كان موقف "حزب الله" من أحداث غزة الأخيرة سليماُ الى حد كبير بدليل الاكتفاء بالتحريض على مصر بطريقة اعتبرتها القاهرة هدية من السماء.
خدم الحزب مصر من حيث لا يدري فامّن التفافاً شعبياً لا سابق له حول الرئيس حسني مبارك الذي اتخذ في قمة الكويت، على غير عادته، مواقف حادة تعكس الى حد كبير مدى عمق الانقسام الذي يعاني منه العالم العربي
. ما قد يكون أهم من ذلك أن الموقف المصري في قمة الكويت أظهر أن هناك بين العرب من بدا يعي جدياً خطورة الدور الذي تلعبه إيران على الصعيد الاقليمي، خصوصاً مدى استعدادها للذهاب بعيداً في استخدام دماء اللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين في معاركها الهادفة الى عقد صفقة مع "الشيطان الأكبر" الأميركي بحلته الجديدة المتمثلة بإدارة الرئيس باراك أوباما.
في كل الأحوال، إذا وضعنا جانباً الشعارات التي رفعها "حزب الله" وخطابات التحريض على مصر وبعض الأطراف العربية والتظاهرات ذات الطابع الفولكلوري، أمام هذه السفارة أو تلك، فضلاً عن تلبية طلبات دمشق القاضية بمهاجمة رئيس الجمهورية ميشال سليمان... عبر هتافات لمتظاهرين، يظل موقف الحزب من ماساة غزة حكيماً الى حد كبير.
الدليل المسارعة الى التبرؤ من أي صواريخ تنصب في جنوب لبنان أو تطلق منه. أكد الحزب أنه يعرف تماماً أن أهل الجنوب اللبناني وأهل الضاحية على غير استعداد لمغامرة جديدة يدفعون ثمنها من دماء أبنائهم، هم الذين ما زالوا يعانون الى الآن من نتائج "الانتصار الإلهي" الذي تحقق صيف العام 2006. تبين، في ضوء ما حلّ بغزة،
أن ما يحمي لبنان هو القرار 1701 الذي صدر نتيجة حرب صيف العام 2006، هذا القرار الذي يحتاج الى تطبيق أوسع ليشمل الحدود مع سوريا. كذلك تبين أن سلاح "المقاومة" لا يفيد لبنان.
ما يفيد لبنان هو الالتفاف حول الشرعية ممثلة برئاسة الجمهورية والحكومة والابتعاد عن كل أنواع المزايدات وكل ما من شأنه إثارة النعرات الطائفية والمذهبية التي تشكل أفضل خدمة تقدم لدولة عنصرية قائمة على التعصب الديني اسمها إسرائيل. وتبين أخيراً أن ما يحمي لبنان هو القرار الوطني المستقل، خصوصاً عندما يكون في سدة الرئاسة شخص معتدل لا يفكر سوى في مصلحة لبنان بكل طوائفه ومذاهبه ومناطقه.
حسناً فعل "حزب الله" عندما تفادى الإقدام على مغامرة من أي نوع كان.
وحبذا لو يستفيد من درس غزة البليغ بالانتقال الى التعاطي مع الوضع اللبناني بصفة كونه حزباً سياسياً يؤمن بالكيان اللبناني ويعمل على المحافظة عليه وليس ميليشيا مسلحة تابعة للنظام الإيراني تؤمن بلبنان "الساحة". لبنان- الوطن ضمانة لجميع اللبنانيين للشيعة والسنة والدروز والمسيحيين بكل تنوعهم المذهبي
. لبنان الوطن بصيغته التعددية نقيض لإسرائيل. لذلك، يفترض في من يريد مقاومة الدولة العبرية بالفعل، وليس توفير المبررات لها كي تشن العدوان بعد الآخر، العمل على المحافظة على لبنان وحمايته والاستفادة من تجربته.
الأكيد أن حماية لبنان لا تكون بالسلاح غير الشرعي. لم يجلب السلاح غير الشرعي، أي كل سلاح خارج إطار الجيش الوطني وقوى الأمن، سوى الويلات والمآسي على اللبنانيين.
السلاح الفلسطيني في لبنان أخذ لبنان والفلسطينيين الى كارثة وشرد أهل الجنوب
. من يتذكّر أفضال اتفاق القاهرة على لبنان واللبنانيين، والى أين أخذهم الاتفاق، والى أين أخذ بلدهم؟
ما الفائدة من تقليد المنظمات الفلسطينية في القرن الواحد والعشرين؟
يمكن الدخول في نقاش طويل، قد يتحول نقاشاً عقيماً، لدى البحث في فائدة سلاح "حزب الله" في الظروف الراهنة وذلك بغض النظر عن النتائج الكارثية لارتداد السلاح الحزبي والمذهبي على الداخل اللبناني
. ما لا يمكن تجاهله أن لبنان لا يمكن أن يكون الجبهة العربية الوحيدة المفتوحة مع إسرائيل. جبهة غزة سكتت أو ستسكت غداً أو بعد غد. "حماس" لا تريد زوال الاحتلال.
"حماس" تريد السلطة وبقاء غزة تحت سيطرتها. لذلك لم يتصد مقاتلوها للإسرائيليين، بل اختباوا كي يوفروا إمكاناتهم لمرحلة ما بعد العدوان الإسرائيلي.
في تلك المرحلة يستعيدون سيطرتهم على القطاع ويعلنون "الانتصار" على إسرائيل وهم يقفون على أنقاض البيوت المدمرة وعلى جثث الشهداء من أبناء الشعب الفلسطيني. ذلك هو الانتصار الوحيد الذي في استطاعة "حماس" تحقيقه.
هل استفاد "حزب الله" من الدرس؟
ستظهر الأيام والأسابيع المقبلة هل هو قادر على ذلك وهل يمتلك حرية قراره.
الى الآن، فشل الحزب في كل الامتحانات التي مرّ بها وفي كلّ مرة كان عليه تأكيد امتلاكه لحرية القرار.
هل يفيد درس غزة في شيء وهل يستطيع استكمال معروفه مع لبنان والموقف الحكيم الذي اعتمده عندما التزم القرار 1701 في الأسابيع القليلة الماضية، فيضع سلاحه في تصرف الدولة اللبنانية وقواها الشرعية؟
مرة أخرى، المسألة مرتبطة بالقرار الحر والدفاع عن فكرة لبنان ومستقبله بدل تحويله رهينة لنظام إيراني متخلف فشل في كل شيء باستثناء إثارة النعرات الطائفية والمذهبية في المنطقة كلها. نظام يستغل العدوان على غزة ليهاجم الأنظمة العربية ويسبغ عليها كل الأوصاف والنعوت السيئة ليتبين أنه لا يتصرف بالضرورة على خلاف تصرف إسرائيل.
ما الذي يفعله في الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة منذ العام 1971 أيام الشاه؟
يحتاج "حزب الله" الى وقفة مع النفس لا أكثر. يحتاج الى ما يكفي من الشجاعة لتأكيد أن قراره حر
ذلك لا يكون إلا بالتخلي عن سلاحه لمصلحة الشرعية بدل بقائه رأس حربة لمحور إيراني- سوري مستعد يومياً لصفقة على حساب الوطن الصغير... حتى لو كان ذلك مع إسرائيل!
خيرالله خيرالله
المستقبل اللبنانية