لو لم تكن هناك أهداف سياسية تتعلق بالوضع الفلسطيني وبمعادلة التمحورات في هذه المنطقة، لكان بالإمكان تمرير الإدعاء بأن «حماس» قد حققت نصرا مؤزرا في الحرب الأخيرة كالانتصار الإلهي الذي حققه حسن نصر الله في حرب يوليو (تموز) عام 2006، وأن غزة صمدت صمودا بطوليا ولقنت «العدو الصهيوني» الذي لم يحقق أهداف حربه درسا لن ينساه حتى يوم القيامة. أما وأنه ستترتب على هذا «الادعاء» وتصديقه والسكوت عليه أهدافا سياسية كالأهداف التي ترتبت على تمرير مسرحية الانتصار الإلهي في حرب حسن نصر الله، فإنه لا بد من وضع النقاط على الحروف، وإنه لا بد من أخذ الحقائق من أفواه أهل غزة الذين دمرت منازلهم ويُتِّم أطفالهم ورمِّلت نساؤهم والذين سارع المتفرجون عن بعد للاتجار بدمائهم ومآسيهم التي تجاوزت كل الحدود .
قبل هذه الحــرب وَعَدَ القادة الأشاوس المقيمون في دمشق أنهم سيزلزلون الأرض تحت أقدام «العدو الصهيوني»، وأنهم سيلحقون بإسرائيل هزيمة تاريخية ساحقة ماحقة تكون أول البشائر لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر ومن رفح حتى الناقورة، وتكون بداية النهاية لإزالة هذا الكيان الغاصب.. وحقيقة أن الكثيرين، في ضوء هذه التهديدات وفي ضوء قول حسن نصر الله إنه يعرف ماذا في غزة وما وصل إليها، وأنه لذلك متأكد ومتيقن من الانتصار، قد صدقوا كل هذا الذي سمعوه وتوقعوا أن تتحول شوارع تل أبيب وليس سديروت فقط إلى أنهار من الدماء. لقد كان هناك وعد كوعد صدام حسين ذات يوم بأن المقاتلين الأشاوس سيكونون في انتظار أن ينتهي القصف الصاروخي والمدفعي وأن تتوقف غارات الطائرات، وأن تبدأ الحرب البرية وكان الإسرائيليون يتوقعون أن يصل عدد خسائرهم البشرية إلى مائتي عسكري، وهُم لجأوا قبل أن تبدأ هذه الحرب التي وصفها خالد مشعل ووصفها آخرون من قادة «حماس» بأنها «من طرف واحد» إلى تهيئة الشعب الإسرائيلي لتوقع هذا الحجم من الخسائر.
إنه لم يكن متوقعا على الإطلاق أن تهزم غزة بإمكاناتها المتواضعة وبلحم أطفالها وبأوضاعها المزرية جيشا يعتبر من أهم الجيوش في العالم وأقوي جيش في الشرق الأوسط، كما أنه غير مطلوب من بضع مئات من المقاتلين أن ينتصروا على آلة عسكرية غاشمة بكل هذا الحجم لا يحق لأي كان التشكيك في بطولات الشعب الفلسطيني واستعداده لتقديم أضخم وأعز التضحيات من أجل الدفاع عن وطنه وعن مشروعه السياسي وعن «مقاومته» وهذا ما حصل في لبنان خلال حصار الشهور الثلاثة في بيروت الغربية بعد الغزو الإسرائيلي في عام 1982، لكن لأن هناك استحقاقا سياسيا يراد له أن يترتب على هذا النصر الموهوم في هذه الحرب التي كانت من طرف واحد تدفع ثمنه منظمة التحرير، ويكون على حساب البرنامج الوطني الفلسطيني القائم على أساس حل الدولة المستقلة، فإنه لا بد من قول الحقائق كما يتحدث بها أهل غزة وأنه لا بد من القول وللأسف الشديد إنه لم تكن هناك لا بطولات ولا مقاومة ولا صمود، وأن أكثر من سبعة آلاف من الفلسطينيين جُرحوا واستشهدوا وهم إما في منازلهم لا يعرفون ما يجري على «جبهات القتال» وإما يتراكضون في الشوارع لا يعرفون ماذا يفعلون وإلى أين يتجهون.
عندما تقتصر نسبة أعضاء «حماس» وأعضاء التنظيمات الأخرى المتحالفة معها من كل هذه الأعداد من الشهداء والجرحى على ستة في المائة فقط وعندما تقتصر خسائر الجيش الإسرائيلي البشرية على عشرة جنود قُتل أربعة منهم بـ «نيران صديقة» فإنه معيب أن يكون كل هذا الحديث عن انتصار إلهي جديد وأنه مضحك حتى حدود الاستلقاء على الظهر أن يتبرع «المجاهد الكبير» خالد مشعل ويهدي هذا الانتصار، الذي نسأل الله أن يجنب دمشق انتصارا مثله، إلى سوريا والى الرئيس بشار الأسد.
إن المؤكد أن كل الذين أهداهم «المجاهد الكبير» خالد مشعل هذا الانتصار الإلهي الجديد وكل الذين أقاموا الأفراح والليالي الملاح، يعرفون الحقائق نفسها التي يعرفها أهل غزة ويعرفون أن «حماس» كتنظيم لم تكن مستهدفة بهذه الحرب وأن المستهدف الحقيقي هو المشروع الوطني الفلسطيني وهو حل «الدولتين» وهو تعزيز هذا الانقسام الجغرافي والسياسي بين غزة والضفة الغربية لمـواجهة الإدارة الأميركية، التي يبدو أنها مصممة هذه المرة على تحقيق إنجاز قريب بالنسبة لهذا الصراع التاريخي، بالمبرر إياه القائل: «إن إسرائيل لا تجد الطرف الفلسطيني الذي من الممكن أن توقع معه الحل المنشود، بينما أوضاع الفلسطينيين هي هذه الأوضاع القائمة في ظل وجود دولتين متحاربتين كل واحدة منهما تقول إنها هي الشرعية».
عندما كانت الحرب، من طرف واحد، لا تزال مستعرة ولم تتوقف بعد بادر تحالف «فسطاط الممانعة» إلى التبشير بانتصار إلهي قبل أن تنتهي هذه الحرب، وقبل أن تتضح النتائج وأخذ يعزف الألحان الجنائزية على اعتبار أن هذه الحرب قد قضت على عملية السلام، وأنهت تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني، وكان المقرر أن تشطب قمة الدوحة مقررات قمة الرباط الشهيرة في عام 1974 وتنصب خالد مشعل زعيما أوحد لهذا الشعب، ووريثا للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وللحالة الفلسطينية كلها. لكن ورغم أن الرياح لم تجر كما تشتهي السفن، وأنه تم إحباط قمة الدوحة وقطع الطريق على أهدافها فإن «فسطاط الممانعة» بقي مصرا على أن «النصر الإلهي» الذي توقعه وبشر به قد تحقق، ما دام أن الحرب لم تحقق هدف القضاء على حركة «حماس»، وما دام أن خسائر «القسام» وخسائر الفصائل المتحالفة معها في هذه الحرب قد اقتصرت على ستة في المائة فقط.
كان المفترض وفقا لقمة الدوحة أن يستقبل موفد الإدارة الأميركية جورج ميتشل أمس الأربعاء بـ«لاءات كلاءات الخرطوم»، وأن يقال له إن مبادرة السلام العربية قد جرى سحبها، وأن منظمة التحرير قد انتهت، وأن عملية السلام لم تعد قائمة، وأنه على الأميركيين والإسرائيليين أن يتجهوا إلى العنوان الجديد الذي هو شكلا خالد مشعل، وحقيقة مرشد الثورة السيد على خامنئي في طهران.
إن هذه هي حقائق الأمور، ولذلك فإنه لن يكون هناك اتفاق بين «فتح» و«حماس»، ولن تكون هناك لا حكومة وحدة وطنية ولا حكومة اتفاق وطني، وسيتعزز أكثر وأكثر هذا التباعد بين غزة والضفة الغربية، وقد تلجأ إسرائيل التي أرادت هذه الحرب المدمرة لوأد حل الدولتين والتخلص من الاستحقاقات التي جاء بها جورج ميتشل إلى المنطقة إلى تخفيف الحصار وتخفيف إغلاق المعابر من أجل الحفاظ على هذا الانقسام السياسي والجغرافي بين الفلسطينيين.
صالح القلاب
الشرق الاوسط
No comments:
Post a Comment