فى نهاية شهر أكتوبر، وقبل انعقاد المؤتمر العام للحزب الوطنى بأيام، التقى أمين عام الحزب صفوت الشريف بشباب الحزب على الموقع الإلكترونى، ليجيب عن تساؤلاتهم، ويومها قال لهم عبارة لافتة «نحن نسعى لبناء دولة مدنية حديثة»، ونُشرت تلك المقولة فى الصحف القومية الثلاث وأبرزتها بشكل واضح جريدة «الجمهورية»
وبدرجة أقل «الأخبار». وقبل أكثر من شهر قال د.علىّ الدين هلال، فى جلسة بحثية مغلقة بمكتبة الإسكندرية: «أنا مع الدولة الوطنية المدنية»، وصحيح أن د.على دعا إلى ذلك اللقاء باعتباره أستاذاً للعلوم السياسية، لكنه عضو الأمانة العامة للحزب الوطنى، أمين الإعلام ووزير سابق!
بناء الدولة المدنية الحديثة والوطنية كان هدفاً واضحاً منذ أيام محمد على، ونادى به كبار المفكرين والمبدعين المصريين من رفاعة الطهطاوى وحتى فؤاد زكريا وجابر عصفور ونور فرحات، مروراً بالأستاذ الإمام محمد عبده ولطفى السيد وقاسم أمين وطه حسين، وأتصور أن التعديل الدستورى الذى جرى فى سنة ٢٠٠٧، بإدخال مادة المواطنة وجعلها ضمن المادة الأولى بالدستور، يأتى فى هذا الإطار، ونال هذا التعديل موافقة وتقدير الأغلبية
. ويبدو أن كل هذا من باب الحرث فى البحر، فما جرى فى مجلس الشعب مؤخراً يؤكد ذلك، والذى حدث أن نائبة الحزب الوطنى ابتسام حبيب تقدمت بمشروع قانون لتوثيق الزواج العرفى، فإذا بنائب الوطنى عبدالرحيم الغول يعترض، وهذا حقه، لأننا بإزاء قضية اجتماعية ملحة تحتاج تداول الآراء، لكن النائب الموقر اعترض لأن زميلته فى الحزب وفى المجلس «مسيحية».. وقال لها كما نشرت إحدى المجلات الأسبوعية «وإنت مالك يا مسيحية..»
وكانت الكلمة قاسية،
فأراد أن يعتذر عنها ليقول «إنه قصد أن ذلك الاقتراح يجب أن يقدمه نائب مسلم»!!
داخل المجلس تمت تسوية الأمر وتراضى النائب والنائبة باعتبار أنهما من حزب واحد ولا يجب أن يفتحا باباً لكارهى الحزب أو أن يشمت معارض بالحزب،
وتكاتف أعضاؤه خاصة فى البرلمان «زيتنا فى دقيقنا»..
هى قالت إنه لم يقصد أن يحرجها وهو قال شيئاً مشابهاً، وهكذا لا هو شعر بأنه خرق مبدأ دستورياً ولا هى توقفت عند ذلك!! الدولة المدنية تعنى أن تقوم العلاقة بين أفرادها دون تمييز اللون أو الجنس أو المعتقد الدينى، والأساس فيها المواطنة..
كل فرد هو مواطن وإنسان سواء كان أبيض أو أسود..رجلاً أو امرأة.. مسلماً أو غير مسلم!!
وحين يصدر ذلك القول من قيادى فى الحزب الحاكم فلابد أن نقلق، ونقلق أكثر لأن أركان الحزب لم تهتز، ولم يتم التوقف العميق عندها، كما لم يتوقف مجلس الشعب كما ينبغى..
حين وضع نائب بالمجلس حذاءه أمامه وهو يتكلم أُحيل إلى لجنة القيم ونال تأديباً، رغم أنه قام بسلوك مخالف لما هو لائق، أما «الغول» فقد خرق مبدأ دستورياً ووقف على النقيض مما أعلنه أمين عام الحزب قبل انعقاد المؤتمر العام، وفى عرف الأحزاب فإن ذلك الإعلان يدخل فى باب الوثيقة الحزبية، وهو بذلك وضع نفسه - فكرياً وأيديولوجياً - إلى جوار جماعة الإخوان وفريق الأصوليين.
حين قال مرشد الإخوان مرة فى حديث إلى جريدة «الدستور» كلاماً يميز فيه بين المسلم والمسيحى فى العمل السياسى نال انتقاداً مريراً، وقلنا إن ذلك هو الدولة الدينية بعينها، وحين أصدر الإخوان برنامجهم، الذى أطلقوا عليه برنامجاً حزبياً، ووضح فيه التمييز بين المواطنين على أساس الدين وعلى أساس الجنس وجهت إليهم الانتقادات والهجوم من جميع الأطراف..
فما بالنا وهذا يصدر من نائب فى البرلمان وهو قيادى بالحزب، بل أحد مؤسسيه والأخطر هو الصمت على ذلك وتمريره بمنطق الاعتذار وتبويس الأكتاف..؟!
لا شأن لنا بما يدور بين أعضاء الحزب، ولكن يعنينا الجانب العام منه، فى بعض اللحظات ومع المشاهدات اليومية تدرك أنه ليس ثمة فارق كبير بين أعضاء الحزب وأعضاء الإخوان والجماعات الأصولية، وأن المواطنة وحديث الدولة المدنية لا يتجاوز مجموعة من القيادات قد تعد على أصابع اليدين..
أما الكوادر، بل ما خلف القيادات العليا، فإن الأصولية تمرح وترعى، واقعة الغول وابتسام حبيب ليست هى الوحيدة. يوم افتتاح مؤتمر الحزب ألقى رئيس الحزب، الرئيس مبارك، كلمة والحضور هم قيادات الحزب من المحافظات، وما إن تحدث الرئيس مطالباً بدراسة - فقط دراسة - إمكانية توفير تمثيل برلمانى للمرأة، حتى انتقل هؤلاء من التصفيق إلى الهمهمة التى تكشف الاعتراض بصوت مرتفع، وفهم الرئيس الأمر فاضطر أن يطمئنهم إلى أن ذلك لن يكون على حساب مقاعدهم.. وهذا يعنى أن هؤلاء القيادات لا يريدون تمثيلاً للمرأة ولا يودون أن يكون لها حضور برلمانى.. ترى ما الفارق بين هؤلاء وسائر الجماعات الأصولية والثيوقراطية فى مصر وخارجها..؟!! ويدعونا هذا إلى التساؤل: هل نحن بإزاء الحزب الوطنى السلفى أم الأصولى؟!
نعرف أن بعض الأصوليين والسلفيين منضمون للحزب إيثاراً للسلامة وطمعاً فى التغلغل فى الدولة من الداخل، لكن يبدو أن الأمر تجاوز الحالات الفردية وصار اتجاهاً عاماً.. وإذا كانت القواعد والقيادات الوسيطة على هذا النحو من التفكير والتكوين الثقافى والعقلى، فلا مستقبل للدولة المدنية ولا للمواطنة مع كامل الإجلال للدستور وللتعديل الذى أدخل عليه. ما نخشاه أن يزحف هؤلاء يوماً ويتقدموا إلى المواقع العليا، فلا يكون هناك مجال حتى للتفكير وللحلم بالدولة المدنية والوطنية، فالدولة إن لم تكن مدنية لن تكون وطنية، بل تصبح «أممية»..
وبناء الدولة المدنية ليس فقط تشريعات تصدر ومبادئ ترفع، بل صرامة وجدية فى تنفيذها، وإلا فإن الأصولية قادمة وإن من داخل الحزب الحاكم!!
بقلم: حلمى النمنم
جريدة المصري اليوم