Tuesday, March 24, 2009

من صـدق ذكـريات ثـورة‏1919‏

موعدنا اليوم يبدو بعيدا عن حروب العصر الجديد‏,‏ إذ أنه وقفة عند ما أحاط باحتفالنا بالعيد السبعيني لثورة‏19‏ مارس‏1919,‏ وما أثاره هذا الاحتفال من حنين وتساؤلات وكأننا أمام حدث خارج علي سياق الركود الذي يحاصرنا الي حد دفع بزميلنا الأستاذ صلاح عيسي الي إعلان أن الثورات ليست أخطاء تاريخية‏(‏ المصري اليوم‏,2009/3/14).
‏أثار الاحتفال وما واكبه من تساؤلات شجون الذاكرة التي لازمت ثورة‏1919‏ منذ الطفولة‏,‏ تصفحت معظم الجرائد اليومية والأسبوعية‏,‏ وما واكبها علي شاشات التلفزة وتعليقات الإذاعة‏,‏ وإذ بها تنقل صورة احتفاليات صاحبت ذهاب الوفد المصري للتفاوض بقيادة سعد زغلول باشا بعد عودته من المنفي‏,‏ هذا بالإضافة الي ذكر مقدمات جمعت بين الحزب الوطني في مطلع القرن العشرين وأجيال التحديث آنذاك‏,‏ كلها وقائع تاريخية مثبتة لها مكانتها‏
.‏من أين إذن ذلك الشعور الذي انتابني في الأعماق بأن ثورة الشعب المصري الأولي في القرن العشرين كانت لها أبعاد امتدت الي جذور مشاعر شعب مصر في الأرياف والمدن‏,‏ وهي التي أثارت الحراك الاجتماعي والاقتصادي والفكري والسياسي الجبار الذي اضطر دولة الاحتلال المظفرة في الحرب العالمية الأولي الي التراجع النسبي‏.‏
سمعنا في شبابنا روايات جمهورية زفتي‏,‏ حدثنا المؤرخون ـ خاصة الدكاترة محمد أنيس ومدرسته حتي رفعت السعيد هذا العام ـ بأن الثورة امتدت الي أعماق الريف المصري‏,‏ إذ تقدم فقراء وصغار الفلاحين ثورة شعبية بكل معاني الكلمة‏,‏ هي التي حركت أعيان وباشاوات المدن والأرياف‏,‏ هذا بينما أكد الباحثون أن قيادة ثورة‏1919‏ تركزت بين ايدي التنظيم السري للوفد المصري بقيادة القائمقام‏(‏ عقيد‏)‏ عبدالرحمن فهمي بك الذي كان سكرتير عام الوفد باعتراف المشاركين والمؤرخين آنذاك‏,‏ وقد اجتمع صفوة الثوار من المثقفين والمهنيين والضباط والعمال والفلاحين والطلبة في إطار هذا التنظيم السري‏,‏ العقل المدبر واليد المنفذة لثورة الشعب المصري ضد الاحتلال بعد الحرب العالمية الأولي‏.‏ من هنا جاءت ثورات الأقاليم‏,‏ وفي مقدمتها جمهورية زفتي‏,‏ ومن هنا أيضا جاء المناخ الذي أتاح تكوين منظمة الكادر في قلب التنظيم السري التي أطلقت علي نفسها تسمية اليد السوداء‏.‏
هنا استسمح القارئ العزيز في فتح كتاب الذكريات التي قد تضئ بعض النواحي المغيبة من ثورة مصر الأولي في القرن العشرين‏.‏شاءت الظروف أن ينشأ كاتب هذه السطور في أسرة وفدية لا تعرف إلا حب الوطن والعلم‏,‏ وقد أخبرتني والدتي منذ الصبا أن والدي كان محاميا بعد الحرب العالمية الأولي وأنه كان وفديا‏,‏ أكاد أقول بطبيعة الأمر‏,‏ ثم أخبرتني أنه اعتذر في مطلع عام‏1920,‏ بعد أن تم اعلان خطوبته بوالدتي‏,‏ اعتذر لأنه سوف يغيب فترة‏..‏ تفهمت والدتي الشابة عذر خطيبها‏,‏ أو هكذا تصورت‏
.‏ثم امتد البعد‏,‏ أي غياب والدي عن القاهرة‏,‏ لمدة ثلاثة أعوام‏...‏ عاد فجأة في مطلع‏1923‏ دون تغيير‏,‏ ذاكرا أسبابا وطنية شهيرة حسب رؤية والدتي‏,‏ ثم تم الزواج وكان الزوجان مثالا رائعا للحب والهيام والوفاء‏
.‏من كتاب الذكريات أيضا‏:‏ أن والدي انتقل بعد سنوات الي مسابقة الدخول في وزارة الخارجية الجديدة‏,‏ وكان الأول في امتحان اللغتين‏(‏ الفرنسية والانجليزية‏),‏ فما كان من حافظ عفيفي باشا سفيرنا الأول لدي بريطانيا بعد منح مصر الاستقلال الصوري في دستور‏1923,‏ إلا أن دعا والدي لقنصلية مصر في ليفربول‏,‏ وهناك أصيب الرجل بمرض شديد أضطره للعودة الي ديوان الخارجية بالقاهرة حيث توفي بعد طيلة عذاب عام‏1932‏ في عصر لم يكتشف بعد المضاد الحيوي‏(‏ البنسلين‏),‏ وكنت قد لاحظت في مكتبته العامرة بعد عودته الي القاهرة حقيبة من الجلد الفاخر وفي صدرها لوحة صغيرة من النحاس حفرت عليها عبارة من عمال شركة سكك حديد‏(‏ أي مترو‏)‏ مصر الجديدة الي محاميهم اسكندر عبدالملك‏,‏ كانت الحقيبة تحتل مكانة الصدارة في المكتبة التي احتلت صدر المنزل‏,‏ حيث كنا نجتمع معا أنا وهو لأستمع لدروس التاريخ والجغرافيا يوميا‏,‏ كان لابد أن يكون لهذه الحقيبة مكانة خاصة عند والدي‏,‏ حسنا‏
..‏ ولكن وظيفته كانت في وزارة الخارجية آنذاك من أين تري اعتزاز والدي بشهادة محفورة في اللوحة النحاسية المذهبة والتي تشير الي دوره محاميا لاحدي نقابات العمال المهمة في مصر الجديدة‏.‏
توفي والدي ولم أبلغ الثامنة والنصف من سنين الطفولة‏,‏ كان أقرب الصديقين هما عبدالحليم البيلي بك المحامي الوفدي المرموق والقائمقام‏(‏ العقيد‏)‏ حافظ صدقي بك‏
.‏أتوقف هنا‏,‏ ما دام المجال ليس ذكريات الشباب‏,‏ لأتابع الخيط الدفين‏,‏ مرت السنون‏..
‏ سمعنا عن وجود التنظيم السري الذي قاد ثورة مصر في الأعماق بعد الحرب العالمية الأولي‏,‏ ظهر اسم عبدالرحمن فهمي بك في روايات الساسة والمؤرخين في أثناء وبعد التحركات الثورية الشعبية عام‏1935‏ ـ‏1936,‏ ومن ثم‏,‏ وعلي مر السنين أخبرنا الباحثون بأن بريطانيا حددت ضرورة إبعاد عبدالرحمن فهمي بك من رئاسة تنظيم الوفد المصري لو أراد قادة الوفد من الطبقات الوسطي والعليا أن يتم التفاوض معهم‏,‏ وبالفعل أقيل عبدالرحمن فهمي بك‏,‏ قائد الثورة‏,‏ وتم استبداله بسعد زغلول باشا رئيس الوفد المصري‏,‏ بعد أن أعيد من المنفي‏,‏ ثم كانت المفاوضات مع بريطانيا حتي منح الاستقلال الصوري والدستور وعودة فؤاد ملكا عام‏1923
.‏تمر الأيام‏,‏ تمر السنون‏,‏ أمور الدنيا تتغير ومعها تتبدل الأنظمة‏:‏حركة التاريخ‏.:‏ تمر الأيام ومازالت عناصر الصورة لم تجتمع في تركيب عقلي متكامل‏,‏ برغم تقدم البحوث التاريخية المصرية وتدفق وثائق تاريخنا المعاصر خاصة من دار الوثائق البريطانية‏‏ الشهير في ضاحية كيو جاردنز جنوب غرب لندن‏.‏
حركة‏23‏ يوليو‏1952‏ تطيح بالملكية‏,‏ وكذا بمؤسسات الطبقة الوسطي من الأحزاب الي مجلس الدولة‏,‏ من الصحافة الي طلائع الجامعة‏,‏ ثم يبدأ الحراك التصنيعي والاستقلالي بدءا من تأميم قناة السويس والسد العالي‏,‏ تتوالي حملات العدوان من دول الغرب وإسرائيل حتي نكسة يوليو‏1967,‏ وفي هذا الجو يزداد التنقيب عن أعماق ثورات مصر‏,‏ انتصاراتها ونكساتها‏,‏ وفجأة تنشر بعض الصحف ذكريات التنظيم السري لثورة‏1919‏ ـ‏1923,‏ ومعها‏,‏ فجأة ذكري تنظيم باسم اليد السوداء علي صلة وثيقة بأسماء نادرة الذكر‏,‏ وفي مقدمتها عبدالحليم البيلي بك‏,‏ حاولت لأن أتحري الدقة‏,‏ وقد أشار عنه بعض المعلقين علي أنه كان الرجل ومعه أقرب الأصدقاء‏,‏ ووالدي في مقدمتهم‏,‏ في دائرة هذا الجديد الذي يطفو علي السطح دون مقدمات لحظة البحث عن أعماق تاريخنا الثوري‏.
‏ قبل هذه اللحظة كان من الواضح أن التنظيم السري للوفد المصري‏,‏ منظما وقائدا لثورات الفلاحين في الريف ونشأة الحركة العمالية النقابية وامتدادها الي الحزب الاشتراكي منذ‏1920‏ ثم الحزب الشيوعي الأول في‏1923,‏ وهو الأمر الذي يفسر تاريخ مناضل شاب جمع بين الثورة الوطنية التحريرية ونصرة الحركة العمالية الناشئة بما يفسر ـ بعد سنوات طويلة من التساؤل والبحث ـ غياب هذا الشاب لمدة ثلاث سنوات‏..
.‏ كان الأرجح أنه يعمل في قلب الحركة الثورية‏,‏ ثم عودته محاميا للحركة النقابية بعد‏1923,‏ مسألة حكاية الحقيبة إذن إشارة أبلغ الي الوثيقة‏,‏ وكذا الاختفاء ثلاث سنوات أيام التنظيم السري‏.‏
تمر السنون‏,‏ تشاء الظروف أن يدعي كاتب هذه السطور زميلا أي أستاذا زائرا في معهد الدراسات المتقدمة‏
‏ في برلين عام‏1985,‏ كانت ألمانيا مازالت منقسمة الي ألمانيا الغربية‏,‏ حيث مقر المعهد وألمانيا الشرقية التي تبدأ من قطاع الأوسط والشرقي من العاصمة برلين‏,‏ كان من واجب كل زميل أستاذ زائر في المعهد أن يدعو ضيفا مرموقا من الخارج الي العشاء مع زملائه في المعهد للتعارف وتبادل الآراء‏,‏ وقد شاءت الظروف‏,‏ والظروف تشاء أن تكون السفيرة رئيسة البعثة الدبلوماسية المصرية في برلين هي كريمة القائمقام عبدالرحمن فهمي بك قائد التنظيم السري لثورة الوفد المغيب‏,‏ وقد تفضلت بقبول الدعوة‏,‏ فكان حديثنا بعد العشاء الرسمي في المعهد غير تقليدي‏,‏ إذ قدمت الضيفة الكريمة الي مجلس الإدارة وكبار الأساتذة والزملاء بصفتها الرسمية بطبيعة الأمر‏,‏ ثم أضفت أنني أعتز بتحيتها بوصفها كريمة قائد المرحوم والدي أيام التنظيم السري لثورتنا المصرية الأولي في القرن العشرين‏,‏
وقد أثارت هذه الكلمات تساؤلات تحولت الي حوار مفتوح امتد فيما بعد لمحاضرة في المعهد عن حقيقة ثورة‏1919,‏ وأسباب تغييب الحقيقة‏,‏ وكأن الثورات أخطاء تاريخية يجب التنصل عنها‏.
بقلم / د‏.‏ أنور عبدالملك
نقلا عن الاهرام

No comments: