من المعروف أن المجتمع المصري طوال تاريخه من المجتمعات التي بنت حضارتها علي الأخلاق والانضباط الأخلاقي المعتدل; فقد ابتدع المصريون ـ علي حد تعبير هنري برستد ـ ما يسمي الضمير الإنساني, ذلك الضمير الذي يرشد الإنسان إلي الخير ويحضه علي فعله, ويرشده إلي الشر ويثنيه عن مواصلة طريقه, ومنذ فجر الحضارة المصرية القديمة وجدنا ذلك فيما عرف في الحضارة المصرية القديمة بالنص المنفي, ذلك النص الذي يتحدث فيه مفكرو منف القديمة عن أصل الوجود ونشأة العالم الطبيعي عن طريق الكلمة التي تفوه بها الإله فكانت الأشياء وكان الوجود, وفي الوقت نفسه أدركوا تسلسل الخلق والإيجاد فخلق الإله مع العالم ما يستحب من أفعال الناس وما يكره وخلقهم قادرين علي التمييز بين الخطأ والصواب, بين الخير والشر, ومنهم من يسعد بفعل الخير ويلقي ثوابه, ومنهم من يحيد عن ذلك الطريق القويم ويحمل نفسه بالآثام فعليه أن يتوقع العقاب في حياته الأخري. أقول منذ ذلك النص الموغل في القدم, اكتشف المصريون معني الأخلاق, ومعني الضمير الإنساني وأدركوا أن حياتهم الاجتماعية والسياسية أساسها السلوك المعتدل القويم والتحلي بكل الفضائل التي لخصوها في كلمة( الماعت) التي تعني علي الصعيد الأخلاقي الاعتدال في السلوك وضبط النفس والتحلي بكل القيم الأخلاقية الرفيعة( الصدق ـ الشجاعة ـ الكرم ـ حب الآخرين ـ العمل الجاد وإتقانه ـ حب الثقافة والكتابة وتقدير الكتاب والمفكرين ـ قيم الاعتدال في تكوين الأسرة والتعاون, والمواطنة الصالحة.. إلخ..).
إن كل هذه القيم وغيرها كثير حرص المصريون منذ فجر تاريخهم حتي وقت قريب علي التحلي بها واعتبارها عنوانا لهويتهم ووقودا يؤجج فعلهم الحضاري في مواجهة أي قيم دخيلة وأي ثقافة غازية.
ولكن ما حدث في السنوات الأخيرة من أحداث وتطورات داخلية وخارجية ضرب هذا السلم القيمي وهذا التماسك الاجتماعي القائم علي أساسه, ضربة في مقتل لدرجة وجدنا معها هذه القيم وكأنها قد تبخرت وحلت محلها قيم أخري بديلة أصبحت هي الموجهة لسلوك الأفراد داخل هذا المجتمع العريق لدرجة دعت علماء النفس وعلماء الاجتماع إلي دراسة هذا الوضع المستجد وتحليله للوصول إلي تحليل دقيق للحالة التي نعيشها الآن;
وقد أحسن عالم النفس الشهير د. مصطفي سويف حينما لخص هذه الحالة في كتابه نحن والمستقبل بعبارة ذات مغزي عميق أكد فيها تشوه الضمير العام للمصريين في السنوات الخمسين الأخيرة, حيث أصاب المجتمع المصري فيها تغيرات غير منتظمة ولا محسوبة, فأصبح يموج بمجموعات من القيم ليس بينها اتساق ولا تناسق. كما أنها تنطوي علي قدر كبير من التذكر لمنظومة قيمية أخري كانت من قبل تنفرد بالساحة أو تكاد.
وقد أشارت دراسة تجريبية أجراها د. أحمد زايد حول خطاب الحياة اليومية في المجتمع المصري المعاصر إلي مجموعة من القيم السلبية التي تسود حياة الإنسان المصري المعاصر مثل سرعة إصدار الأحكام التقويمية السريعة حول مختلف الأمور والأشخاص, الحنين إلي الماضي بشكل رومانسي, ويميل الناس فيه إلي الأنا مالية أو اللامبالاة وعدم تحديد المواقف والرغبة فقط في إرضاء المخاطب, والتطرف في الاستجابة وسرعة الميل إلي النقيض كالانتفال من التصلب الشديد إلي التسامح الشديد, والميل الدائم إلي المبالغة والتضخيم والنزعة البطولية الاستعراضية.
لقد أضحي المجتمع المصري في جميع طبقاته وبمختلف طوائفه مشغولا وملتحفا بقيم استهلاكية تميل إلي الإشباع الشهواني ـ الجسدي وليس إلي إشباع العقول والاستمتاع بلذة الوصول ـ كما في المجتمعات المتقدمة ـ إلي كشف علمي جديد أو ابتداع آلة جديدة أو ما شابه ذلك. ولا شك في أن هذا الاهتمام بالإشباع المادي لرغبات الجسد وجعله الغاية من السلوك هو ما تسبب في واقع الأمر في قلب القيم التقليدية للمجتمع المصري رأسا علي عقب, حيث إن ذلك السلم التقليدي للقيم كان مبنيا علي عقيدة دينية وسطية معتدلة تري في الإشباع المعنوي وفي السلوك الأخلاقي القيم هدفا أسمي من كل ما يخص الجسد وإشباع رغباته وشهواته. إن ذلك اللهاث وراء هذه الإشباعات المادية جعل القيم الأخلاقية الإيجابية تنزوي بعيدا; فالقيم الأخلاقية كما يقول علماء الاجتماع ما هي إلا انعكاس للأسلوب الذي يفكر به الناس في سياق ثقافي معين وفي فترة زمنية محددة. وحينما تغير الأسلوب التقليدي لتفكير الناس من ذلك الأسلوب الذي كانوا يضعون فيه القيم المعنوية من صدق وأمانة وإخلاص في العمل ووفاء بالوعود والعهود.. إلخ, فوق كل اعتبار ويعتبرونها غاية في ذاتها يريدون الوصول إليها في سلوكهم الخاص والعام ويعايرون بعضهم البعض إذا لم يلتزموا بها!
أقول لما تغير هذا الأسلوب من التفكير الأخلاقي الذي يعلي من شأن القيم المعنوية, إلي ذلك الأسلوب من التفكير الذي يضع الإشباع المادي واللذي فوق كل اعتبار, انهار سلم القيم التقليدي وضاعت القيم المعن وية وأصبح من يتبعونها ويربون أولادهم عليها هم الآن الشواذ في المجتمع وهم من ثم من لا يستطيعون التعامل مع الآخرين علي أساسها, بل لقد أصبح هؤلاء الملتزمون بهذه القيم المعنوية التقليدية مثار سخرية ونقد من الآخرين! وبدا التناقض واضحا بين فئة يغلب علي سلوكها الالتزام بهذه القيم المعنوية وهي الفئة الأقل عددا والأضعف تأثيرا, وبين فئة يغلب علي سلوكها التشبث بتلك القيم المستحدثة اللذية ـ المادية ـ الشهوانية التي تسعي إلي الوصول إلي أقصي إشباع بأقل مجهود وبأقل تكلفة وفي أسرع وقت.
وهذا التناقض بين سلوك الفئة الثانية وهي التي أصبحت الأكثر عددا والأقوي تأثيرا جعل المجتمع يسير نحو الفوضي الأخلاقية بحسب تعبير د. أحمد مجدي حجازي في دراسة له حول أخلاقيات الإنسان المصري المعاصر. وبالطبع فإن هذا الخلل الذي أصاب البنية الأخلاقية للمجتمع المصري يحتاج إلي جهد كبير من كل من يعنيهم مستقبل هذا المجتمع لأن الواقع خطير, وطريق الإصلاح يبدأ هنا من ذات كل فرد من أفراد المجتمع.
والبدء من الذات مسألة غاية في الصعوبة لأنه يحتاج لدرجة عالية من الوعي لدي كل فرد بأن عليه أن يعيد بناء ذاته الأخلاقية وفق قيم وتقاليد لم يعد تهمه العودة إليها!
ومن هنا فنقطة البدء لابد أن تكون من خلال إعداد برامج جديدة تركز علي القيم الأخلاقية التي يراد إكسابها للناس مرة أخري بشرط ألا تكون هذه البرامج بلغة خطابية مكشوفة, بل تكتب بذكاء ويستضاف فيها قادة الرأي والمفكرون والعلماء الذين يعتبرون قدوة صالحة في مجال تخصصهم. وهنا تبرز الخطوة الثانية; فبعد الاهتمام بدور الإعلام في هذا المجال, يأتي الاهتمام بإبراز القدوة الحقيقية والتركيز علي إعادة بنائها لدي أفراد المجتمع; فليس من شك في أن القدوة الحقيقية قد غابت عن مجتمعنا منذ فترة طويلة لدرجة أصبحت معها قدوة شبابنا الآن هم لاعبي الكرة والفنانين والفنانات المستهترين والمستهترات وأصبحوا هم قادة الرأي والضيوف الأكثر حظوة والأهم في فقرات أجهزة الإعلام المختلفة, ومن ثم لدي الشباب في مجتمعنا.
والحقيقة التي غابت عنا طوال الفترة الطويلة الماضية هي أن تغيير القدوة أصبح ضرورة ملحة ولابد أن نقصد إلي ذلك قصدا, فإذا ما أردنا لمجتمعنا أن يعود إلي سابق عهده من تقدير لقيم العلم والعطاء والإبداع فلابد أن يكون ضيوف برامجنا الإذاعية والتليفزيونية هم العلماء الأكفاء في معاملهم وداخل معاهدهم العلمية, والمفكرون في مكتباتهم, والعمال العاملون في مصانعهم, والفلاحون الذين يكدون في حقولهم.
إن إعلامنا لابد أن يعبر عن حياة أبناء الوطن الذين يخلصون في أداء عملهم والذين عليهم يبني المجتمع تقدمه ويجني خيراته.
فإذا ما عدنا إلي تقديس قيمة العمل والعطاء, وإلي احترام العلم والعلماء, واحتر ام المفكرين والمبدعين وأصبحوا هم القدوة الحقيقية لشبابنا, سيسعي هؤلاء الشباب إلي تقليدهم, ومن ثم سيكون من بينهم العالم المبدع, والمفكر النابغة, والعامل الجاد, والصانع الذي يتقن صنعته, والزارع الذي يتفنن في العناية بحقله ومحصوله.. إلخ.
إن الطريق إذن إلي إعادة سلم القيم إلي ما كان عليه يبدأ من الاقتناع بوجود الخلل واكتشاف موطن الداء, ثم العمل الجاد علي مختلف الأصعدة السياسية والإعلامية والاجتماعية لإيجاد هذه القدوة الصالحة الحقيقية أمام شبابنا. وشيئا فشيئا ستنزوي القدوة الفاسدة بما تمثله من أخلاقيات سلبية وقيم استهلاكية زائفة.
ويستعيد المجتمع عافيته عبر سواعد أبنائه الذين اتخذوا من الحياة طريقا للجد والاجتهاد, ومن العقل أداة للتأمل والإبداع, ومن الأجساد القوية أدوات للتنفيذ والإتقان في كل عمل يدوي يقومون به
بقلم : د. مصطفي النشار
جريدة الأهرام
No comments:
Post a Comment