الحمد لله.. خلصت.. بعد المذابح والدمار والمؤتمرات والقمم العربية والشتائم والتصريحات واحتفالات النصر الحاسم.. وصلنا إلي مرحلة ملايين الدولارات واليورو والريال والدرهم وهي الفصل الأخير من الجزء السابع والخمسين من المسلسل اللي مش باين له آخر الشهير »بالقضية الفلسطينية«
وأنا أعرف مسبقًا أحداث الحلقة الأخيرة سيكون بها مشاهد معادة بها كثير من المط والتطويل واللت والعجن وهي مسابقة في شد الحبل للحصول علي الأموال لإيداعها بسرعة تحت حساب »النضال« في بنوك سويسرا قبل أن تنتهي التهدئة ويبدأ الفاصل ونعود للجزء الثامن والخمسين من المسلسل وبصراحة كفاية قوي كده وخلينا في حالنا.. وفلسطين معاها ربنا وحماس والفلوس.
لا أعرف لماذا وفي هذا الوقت بالتحديد تداعت الذكريات القديمة وتدفقت بكل تفاصيلها وكأنها حدثت بالأمس القريب.. ولماذا يلح علي ذهني »محمد أبوصديق« بالذات!!.. في يناير من عام 1974 كنت أعمل في قرية تتبع مركز نجع حمادي وتقع في مواجهتها علي الشاطئ الغربي للنيل.. وكانت الوحدة الصحية في قرية »الهيشة« تقع علي شاطئ النيل لا يفصلها عنه سوي غيط قصب صغير.. والنيل في نجع حمادي رائع الجمال شديد الاتساع.. وفي صباح أحد الأيام وبينما أشرب الشاي وأنا أطل علي هذا المنظر الخلاب.. إذا بأصوات شجار عالية تأتي من أسفل سكن الأطباء حيث العيادة الخارجية.. أسرعت بالنزول ورأيت شابًا صعيديًا لا يتعدي الخامسة والعشرين ينهر الممرضة ويطلب حضور طبيب الوحدة فورًا.. ذراعه اليمني مربوطة ومعلقة إلي كتفه والممرضة تتشاجر معه قائلة: »مين انت يعني عشان الدكتورة تغير لجنابك بنفسها؟.. قال صارخًا: »أنا جاي من الحرب يا واكلة ناسك« أسرعت بالتدخل.. ورحبت به وشددت علي يده السليمة وأدخلته إلي حجرة العيادة وطلبت له الشاي بينما الممرضة تتراجع وهي تبرطم غير راضية.. هدأ.. وقدم لي تقريرًا طبيًا وأشعات وقال: انا محمد أبوصديق. لسه واصل من مستشفي السويس من يومين أهلي كانوا فاكرين إني شهيد.. بصوا لجوني وسطيهم أصلي كنت في غيبوبة يجي شهرين.. الحمد لله.. لسه لي عمر.. بالك؟.. أنا فرحت بالحرب جوي ليه؟ عشان ولاد عمي اللي راحوا في سبعة وستين.. وغيرهم كتير من بلدنا.. راحوا في أول يوم ولا نعرف ماتوا إزاي ولا فين ولا نعرف لهم تربة.. صحيح شهداء ما جلناش حاچة.. لكن تارهم في رجبتنا.. أنا چولت النفر بعشرة من اليهود.. وربنا كان معاي وجتلت من اليهود عشرين وزيادة أنا كنت مدفعية كنا أربعة علي المدفع.. وفي يوم لچينا المشير بنفسه واچف جدامنا وچال: »الرچالة علي اليمين والـ ..... علي الشمال« أنا فطيت علي اليمين طوالي.. مش رچالة إزاي يعني؟.. وكل الكتيبة جال: المهمة واعرة چوي ويمكن ما ترچعوش واصل.. أصل اليهود ولاد الكلب دخلوا الدفرسوار وعملوا ثغرة عشان يداروا خيبتهم.. وانتوا هاتخشوا جواها.. لعلم حضرتك اليهود جبناء في الحرب الفرداني.. خوافين جوي.. هما بيتداروا جوه دبابة ولاَّ مدرعة ولاَّ طيارة.. لكن وش لوش إكده؟ زي الأرانب.. إحنا كلنا جولنا في نفس واحد تمام يا أفندم.. جال لنا فيه زميل بطل كانت مهمته يجفل محابس مواسير النابالم اللي بتضخ علي شط الكنال ولما ماعرفش يجفل المحبس سد الماسورة بجسمه.. دخل جواها وانتوا مش أجل منه.. جولنا تمام يا أفندم.. واتحركنا ودخلنا وضربنا وانضربنا.. طاجم المدفع بتاعي كله مات وأنا أخدت شاظية في رجبتي.. نزفت جوي.. كنا بالليل.. حطيت يدي علي الجرح وربطت عليه زي ما علمونا.. ومسكت الصفارة وقعدت أقرأ الشهادة وأجاوم النوم لغاية ما سمعت الاسعاف.. صفرت وغبت عن الوعي فجت لچتني بعدها بشهرين في مستشفي السويس.. الأول ما كنتش جادر أحرك يدي والدكتور جال لي انت محظوظ.. الشاظية كبيرة جوي دخلت الرجبة من جدام وطلعت يادوب جنب النخاع الشوكي شوفي سيادتك الأشعة.. لسه فيه شاظيتين صغيرين بس في حتة خطر.. جال لي ها يطلعوا لوحديهم بع سنة ولا اتنين ولو ما طلعوش مش مهم.. دراعي اليمين كويسه لكن ما أعرفش أرفعها من الكوع لفوق.. أصل عضلة الكتف اتشلت.. الحمد لله بأعمل علاج طبيعي واتحسنت.. بالك إنتي.. جصدي حضرتك جالنا ناس كتير في المستشفي وستات جابوا لنا هدايا أنا زعلت جوي واتخانجت معاهم.. ليه كيف؟ وهو أنا كنت بأحارب ومستني هدايا؟ عيب جوي.. ها يدوني أجرة ولا إيه؟ زعلت وما خدتش منهم حاچة.. ما تأخذنيش يعني عشان عليت صوتي ساعة ما چيت.. أصل الممرضة دي كلامها يعني كده ماعچبنيش.. والله العظيم الدكتور هو اللي جال لازم اللي يغير لك علي الجرح يكون دكتور.. وكاتب إكده في التجرير.. بس يعني آدي السبب. قلت: حمد الله علي السلامة يا محمد صرنا أصدقاء حتي بعد أن تم التئام الجرح.. ودعاني محمد لشرب القهوة في منزل عائلته.. وألح في الدعوة.. وشرب القهوة عند الصعايدة معناه »تناول الغداء« وذهبت لشرب القهوة مع عائلة محمد.. وكان »محمد« آخر من رأيت قبل أن يتحرك القطار من محطة نجع حمادي في اتجاهه إلي القاهرة بعد أن صدر قرار بنقلي.. ولا أنسي يده المرفوعة نصف رفعة يلوح لي بها مودعًا.. حتي الآن وبعد مرور خمسة وثلاثين عامًا مازلت أذكر »محمد أبوصديق« المصري الصعيدي الذي فطر علي عشق الوطن والتضحية في سبيله بسخاء.. دون شعارات رنانة أو كلمات كبيرة.. وأيضًا دون مقابل حتي لو كان هدية بسيطة قدمت له وهو علي سرير الجرحي.. ولأن محمد مصري.. فمصر أم الدنيا.. وأبوها.. وست ستها
بقلم: د. لميس جابر
الوفد
No comments:
Post a Comment