المراقب للحياة العامة في البلدان العريقة في الديموقراطية وللحياة العامة في مصر لا يسعه إلا أن يلاحظ أن مصر بلد لا يستقيل فيه أحد من الناس،
لا سيما من شاغلي الوظائف الكبرى كرؤساء الوزراء ورؤساء اللجان المختلفة بالمجالس العليا ورؤساء الهيئات والمؤسسات العامة ورؤساء المرافق العامة والشركات فما معنى هذه الظاهرة؟ وما هو سببها؟
لعل أروع تحليل وتأصيل لظاهرة عدم إستقالة الكبراء في مصر هو ما كتبه عباس العقاد ، في كتابه عن "سعد زغلول" والتي أصدرها في سنة (1936) وذلك خلال حديثه عن إستقالة سعد زغلول من الوزارة (كوزير للحقانية) في وزارة محمد سعيد باشا في سنة 1912 والتي كانت بمثابة حادث عجيب في نظر المصريين الذين لم يعتد أحد منهم أن يرى الكبراء والوزراء يستقيلون.
يقول العقاد وهو يتحدث عن الأوضاع في مصر سنة 1912: "في البلاد الدستورية يخرج الوزير من ديوان الحكم ويعود إليه مرات في مدى حياته السياسية. وقد يخرج منه ويعود إليه أكثر من مرة واحدة في السنة الواحدة تبعاً لإختلاف الآراء العامة وإختلاف مواقف الأحزاب بين الصداقة والخصومة والتألب والتفرق في المناوشات البرلمانية، وقد يكون نفوذه وهو معارض أكبر من نفوذه وهو في ديوانه، مقيد بقيود الوظيفة، مطالب برعاية المراسم الوزارية. فإذا إعتزل المنصب فترة من الزمن لم يزل مرجواً مخشياً محسوباً له حسابه، ولم ييأس منه أصدقاؤه أو يستخف أعداؤه بشأنه لأنه يظل حيث كان قادراً على عمل متأهباً لعودة قريبة إلى الحكم، مرجحاً لهذا الجانب أو لذاك في مواقف الأمة ومواقف النواب". "أما الوزير في مصر قبل خمس وعشرين سنة فقد كان بين حالتين ليس بينهما حالة وسطى فهو إما (وزير) أو (لا شيء) فإذا خرج من الحكم فلا رجاء فيه ولا ضرر منه، ولا أمل في عودته إلى الحكومة أو مشاركته في الحياة السياسية، لأنه كان يرتقي الوزارة بعد أن يتقلب في الوظائف الحكومية من أصغرها إلى أكبرها"
. "ويستغرق في خلال ذلك ما يستغرق من وقت لا يقل عن أربعين أو ثلاثين سنة فمن معاون مأمور إلى وكيل مديرية إلى مدير من الدرجة الثالثة فالثانية فالأولى، إلى وكيل وزارة أو وزير يبلغ من العمر الخامسة والخمسين أو الستين لا يطلب منه عمل ولا يعتمد عليه في سياسة عامة...."
"يقضي الوزير ما يشاء له الحظ في منصبه ثم يخرج منه إلى داره وهو شيخ قد جاوز الستين وخطا إلى السبعين، فماذا يصنع في الأيام المعدودات الباقيات له من الحياة؟ … إنه لو كان شاباً لما إستطاع أن يعمل شيئاً لأنه لم يخلق ليكون من أصحاب الأعمال؛ فإذا كان في تلك الشيخوخة الفانية فهو من باب أولى لا يقوى على عمل ولا يفكر فيه، ولا يبقى منه ما يرجوه راج أو يخافه خائف. إن هو إلا خارج من سجل الأحياء في الحقيقة لا من سجل الحياة الوزارية وحسب، فهما لفظان مترادفان". "من هنا نستطيع أن نعلم أن المجازفة بالإستقالة أمر ليس بالهين في عرف الوزراء المصريين".
هذا ما كتبه "عباس العقاد" منذ سبعين سنة وهو يتحدث عن الوزراء والكبراء في مصر وأسباب عجزهم عن الإستقالة من مناصبهم أياً كانت الأمور التي تلحق بهم،
فهل لا يصدق تشخيص العقاد هذا اليوم على جل شاغلي الوظائف العليا وشخصيات الحياة العامة في مصر-وهي حياة وظيفية حكومية في الأغلب الأعم؟؟.. فنظراً لعدم وجود حياة سياسية وحزبية مستقرة منذ أجيال من جهة أولى، ونظراً لإرتباط أرزاق ومزايا ومنافع شاغلي الوظائف العامة العليا ببقائهم وإستمرارهم في تلك الوظائف؛ فإن الإقدام على الإستقالة عند إستحالة تمسك رجل الحياة العامة أو الوظائف العليا الكبير بموقفه أو مبدئه أو عند تعرضه لما يخدش الكرامة والإباء.
. سوف يبقى بعيداً كل البعد عن التحقق مع وجود إستثناءات نادرة بين الحين والآخر.
والذي يساعد المصري اليوم في المناصب الكبرى على التمسك بها رغم وجود العديد من الأسباب التي تدعوه لتركها في حالات كثيرة، أن الصبر على الضيم كان ولا يزال معلماً رئيسياً من معالم الشخصية المصرية،
وكما قال العقاد في نفس المؤلف عن سعد زغلول فإن المثل الشعبي "أصبر على جار السوء، فإما أن يرحل وإما أن تحل به داهية" هو حقيقة من حقائق السلوك الحياتي لمعظم المصريين بسبب ضيق الرزق ووجوده دائماً في يد الحكام على خلاف المجتمعات الديموقراطية الغربية والتي لا ترتبط أرزاق ومصالح الناس فيها بالحكام وإلا طارت مقاعد الحكم من تحتهم
. ومن الأمور الثابتة، أنه كلما نمت الديموقراطية وإستقرت إعتاد الناس أن يروا الوزراء وغيرهم من شاغلي المناصب العامة الكبرى يستقيلون من مناصبهم، إذا خولفت آراؤهم مخالفة لا يكون بوسعهم بعدها الإستمرار في الحكم أو إذا تصادموا مع رئاساتهم أو إذا وجه إليهم نقد يأبون البقاء بعده في مناصبهم أو إذا مست كرامتهم.
والمراقب للحياة السياسية في مصر لا يسعه أن ينكر المناخ السياسي في مصر بعد تشكيل أو لوزارة شعبية في تاريخ مصر الحديث (وزارة سعد زغلول في أوائل سنة 1924) وإن كانت قد شابها دوماً ما يجعلها إما ديموقراطية ناقصة (في حالات الوزارات الوفدية) أو أدنى للعدم (في حالات وزارات المستقلين وأحزاب الأقلية من توابع القصر وسلطات الإحتلال كالأحرار الدستوريين وحزب الشعب وحزب الإتحاد والسعديين وحزب الكتلة الوفدية).
. قد أتاح لسجلات التاريخ أن تحتفظ لنا بمجموعة من الإستقالات الشهيرة التي كانت أعظمها إستقالة وزارة سعد زغلول في شهر نوفمبر 1924 بعد مقتل السردار البريطاني لي ستاك ومطالب بريطانيا والتي رفضها سعد زغلول في كتاب مشهور له يومذاك
. ويعتقد كاتب هذه السطور أن بوسع مؤرخين متخصصين في تاريخ مصر المعاصرة إتحاف القراء بفصول أعمق وأشمل عن أشهر الإستقالات في تاريخ مصر الحديث.
وقد سمعت بعض تفاصيل الإستقالات الشهيرة فى تاريخنا المعاصر من صديقين عزيزين راحلين هما الدكتور عبد العظيم رمضان منذ أكثر من ثلاثين سنة عندما تزاملنا كعضوي هيئة تدريس جامعة قسنطينة بالجزائر، حيث كان أستاذاً لكرسي التاريخ الحديث بها وكان كاتب هذه السطور مدرساً مساعداً بكلية الحقوق بنفس الجامعة،
وكذلك عندما سعدت بزمالة المؤرخ الكبير (الراحل) الدكتور يونان لبيب رزق صاحب أشمل دراسة موسوعية عن تاريخ الوزارات في مصر في جامعة فاس بالمغرب منذ أكثر من ربع قرن حيث كان المؤرخ المرموق أستاذاً لكرسي التاريخ الحديث بها وكان كاتب هذه السطور مدرساً بكلية العلوم القانونية والإقتصادية والسياسية بنفس الجامعة
بقلم- طارق حجى
نقلا عن الحوار المتمدن
No comments:
Post a Comment