كانت الإضرابات في عام 1919 تكاد تكون شاملة لكل فئات الشعب المصري.. حتي ان سائقي العربات الكارو والكناسين قاموا بعمل إضراب وأصيبت البلاد بالشلل التام
ولكن ظل إضراب الموظفين مثارا للعجب والإعجاب لأن الموظف الحكومي معلق من رقبته في أيدي الميري. والاضراب ربما يؤدي به إلي الشارع حيث يفقد الوظيفة والمرتب وقوت أولاده وكانت الوظيفة الميري في تلك الأوقات قيمة كبيرة وأمانا واستقراراً.
. ورغم ذلك لم يتوان الموظفون وقاموا بالإضراب حتي استقالت وزارة رشدي باشا..
وقال غاندي يوماً ـ إن الوفد المصري تفوق علي حزب المؤتمر الهندي في نضاله بشيئين.. قدرته علي تكاتف ووحدة المسلم والقبطي وهو مالم ينجح فيه المؤتمر بالنسبة للمسلمين والهندوس والثاني هو إضراب الموظفين الذي لم يحدث مطلقاً في الهند..
لذلك تحمل الإضرابات بشكل عام احتراماً وإعجاباً في صفحات التاريخ خاصة إذا كانت من أجل مطلب وطني..
وفي أوروبا تحدث الإضرابات بشكل متواصل ولعل إضرابات عمال وموظفي مترو أنفاق لندن هي الأكثر تكرارا وتأثيراً وشهرة..
ولأن الإضراب سلوك ديمقراطي حر متحضر فإن الدول والحكومات المتحضرة تقابل المضربين بكل ذوق واحترام وتدرس مطالبهم وتلبيها..
وهذه سر سعادتي بظاهرة الإضرابات التي بدأنا نشاهدها وسط مواطنينا وكان إضراب موظفي الضرائب العقارية واعتصامهم أمام مجلس الوزراء في الشارع في البرد القارس عظيماً..
وأيامها قال وزير المالية »أنا ماحدش يلوي دراعي« ولكن استمر الاضراب وجاءت زوجات الموظفين بالحلل والطبيخ والبطاطين وأقامن مع أزواجهن في الشارع ونجحت إرادة الموظفين وامتدت الي ذراع الوزير وتراجع ولبي طلبات المضربين وكانت موضوعية ومن حقهم تماما.
وتعيش هذه الأيام في الاضراب الثاني الناجح حتي الآن بكل المقاييس وكل يوم بعد الساعة السادسة مساء اتحدث للدكتور صاحب الصيدلية المجاورة التي أتعامل معها وأشد من أزره وإن كان غير محتاج فهو مقتنع تماما بقرار نقابته كما هو مقتنع بأنه من غير المعقول أن يدفع ضرائب ثلاث سنوات ماضية مرة ثانية وإن قرار رئيس مصلحة الضرائب خائب ومشين ولابد أن يقوم بالغائه والنظام الدقيق هو ما جعل هذا الاضراب ينجح ويكسب تعاطف عامة الناس فالصيدليات تغلق حتي الساعة السادسة مساء وفي بعض الأماكن حتي الثالثة عصراً وأضعف الإيمان حتي الواحدة ظهراً في الأماكن الريفية والغالبية تعلق لافتات تشرح للناس التعنت المستفز لرئيس مصلحة الضرائب.. وبعض المناطق تم تنظيمها بفتح صيدلية واحدة في كل منطقة وتم تنظيم الخدمات الليلية.. حتي أنه في شرم الشيخ ولأنها منطقة سياحية تم تنظيمها بحيث لا تشكل مشكلة للسائحين ولكن في حدود الاضراب أيضاً
وهذا يدل علي وجود نقابة علي مستوي عال من النزاهة والقوة والحكمة..
ومن متابعتي لما يحدث رأيت عجائب كثيرة في بلدنا العجيبة اللي فيها حاجة محيراني
. العجيبة الأولي: أن الدكتور نظيف رئيس الحكومة صرح بأن الاضراب عمل مشروع وسلوك ديمقراطي متحضر ويدل علي قوة الحكومة وليس ضعفها وأيضاً قال الدكتور الجبلي وزير الصحة في مجلس الشوري إن الاضراب سلوك حضاري وأن الصيادلة تصرفوا بحكمة وموضوعية.
العجيبة الثانية: أن السيد وزير المالية أبدي مرونة شديدة في مناقشة الأمر وواضح أن اضراب موظفي الضرائب العقارية عمل مفعوله وهذا شيء ظريف جداً..
ولكن في نفس الوقت يبدي رئيس مصلحة الضرائب سلوكا متعاليا ومتغطرسا وكله قلة ذوق وعندما قابل وفد الصيادلة في مكتبه لمناقشة الأمر طردهم من مكتبه بعد خمس دقائق وعندما حدثوه بذلك في »البيت بيتك« قال ماحصلش عشان يكتسب صفة رابعة وهي ان سيادته أيضا كذاب..
والصفة الخامسة التي يتمتع بها هي الحنجوري الجامد فقد أطلق شعاراً حمساوياً من نوعية »أن الصيادلة اتخذوا من المرضي رهائن«.. ومش عارفة ماقوته الشخصية التي تجعل وزير المالية رئيس الحكومة يقفان أمامه مكتوفي الأيدي ..
مش عارفة ابن مين في مصر أساساً.
. وإذا كان هذا القانون العيب قد صدر من الحكومة وسبب هذه الأزمة فما العيب في أن تتراجع وزارة المالية في هذا القرار وترغم السيد رئيس المصلحة المتعالي علي الرجوع في قراره المعيب جداً..
فيه حاجة اسمها قرار محاسبة ضريبية جديد يطبق بأثر رجعي لثلاث سنوات ماضية؟ ده ولا في بلاد تركب الأفيال
. العجيبة الثالثة: اننا نمارس الاضراب وهو سلوك ديمقراطي رغم عدم وجود أي ديمقراطية في أي حتة.. وهو سلوك متحضر رغم عدم وجود سمات متحضرة في سلوك الحكومة.
. وما حدش عاوز يصدق إن الشعب المصري كبر وبلغ سن الرشد وإن شاء الله هايعرف يتعامل مع الديمقراطية وهايسلك معاها لأنها سهلة وبسيطة وحصلت قبل كده وماهياش كيميا يعني.
إنما بسبب هذا التضارب نري أصابع الأمن تعبث هنا وهناك ليه؟.. ما أعرفش..
رئيس الحكومة قال إن الاضراب أحد انجازات العصر الحالي والحكومة الذكية..
وأيضا الاضراب لم يتسبب في أي نوع من التخريب أو التجمهر أو إثارة الجماهير أو التحريض علي النظام، وصيدليات الحكومة تساعد الجمهور في الحصول علي الأدوية اللازمة في أوقات الاغلاق ولم نقرأ ولم نسمع عن سقوط ضحايا بسبب الإضراب..
ومع ذلك نقرأ أن بعض رجال الأمن مزقوا الاعلانات المعلقة علي واجهات الصيدليات في الاسكندرية...
ونقيب صيادلة أسوان يقول إن التهديدات الأمنية والدوريات المفاجئة لمصلحة الضرائب علي الصيدليات هي سبب تراجع نسبة الاضراب بأسوان.
. وما خفي وهي تعرفه الكثير.. من أين لرجال الأمن بهذه الأوامر؟ وماه هدفها؟
وهل تستطيع قوة أمنية مهما كانت أن تمنع بالترهيب أو تفض اضرابا يشمل كل محافظات مصر؟
وهل الأمن لم يسمع كلام رئيس الحكومة وأعضاء مجلس الشعب ووزير المالية ووزير الصحة.. وأهو كلهم أصحاب وزمايل وحبايب وبيكلموا بعض علي الموبايل؟
دي بقي فزورة اليوم.. واللي يعرف الحل يتصل بسبع تسعات.. سعر الدقيقة جنيه ونص والجايزة زجاجة دواء كحة وحقنة مهدئة
بقلم: لميس جابر
نقلا عن جريدة الوفد
No comments:
Post a Comment