحان، عندما خص الموضوع الجماعة البهائية، وعندما اقتربت الحرية من موضوع تغيير العقيدة بين المسيحية والإسلام، وفي كل مرة كانت المصادرة على حرية العقيدة تفسر كما فسرت كل المصادرات من قبل على ضوء الاستعمار، وعما إذا كانت العقيدة عقيدة حقا على ضوء عقيدة أو دين آخر. وما انطبق علي مصر انطبق على غيرها من الدول العربية، وكان آخر الامتحانات التي سقطنا فيها جميعا هي تلك التي تعلقت باليزيديين أو الأزيديين في العراق، حسبما نشرت الصحف وتنوعت في ذكر الأسماء، حيث جرت المجزرة لهم من قبل جماعات سنية متعصبة بينما وقف الجمع العربي متفرجا في الوقت الذي فيه خرجت الحكايات والقصص عما إذا كانت هذه الجماعة من أتباع الشياطين أم لا.
وبالنسبة لي وحتى وقوع الواقعة لم أكن أعرف عن هذه الجماعة شيئا إلا اسمها الذي يتردد كلما جري الحديث عن التنوع العرقي والمذهبي العراقي، ولكن مصرع 500 منهم في المجزرة، ومصرع الكلمة والموقف العربي منهم، جعل موضوعهم في مقدمة الأمور التي ينبغي التعرف عليها، والأهم إلى أي حد يضع هؤلاء الناس ومحنتهم مبدأ حرية الاعتقاد في العالم العربي موضع الامتحان. وفي البداية فإن أكثر ما يدهش عند التعرف على الأزيديين أنهم جماعة دينية قديمة للغاية سبقت الأديان السماوية، ورغم توالي الرسالات عليهم عبر قرون فإنهم بقوا على ما يعتقدون رغم ذلك التحدي الفكري والعقيدي الهائل الذي جاء خاصة مع الدين الإسلامي نحو الفكرة الأساسية في المعتقد والمتعلقة بدور الملاك ـ الطاووس في العقيدة الأزيدية وإبليس في الديانات السماوية الثلاث ـ الذي رفض السجود لآدم. ولكن بغض النظر عن صحة المعتقد من عدمه، فإن النقطة الجوهرية هنا هي أن جماعة من الناس بقيت على اعتقادها وتمسكت به حتى تحت الضغوط الكبيرة، والمذابح المتعددة، التي جرت خلال فترات مختلفة من التاريخ خاصة خلال الحقبة العثمانية وفي فترة حكم صدام حسين.
ورغم أن هذه الجماعة تعد من الناحية العرقية منتمية إلى الأكراد، فإنها ظلت متميزة عنهم بحكم العقيدة طوال التاريخ، حتى أنه بعد أن أقيم الإقليم المستقل الكردي في شمال العراق منذ عام 1991 ظل الأزيديون تابعين لحكومة صدام حسين المركزية سواء كانوا في جبل سنجار قرب الحدود السورية وعلي بعد 150 كيلوا مترا من مدينة الموصل، أو في إقليم شيخان على بعد 50 كيلومترا شمال شرقي الموصل، حيث يوجد المقام المقدس للطائفة. وكان معنى ذلك أن هذه الجماعة التي تم الضغط عليها وعزلها وقتلها وتعذيبها قد بقيت لفترة أخرى تحت حكم صدام حسين، ولكنه عندما انتهي لم تنته معه آلامهم لأن تنظيم القاعدة كان قد وصل إلي العراق حاملا معه أصولية سنية متطرفة تذبح وتقتل لأقل الأسباب في الاختلاف فكيف يكون الحال مع طائفة من «عبدة الشيطان» نفسه، أو هكذا كان التصور السائد!
والحقيقة أنه ليس معروفا الأسباب التي تجعل جماعة من الناس تعتقد فيما تعتقد فيه وتبقى منبوذة من العرب والأكراد، ومن المسيحيين والمسلمين واليهود، وهي أقلية لا يزيد عددها على 300 ألف نسمة مقسمين بين إقليمين ولا يوجد لها نصير أو حليف في العالم، اللهم إلا من جماعات صغيرة موجودة في سوريا وتركيا وأرمينيا وألمانيا منغلقة على ذاتها وخائفة طوال الوقت من بقية العالم، ولم تعرف في تاريخها إلا الاضطهاد والعسف والمذابح. ولكن لهذا تحديدا كانت فكرة حرية العقيدة واحدة من أهم أعمدة الحرية في التاريخ؛ فإذا كانت الحرية في النهاية هي القدرة على الاختيار، فإن الأقوياء والأغنياء وأصحاب الأغلبية لديهم دائما قدرة كبير علي الاختيار بين خيارات وبدائل متنوعة بحكم ما لديهم من موارد وما يمتلكون من عناصر القوة. ولكن كل ذلك يختفي ويتراجع، ولا يبقى منه الكثير عندما يكون المرء، أو الجماعة، من المهمشين والضعفاء والأقلية التي لا يفهم دينها أحد. وهنا تحديدا تقاس فكرة الإيمان بالحرية عندما تقتضي الدفاع عن الضعيف والمهمش والذي تختلف معه من البداية حتى النهاية حيث يكون الدفاع عن هؤلاء هو أول عتبات الدفاع عن الحرية الشخصية والسياسية لأعضاء الجماعة السياسية.
وتفاصيل القصة التي جرت للطائفة الأزيدية في العراق كانت كاشفة في جوانب متعددة، فقد بدأت عندما قامت الطائفة نفسها في شهر أبريل برجم صبية عمرها 17 عاما لأنها اتبعت نداء قلبها فأسلمت لكي تتزوج ممن أحبت؛ فكانت الطائفة كلها ضد فرد واحد أعزل لا يملك قوة ولا منعة لأن عقيدة الطائفة تمنع الانتماء إلى معتقدات أخرى. ولأن ذلك حدث فقد قامت جماعات إسلامية فورا بذبح 23 فردا من الطائفة في طريقهم إلى العمل؛ وهنا مرة أخرى كانت الأغلبية بجبروتها وقوتها ترتكب الجريمة في رجال عزل هذه المرة. ولأن ذلك لم يكن كافيا فقد جاء تنظيم القاعدة لكي يفجر أربعة عربات في قرى عزلاء وغير مسلحة ولا يوجد فيها من يدعو إلى معتقدات الطائفة خارجها.
فالحقيقة الثابتة طوال التاريخ الإنساني هي أن الاعتقاد في دين أو مذهب أو طريقة سياسية ـ أي أيدلوجية ـ هو مسألة ذاتية تماما تخص الإنسان وتاريخه وما يحقق له السلام الداخلي. وليس معروفا أبدا لماذا أصبح المسلمون مسلمين، والبوذيون بوذيين، ولماذا انقسم المسلمون إلى شيعة وسنة وانقسم المسيحيون إلى بروتستانت وكاثوليك وفرق ومذاهب تحاربت لمئات الأعوام. وربما كان التفسير الوحيد هو ما جاء في جميع الأديان والمذاهب أن الله جعلنا شعوبا وقبائل متنوعة ومتعددة حتى نتعارف ونتبادل الأفكار، وإلا لكانت الإنسانية طبعة واحدة من الملائكة أو الشياطين.
وفي البلاد العربية جميعها، سقطنا جميعا في الامتحان عندما اقترب الأمر دوما من حرية العقيدة، أو عندما اقترب الأمر من حرية الانتماء إلى جماعة عرقية مختلفة حتى ولو اشتركت معنا في نفس الدين وحتى في نفس المذهب. وعندما كان صدام حسين يذبح الأكراد ويدفنهم في الصحراء صمتت الأمة صمتا رهيبا أو تمتمت بالتعجب والرجاء؛ وكان وراء المسألة كلها هو التضامن مع نظام فاشي في مواجهة مع الإمبريالية أو خوفا من الانفصال الكردي فتتفتت دولة العراق التي نريدها موحدة. المدهش في الموضوع أن الصمت العربي في المسألة الكردية كان واحدا من الأسباب التي قادت في النهاية إلى الاحتلال الأمريكي للعراق، والاستقلال الفعلي للأكراد حتى ولو كان الإقليم الكردي لا يزال جزءا من الفيدرالية العراقية التي لم تقم بعد.
وفي مصر تحديدا سقطنا في أكثر من امتحان، عندما خص الموضوع الجماعة البهائية، وعندما اقتربت الحرية من موضوع تغيير العقيدة بين المسيحية والإسلام، وفي كل مرة كانت المصادرة على حرية العقيدة تفسر كما فسرت كل المصادرات من قبل على ضوء الاستعمار، وعما إذا كانت العقيدة عقيدة حقا على ضوء عقيدة أو دين آخر. وما انطبق علي مصر انطبق على غيرها من الدول العربية، وكان آخر الامتحانات التي سقطنا فيها جميعا هي تلك التي تعلقت باليزيديين أو الأزيديين في العراق، حسبما نشرت الصحف وتنوعت في ذكر الأسماء، حيث جرت المجزرة لهم من قبل جماعات سنية متعصبة بينما وقف الجمع العربي متفرجا في الوقت الذي فيه خرجت الحكايات والقصص عما إذا كانت هذه الجماعة من أتباع الشياطين أم لا.
وبالنسبة لي وحتى وقوع الواقعة لم أكن أعرف عن هذه الجماعة شيئا إلا اسمها الذي يتردد كلما جري الحديث عن التنوع العرقي والمذهبي العراقي، ولكن مصرع 500 منهم في المجزرة، ومصرع الكلمة والموقف العربي منهم، جعل موضوعهم في مقدمة الأمور التي ينبغي التعرف عليها، والأهم إلى أي حد يضع هؤلاء الناس ومحنتهم مبدأ حرية الاعتقاد في العالم العربي موضع الامتحان. وفي البداية فإن أكثر ما يدهش عند التعرف على الأزيديين أنهم جماعة دينية قديمة للغاية سبقت الأديان السماوية، ورغم توالي الرسالات عليهم عبر قرون فإنهم بقوا على ما يعتقدون رغم ذلك التحدي الفكري والعقيدي الهائل الذي جاء خاصة مع الدين الإسلامي نحو الفكرة الأساسية في المعتقد والمتعلقة بدور الملاك ـ الطاووس في العقيدة الأزيدية وإبليس في الديانات السماوية الثلاث ـ الذي رفض السجود لآدم. ولكن بغض النظر عن صحة المعتقد من عدمه، فإن النقطة الجوهرية هنا هي أن جماعة من الناس بقيت على اعتقادها وتمسكت به حتى تحت الضغوط الكبيرة، والمذابح المتعددة، التي جرت خلال فترات مختلفة من التاريخ خاصة خلال الحقبة العثمانية وفي فترة حكم صدام حسين.
ورغم أن هذه الجماعة تعد من الناحية العرقية منتمية إلى الأكراد، فإنها ظلت متميزة عنهم بحكم العقيدة طوال التاريخ، حتى أنه بعد أن أقيم الإقليم المستقل الكردي في شمال العراق منذ عام 1991 ظل الأزيديون تابعين لحكومة صدام حسين المركزية سواء كانوا في جبل سنجار قرب الحدود السورية وعلي بعد 150 كيلوا مترا من مدينة الموصل، أو في إقليم شيخان على بعد 50 كيلومترا شمال شرقي الموصل، حيث يوجد المقام المقدس للطائفة. وكان معنى ذلك أن هذه الجماعة التي تم الضغط عليها وعزلها وقتلها وتعذيبها قد بقيت لفترة أخرى تحت حكم صدام حسين، ولكنه عندما انتهي لم تنته معه آلامهم لأن تنظيم القاعدة كان قد وصل إلي العراق حاملا معه أصولية سنية متطرفة تذبح وتقتل لأقل الأسباب في الاختلاف فكيف يكون الحال مع طائفة من «عبدة الشيطان» نفسه، أو هكذا كان التصور السائد!
والحقيقة أنه ليس معروفا الأسباب التي تجعل جماعة من الناس تعتقد فيما تعتقد فيه وتبقى منبوذة من العرب والأكراد، ومن المسيحيين والمسلمين واليهود، وهي أقلية لا يزيد عددها على 300 ألف نسمة مقسمين بين إقليمين ولا يوجد لها نصير أو حليف في العالم، اللهم إلا من جماعات صغيرة موجودة في سوريا وتركيا وأرمينيا وألمانيا منغلقة على ذاتها وخائفة طوال الوقت من بقية العالم، ولم تعرف في تاريخها إلا الاضطهاد والعسف والمذابح. ولكن لهذا تحديدا كانت فكرة حرية العقيدة واحدة من أهم أعمدة الحرية في التاريخ؛ فإذا كانت الحرية في النهاية هي القدرة على الاختيار، فإن الأقوياء والأغنياء وأصحاب الأغلبية لديهم دائما قدرة كبير علي الاختيار بين خيارات وبدائل متنوعة بحكم ما لديهم من موارد وما يمتلكون من عناصر القوة. ولكن كل ذلك يختفي ويتراجع، ولا يبقى منه الكثير عندما يكون المرء، أو الجماعة، من المهمشين والضعفاء والأقلية التي لا يفهم دينها أحد. وهنا تحديدا تقاس فكرة الإيمان بالحرية عندما تقتضي الدفاع عن الضعيف والمهمش والذي تختلف معه من البداية حتى النهاية حيث يكون الدفاع عن هؤلاء هو أول عتبات الدفاع عن الحرية الشخصية والسياسية لأعضاء الجماعة السياسية.
وتفاصيل القصة التي جرت للطائفة الأزيدية في العراق كانت كاشفة في جوانب متعددة، فقد بدأت عندما قامت الطائفة نفسها في شهر أبريل برجم صبية عمرها 17 عاما لأنها اتبعت نداء قلبها فأسلمت لكي تتزوج ممن أحبت؛ فكانت الطائفة كلها ضد فرد واحد أعزل لا يملك قوة ولا منعة لأن عقيدة الطائفة تمنع الانتماء إلى معتقدات أخرى. ولأن ذلك حدث فقد قامت جماعات إسلامية فورا بذبح 23 فردا من الطائفة في طريقهم إلى العمل؛ وهنا مرة أخرى كانت الأغلبية بجبروتها وقوتها ترتكب الجريمة في رجال عزل هذه المرة. ولأن ذلك لم يكن كافيا فقد جاء تنظيم القاعدة لكي يفجر أربعة عربات في قرى عزلاء وغير مسلحة ولا يوجد فيها من يدعو إلى معتقدات الطائفة خارجها.
ثم بعد ذلك نزلت أستار الصمت في العالم العربي كما نزلت في مرات سابقة، وكان في الصمت بعض من موافقة ورضا لأن الملائكة والشياطين دخلوا إلى أطراف المعادلة؛ ومع كل ذلك وضعت الأسس الراسخة للطغيان والاستبداد.
فطالما كان القوي دوما مستبدا وقاتلا ومعذبا للضعيف، فلماذا نستغرب عندما يجري ما يجري ممن كانت له الغلبة أو الأغلبية أو ببساطة المدفع والبندقية
. إن حرية الإنسان تبدأ عند النقطة التي توجد فيها حرية أضعف الضعفاء
عبد المنعم سعيد
الشرق الأوسط
No comments:
Post a Comment