طلب مني أستاذي مصطفي أمين أن أكتب موضوعاً عن صفية زغلول، فلما قرأت عنها رفضت أن أكتب الموضوع وقلت له سوف أكتب كتاباً، فقال لي اكتبي الموضوع أولاً..
وكانت هذه المقدمة وكان هذا عنوان الكتاب:
»أخبر سعادة المندوب السامي أنني سأظل في القاهرة وسأعمل كل ما في وسعي لأتم عمل زوجي وانتم تستطيعون أن تنفوا جسم سعد، ولكنكم لا تستطيعون أن تنفوا روحه لأنها تعيش وستظل تعيش، وفي بيته وأنا سأكون سعداً حتي يعود، وهو سيعود لأن الشعب لن يسمح بغيابه ولن يمكنكم من إبعاده طويلاً، حتي لو مات سعد فسيأتي كثيرون غيره وسيتقدمون الصفوف وسأفعل كل ما أستطيع لاشعال روح الثورة في سبيل استقلال مصر«.
كان هذا هو الرد الذي أرسلته السيدة صفية زغلول إلي المندوب السامي، حينما اعتقل سعد زغلول في 22 ديسمبر 1921 بعد أن رفض أن يعتكف في قريته مسجد وصيف وواجهت اعتقاله بهدوء وسكينة حتي غادر زوجها البيت تاركاً زوجة شجاعة وكان يعلم جيداً أنها ستحفظ ثورته في غيبته، وكما قالت وقتها: »إن سعداً سجين في سيشيل ولكنني هنا روحه الثانية وزوجته التي تصون مكانه
«.. يا الله.. ما أعظمك من امرأة مصرية.. طيب الله ثراك ورحمك رحمة واسعة بقدر ما قدمت لهذا البلد الذي كان يعاني من وطأة استعمار قاس. طيب الله ثراك الذي تعطره خطوات كفاحك في غيبة الثائر الأعظم..
ألست القائلة في منشورك الذي وزعته في أنحاء مصر تحت عنوان »نداء من حرم الرئيس.. رئيس الوفد«. لأن كان سعد شيخاً فثقوا أن هذا النفي لا يهد من عزيمته.. إلا شيء واحد هو أن يعلم يوماً أنكم اعتراكم الضعف ولو للحظة واحدة. أي نوع من النساء كانت صفية زغلول؟.. أي نوع من النساء تولد في القرن التاسع عشر في كنف أسرة ارستقراطية منعمة بين أب من الباشوات رأس الوزارة لعشرين عاماً وأم لا تعرف إلا الزهوروالعطور؟!
أي فتاة كانت في قصرها تتعلم اللغات والعزف علي البيانو.. وفجأة يخطبها من والدها رئيس وزراء مصر مصطفي فهمي باشا.. سعد زغلول القاضي النابه درة صالون الأميرة نازلي فاضل والذي كانت تتمناه خيرة النساء..
ولكن قدره كان عظيماً بهذه الزوجة، ماذا فعلت تلك الشابة مع ذلك الثائر دوما؟
كيف تعاملت معه منذ أن وقفت عربتها وهي عروس ونزل منها أمام بيت الزوجية.. لقد نصحتها أمها قائلة: - سوف ينزل من السيارة ويفتح لك الباب ويقول لك اتفضلي يا هانم.. فلا تنزلي أول مرة وسوف يكررها ثانياً فلا تنزلي وفي المرة الثالثة انزلي بتؤدة وسوف يمد لك ذراعه فامسكيها وسيري معه إلي البيت.
ونزل سعد زغلول من السيارة وقال لها: - اتفضلي يا هانم.. فلم تنزل.. وتقول صفية زغلول كما كتبت مربيتها مدام »فريدا جيد فيدال«. فلم يكرر سعد دعوته لي بالنزول.. وسار خطوة نحو البيت فنزلت خلفه بسرعة..
وظللت طول حياتي ألهث خلف سعد زغلول
. أحست صفية زغلول بمسئوليتها منذ بداية حياتها.
. ذهبت معه إلي قريته عاشت حياته وجلست مع الفلاحات وبادلها الحب عاشت كل طبقات الشعب حتي سقاها سعد زغلول حب الشعب الذي ثار من أجل تحرره واستقلاله..
آمنت معه بهذا الشعب العظيم وغيرت كل سلوكياتها وانغمست في كفاح سعد حتي أصبحت المنظومة كاملة في بيت الأمة.. وصلت لقيادة الثورة في غيابه منفياً حينما غيب المنفي زعماء الوفد الكبار، وغاب الصف الثاني في السجون تزعمت صفية زغلول نساء مصر، وكتبن صفحة خالدة جديدة وشاركن جميعاً في الكفاح حينما غاب الرجال.
كان نوعاً من الكفاح المنظم.. المخطط، حيث بدأت صفية زغلول خطتها مع كتيبة كاملة منظمة من نساء مصر في تواصل مع مصر كلها بكل طبقاتها وصولاً إلي الفلاحات.
قررت صفية زغلول وأركان حربها كما كانت تطلق علي السيدة هدير بركات قررن مقاطعة البضائع البريطانية..
وأصبحت السيدات ليست في بيت الأمة فقط، ولكن في كل بيوت مصر بنداء مشي مثل النار في الهشيم من صفية زغلول فأصبح في يد كل سيدة »إبرة التريكو« وخيوط الصوف..
وكادت أكبر محال »البلوفرات« أن تفلس لجلد المصريات حرصن علي مقاطعة البضائع البريطانية.. حتي مخابز الحلوي التي كان يملكها الأجانب قاطعنها وخبزن الحلوي والفطائر في البيوت.
ولم يكن الكفاح هو الامتناع عن شراء البضائع الأجنبية ورفع شعار »صنع في مصر«، ولكن أوصلت صفية زغلول منشوراتها إلي مطبخ المندوب السامي لتصله علي المائدة مع شاي الصباح!!
أي امرأة كانت تلك السيدة العظيمة؟
كيف تسللت بعقلها وحسها الوطني إلي قلب الفلاح الذي يشتهي الذرية ليعيش حياتها وتعوضه ابتسامة صبي طوال العمر؟
كيف استطاعت أن تحول عقمها إلي خصب وطني أكثر دواماً وأمومة لأمة احتاجت أمومتها.. كيف حولت أمومتها إلي عمل وكفاح فكانت الرحم الذي حافظ علي ثورته في غيابه.
لقد تحول بدروم بيت الأمة إلي خلية عمل لصناعة كل ما يلزم ولتعليم النساء كل ما لا يعرفنه حتي تتم المقاطعة للبضائع الإنجليزية لقد وصلت دعوة المقاطعة إلي الريف المصري فنشطت الأنوال لصناعة الصوف لعمل »شيلان« الرجال والعباءات، أصبحت مصر شعلة من الكفاح أثناء اعتقال سعد وصحبه والضوء ينبعث ليلاً من بيت الأمة والعمل يستمر نهاراً حتي يتم نجاح أسلوب المقاطعة ليصل صوت المصريين بشكل عملي خلف الزعيم وصحبه الذين أبعدوا حتي تخمد الثورة..
ولن يعلم الإنجليز أن هناك امرأة تقود الثورة وتوقظ النساء وتفتح المشربيات ليدخل الهواء وتخلع الحجاب يوم 16 مارس فيصبح عيداً للمرأة المصرية.
وجاءت إلي مصر الصحفية الأمريكية جريس تومسون سيتون لتري نساء مصر بعد أن سمعت بصفية زغلول وكتبت كتاباً صدر تحت اسم »الزغلوليات« نسبة إلي صفية زغلول وغطائها الذهبي الثائر سعد زغلول.
. صدر الكتاب عام 1922 كما كتب أستاذنا الكاتب الراحل الثائرة حتي في قبره الأستاذ محمد عودة، وكانت السيدة تومسون شديدة الاعجاب بأسلوب كفاح صفية زغلول في إشعال الثورة في غياب زوجها في المنفي.
لقد استعانت السيدة صفية زغلول بالنساء في أسلوب مقاطعة البضائع..
استعانت بالمرأة المصرية منذ أكثر من ثمانين عاماً، وقت ان كانت المرأة لا تستشار من زوجها ولكنها استخلصت منهن الكفاح الوطني.. لقد عقدت اجتماعاً مع ألفي سيدة وهذا عدد ضخم، حينما كان عدد السكان لا يزيد علي عشرة ملايين كما لو اجتمعت الآن بمليوني سيدة!!.. اجتمعت بهن ونظمت المقاطعة تماماً كأي قائد معركة يخطط للنصر!!
وكانت النتيجة أن البريطانيين ضجوا من المقاطعة وأفلس عدد منهم.
كان صالون صفية زغلول كأنه مصر كلها..
السيدات الارستقراطيات وأميرات البيت المالك من صديقاتها المؤمنات بالثورة والفلاحات يرتدين الحلي الفلاحي.
. فلاحة مصرية تجلس علي الأرض وفرشت أمامها »طرحتها« وضعت بها مصاغها وما تبرعت به بنات قريتها جاءت به لصفية زغلول للانفاق علي الثورة وبيوت الثوار الذين سجنهم الاستعمار الإنجليزي، إحساس بالمسئولية نقلته لنساء مصر كلها،
واستمر الاستعمار في لعبته في محاولة للقضاء علي الثورة المصرية بإبعاد الزعيم سعد زغلول وبعد نفيه في سيشيل قرروا نقله إلي جبل طارق، حيث كانت المنطقة تحت السيطرة البريطانية وأرسل سعد زغلول إلي السيدة صفية زغلول لتلحق به إلي هناك حيث يشعر باعتلال صحته.
ولكي نعلم كيف كان بناء المجتمع المصري شديد القوة في مواجهة الاستعمار والحفاظ علي زعيم فقد كتبت السيدة فهيمة ثابت إحدي المقربات من صفية زغلول في مذكراتها »أرسل الزعيم سعد زغلول خطاباً إلي صفية هانم قال فيه بأدبه الجم: »إذا سمحت ولم يكن السفر يتعبك فأقدمي إلىّ لأنني محتاج لعنايتك..« أي رقة وأدب جم لهذا الزوج الذي كان كالأسد الهصور أمام البريطانيين؟
وقد عرضنا عليها جميعاً السفر معها، وفي بورسعيد كانت مصر كلها تودع صفية زغلول جاءوا من المدن والقري لتوديع شريكه سعد ويحملونها رسالة الشوق إليه جاءوا يحملون الزهور طوال الطريق فلاحين وأفندية وباشاوات يرضعون سعف النخيل ويعنون لها »سلمي يا سلامة تعودي مع سعد بالسلامة«.
لقد استطاعت صفية زغلول أن تغسل يأس المصريين بنفي زعيمهم وإبعاده وأن تحوله إلي أمل بمواصلة الكفاح والثورة.
استطاعت أن تقود الثورة باسمه.
. كانت ترفعه وتؤازره ولا تنتقص منه.. لم تكن تريد أن تحصل علي نصر شخصي لها..
لقد أحست بعظمته وأهمية ثورته فكانت جزءاً من هذه الثورة ذابت معه في مصر ولم تذبه في نفسها!
وحينما كان يغيب كانت تجمع الثوار في بيت الأمة وتخاطبهم وتقرأ عليهم رسائله. وتروي السيدة فهيمة ثابت في كتابها مشهداً من أعظم مشاهد الإخلاص في حياة هذا الشعب، والذي يجب أن يستعيد تاريخه ليبعث الأمل في مستقبله فلقد جاء أحد كبار الضباط وصعد مودعاً بها في الباخرة وقال لها: - أبلغي سعداً أن الجيش والبوليس وضباطه وقواده معه وتحت أمره ورهن إشارة معاليه.
أين من شجاعة هؤلاء الضباط الذين يرسلون لرجل منفي وفي بلد يحكمها المندوب السامي البريطاني رسالة في منفاه؟
إنهم تحت أمره ورهن إشارته؟!
لقد تحول الضباط من حماية الملك وحماية المستعمر إلي حماية ثائر منفي في آخر الدنيا من أجل مصر!!
لقد شعروا أن زوجته استمرار لثورته فحملوها رسالة ذات معني يندر أن يوجد لدي شعب سوي الشعب المصري.
. إيماني بالشعب المصري بلا حدود وأن جينات الثورة تملأ الرياح ويعجبني هذا الوصف للمصريين.
. وأؤمن به كحدث مستقبلي وصف قالته الكاتبة الأمريكية جريس تومسون: - إن المصريين مثل رمال الصحراء.. قد تستطيع أن تسير عليها ولكن يوماً ما سوف يهبون كعواصف الرمال ويبتلعونك
بقلم: نعم الباز
. نقلا عن جريدة الوفد