موعدنا اليوم يبدو بعيدا عن حروب العصر الجديد, إذ أنه وقفة عند ما أحاط باحتفالنا بالعيد السبعيني لثورة19 مارس1919, وما أثاره هذا الاحتفال من حنين وتساؤلات وكأننا أمام حدث خارج علي سياق الركود الذي يحاصرنا الي حد دفع بزميلنا الأستاذ صلاح عيسي الي إعلان أن الثورات ليست أخطاء تاريخية( المصري اليوم,2009/3/14).
أثار الاحتفال وما واكبه من تساؤلات شجون الذاكرة التي لازمت ثورة1919 منذ الطفولة, تصفحت معظم الجرائد اليومية والأسبوعية, وما واكبها علي شاشات التلفزة وتعليقات الإذاعة, وإذ بها تنقل صورة احتفاليات صاحبت ذهاب الوفد المصري للتفاوض بقيادة سعد زغلول باشا بعد عودته من المنفي, هذا بالإضافة الي ذكر مقدمات جمعت بين الحزب الوطني في مطلع القرن العشرين وأجيال التحديث آنذاك, كلها وقائع تاريخية مثبتة لها مكانتها
.من أين إذن ذلك الشعور الذي انتابني في الأعماق بأن ثورة الشعب المصري الأولي في القرن العشرين كانت لها أبعاد امتدت الي جذور مشاعر شعب مصر في الأرياف والمدن, وهي التي أثارت الحراك الاجتماعي والاقتصادي والفكري والسياسي الجبار الذي اضطر دولة الاحتلال المظفرة في الحرب العالمية الأولي الي التراجع النسبي.
سمعنا في شبابنا روايات جمهورية زفتي, حدثنا المؤرخون ـ خاصة الدكاترة محمد أنيس ومدرسته حتي رفعت السعيد هذا العام ـ بأن الثورة امتدت الي أعماق الريف المصري, إذ تقدم فقراء وصغار الفلاحين ثورة شعبية بكل معاني الكلمة, هي التي حركت أعيان وباشاوات المدن والأرياف, هذا بينما أكد الباحثون أن قيادة ثورة1919 تركزت بين ايدي التنظيم السري للوفد المصري بقيادة القائمقام( عقيد) عبدالرحمن فهمي بك الذي كان سكرتير عام الوفد باعتراف المشاركين والمؤرخين آنذاك, وقد اجتمع صفوة الثوار من المثقفين والمهنيين والضباط والعمال والفلاحين والطلبة في إطار هذا التنظيم السري, العقل المدبر واليد المنفذة لثورة الشعب المصري ضد الاحتلال بعد الحرب العالمية الأولي. من هنا جاءت ثورات الأقاليم, وفي مقدمتها جمهورية زفتي, ومن هنا أيضا جاء المناخ الذي أتاح تكوين منظمة الكادر في قلب التنظيم السري التي أطلقت علي نفسها تسمية اليد السوداء.
هنا استسمح القارئ العزيز في فتح كتاب الذكريات التي قد تضئ بعض النواحي المغيبة من ثورة مصر الأولي في القرن العشرين.شاءت الظروف أن ينشأ كاتب هذه السطور في أسرة وفدية لا تعرف إلا حب الوطن والعلم, وقد أخبرتني والدتي منذ الصبا أن والدي كان محاميا بعد الحرب العالمية الأولي وأنه كان وفديا, أكاد أقول بطبيعة الأمر, ثم أخبرتني أنه اعتذر في مطلع عام1920, بعد أن تم اعلان خطوبته بوالدتي, اعتذر لأنه سوف يغيب فترة.. تفهمت والدتي الشابة عذر خطيبها, أو هكذا تصورت
سمعنا في شبابنا روايات جمهورية زفتي, حدثنا المؤرخون ـ خاصة الدكاترة محمد أنيس ومدرسته حتي رفعت السعيد هذا العام ـ بأن الثورة امتدت الي أعماق الريف المصري, إذ تقدم فقراء وصغار الفلاحين ثورة شعبية بكل معاني الكلمة, هي التي حركت أعيان وباشاوات المدن والأرياف, هذا بينما أكد الباحثون أن قيادة ثورة1919 تركزت بين ايدي التنظيم السري للوفد المصري بقيادة القائمقام( عقيد) عبدالرحمن فهمي بك الذي كان سكرتير عام الوفد باعتراف المشاركين والمؤرخين آنذاك, وقد اجتمع صفوة الثوار من المثقفين والمهنيين والضباط والعمال والفلاحين والطلبة في إطار هذا التنظيم السري, العقل المدبر واليد المنفذة لثورة الشعب المصري ضد الاحتلال بعد الحرب العالمية الأولي. من هنا جاءت ثورات الأقاليم, وفي مقدمتها جمهورية زفتي, ومن هنا أيضا جاء المناخ الذي أتاح تكوين منظمة الكادر في قلب التنظيم السري التي أطلقت علي نفسها تسمية اليد السوداء.
هنا استسمح القارئ العزيز في فتح كتاب الذكريات التي قد تضئ بعض النواحي المغيبة من ثورة مصر الأولي في القرن العشرين.شاءت الظروف أن ينشأ كاتب هذه السطور في أسرة وفدية لا تعرف إلا حب الوطن والعلم, وقد أخبرتني والدتي منذ الصبا أن والدي كان محاميا بعد الحرب العالمية الأولي وأنه كان وفديا, أكاد أقول بطبيعة الأمر, ثم أخبرتني أنه اعتذر في مطلع عام1920, بعد أن تم اعلان خطوبته بوالدتي, اعتذر لأنه سوف يغيب فترة.. تفهمت والدتي الشابة عذر خطيبها, أو هكذا تصورت
.ثم امتد البعد, أي غياب والدي عن القاهرة, لمدة ثلاثة أعوام... عاد فجأة في مطلع1923 دون تغيير, ذاكرا أسبابا وطنية شهيرة حسب رؤية والدتي, ثم تم الزواج وكان الزوجان مثالا رائعا للحب والهيام والوفاء
.من كتاب الذكريات أيضا: أن والدي انتقل بعد سنوات الي مسابقة الدخول في وزارة الخارجية الجديدة, وكان الأول في امتحان اللغتين( الفرنسية والانجليزية), فما كان من حافظ عفيفي باشا سفيرنا الأول لدي بريطانيا بعد منح مصر الاستقلال الصوري في دستور1923, إلا أن دعا والدي لقنصلية مصر في ليفربول, وهناك أصيب الرجل بمرض شديد أضطره للعودة الي ديوان الخارجية بالقاهرة حيث توفي بعد طيلة عذاب عام1932 في عصر لم يكتشف بعد المضاد الحيوي( البنسلين), وكنت قد لاحظت في مكتبته العامرة بعد عودته الي القاهرة حقيبة من الجلد الفاخر وفي صدرها لوحة صغيرة من النحاس حفرت عليها عبارة من عمال شركة سكك حديد( أي مترو) مصر الجديدة الي محاميهم اسكندر عبدالملك, كانت الحقيبة تحتل مكانة الصدارة في المكتبة التي احتلت صدر المنزل, حيث كنا نجتمع معا أنا وهو لأستمع لدروس التاريخ والجغرافيا يوميا, كان لابد أن يكون لهذه الحقيبة مكانة خاصة عند والدي, حسنا
.. ولكن وظيفته كانت في وزارة الخارجية آنذاك من أين تري اعتزاز والدي بشهادة محفورة في اللوحة النحاسية المذهبة والتي تشير الي دوره محاميا لاحدي نقابات العمال المهمة في مصر الجديدة.
توفي والدي ولم أبلغ الثامنة والنصف من سنين الطفولة, كان أقرب الصديقين هما عبدالحليم البيلي بك المحامي الوفدي المرموق والقائمقام( العقيد) حافظ صدقي بك
توفي والدي ولم أبلغ الثامنة والنصف من سنين الطفولة, كان أقرب الصديقين هما عبدالحليم البيلي بك المحامي الوفدي المرموق والقائمقام( العقيد) حافظ صدقي بك
.أتوقف هنا, ما دام المجال ليس ذكريات الشباب, لأتابع الخيط الدفين, مرت السنون..
سمعنا عن وجود التنظيم السري الذي قاد ثورة مصر في الأعماق بعد الحرب العالمية الأولي, ظهر اسم عبدالرحمن فهمي بك في روايات الساسة والمؤرخين في أثناء وبعد التحركات الثورية الشعبية عام1935 ـ1936, ومن ثم, وعلي مر السنين أخبرنا الباحثون بأن بريطانيا حددت ضرورة إبعاد عبدالرحمن فهمي بك من رئاسة تنظيم الوفد المصري لو أراد قادة الوفد من الطبقات الوسطي والعليا أن يتم التفاوض معهم, وبالفعل أقيل عبدالرحمن فهمي بك, قائد الثورة, وتم استبداله بسعد زغلول باشا رئيس الوفد المصري, بعد أن أعيد من المنفي, ثم كانت المفاوضات مع بريطانيا حتي منح الاستقلال الصوري والدستور وعودة فؤاد ملكا عام1923
.تمر الأيام, تمر السنون, أمور الدنيا تتغير ومعها تتبدل الأنظمة:حركة التاريخ.: تمر الأيام ومازالت عناصر الصورة لم تجتمع في تركيب عقلي متكامل, برغم تقدم البحوث التاريخية المصرية وتدفق وثائق تاريخنا المعاصر خاصة من دار الوثائق البريطانية الشهير في ضاحية كيو جاردنز جنوب غرب لندن.
حركة23 يوليو1952 تطيح بالملكية, وكذا بمؤسسات الطبقة الوسطي من الأحزاب الي مجلس الدولة, من الصحافة الي طلائع الجامعة, ثم يبدأ الحراك التصنيعي والاستقلالي بدءا من تأميم قناة السويس والسد العالي, تتوالي حملات العدوان من دول الغرب وإسرائيل حتي نكسة يوليو1967, وفي هذا الجو يزداد التنقيب عن أعماق ثورات مصر, انتصاراتها ونكساتها, وفجأة تنشر بعض الصحف ذكريات التنظيم السري لثورة1919 ـ1923, ومعها, فجأة ذكري تنظيم باسم اليد السوداء علي صلة وثيقة بأسماء نادرة الذكر, وفي مقدمتها عبدالحليم البيلي بك, حاولت لأن أتحري الدقة, وقد أشار عنه بعض المعلقين علي أنه كان الرجل ومعه أقرب الأصدقاء, ووالدي في مقدمتهم, في دائرة هذا الجديد الذي يطفو علي السطح دون مقدمات لحظة البحث عن أعماق تاريخنا الثوري.
حركة23 يوليو1952 تطيح بالملكية, وكذا بمؤسسات الطبقة الوسطي من الأحزاب الي مجلس الدولة, من الصحافة الي طلائع الجامعة, ثم يبدأ الحراك التصنيعي والاستقلالي بدءا من تأميم قناة السويس والسد العالي, تتوالي حملات العدوان من دول الغرب وإسرائيل حتي نكسة يوليو1967, وفي هذا الجو يزداد التنقيب عن أعماق ثورات مصر, انتصاراتها ونكساتها, وفجأة تنشر بعض الصحف ذكريات التنظيم السري لثورة1919 ـ1923, ومعها, فجأة ذكري تنظيم باسم اليد السوداء علي صلة وثيقة بأسماء نادرة الذكر, وفي مقدمتها عبدالحليم البيلي بك, حاولت لأن أتحري الدقة, وقد أشار عنه بعض المعلقين علي أنه كان الرجل ومعه أقرب الأصدقاء, ووالدي في مقدمتهم, في دائرة هذا الجديد الذي يطفو علي السطح دون مقدمات لحظة البحث عن أعماق تاريخنا الثوري.
قبل هذه اللحظة كان من الواضح أن التنظيم السري للوفد المصري, منظما وقائدا لثورات الفلاحين في الريف ونشأة الحركة العمالية النقابية وامتدادها الي الحزب الاشتراكي منذ1920 ثم الحزب الشيوعي الأول في1923, وهو الأمر الذي يفسر تاريخ مناضل شاب جمع بين الثورة الوطنية التحريرية ونصرة الحركة العمالية الناشئة بما يفسر ـ بعد سنوات طويلة من التساؤل والبحث ـ غياب هذا الشاب لمدة ثلاث سنوات..
. كان الأرجح أنه يعمل في قلب الحركة الثورية, ثم عودته محاميا للحركة النقابية بعد1923, مسألة حكاية الحقيبة إذن إشارة أبلغ الي الوثيقة, وكذا الاختفاء ثلاث سنوات أيام التنظيم السري.
تمر السنون, تشاء الظروف أن يدعي كاتب هذه السطور زميلا أي أستاذا زائرا في معهد الدراسات المتقدمة
تمر السنون, تشاء الظروف أن يدعي كاتب هذه السطور زميلا أي أستاذا زائرا في معهد الدراسات المتقدمة
في برلين عام1985, كانت ألمانيا مازالت منقسمة الي ألمانيا الغربية, حيث مقر المعهد وألمانيا الشرقية التي تبدأ من قطاع الأوسط والشرقي من العاصمة برلين, كان من واجب كل زميل أستاذ زائر في المعهد أن يدعو ضيفا مرموقا من الخارج الي العشاء مع زملائه في المعهد للتعارف وتبادل الآراء, وقد شاءت الظروف, والظروف تشاء أن تكون السفيرة رئيسة البعثة الدبلوماسية المصرية في برلين هي كريمة القائمقام عبدالرحمن فهمي بك قائد التنظيم السري لثورة الوفد المغيب, وقد تفضلت بقبول الدعوة, فكان حديثنا بعد العشاء الرسمي في المعهد غير تقليدي, إذ قدمت الضيفة الكريمة الي مجلس الإدارة وكبار الأساتذة والزملاء بصفتها الرسمية بطبيعة الأمر, ثم أضفت أنني أعتز بتحيتها بوصفها كريمة قائد المرحوم والدي أيام التنظيم السري لثورتنا المصرية الأولي في القرن العشرين,
وقد أثارت هذه الكلمات تساؤلات تحولت الي حوار مفتوح امتد فيما بعد لمحاضرة في المعهد عن حقيقة ثورة1919, وأسباب تغييب الحقيقة, وكأن الثورات أخطاء تاريخية يجب التنصل عنها.
بقلم / د. أنور عبدالملك
نقلا عن الاهرام
No comments:
Post a Comment