طوال العقود القليلة الماضية كان «غياب الديمقراطية» و«سيادة الاستبداد» وغلبة الديكتاتوريات العسكرية والمدنية وما هو خليط بينهما، قضية أساسية للنخبة الفكرية والسياسية والعربية، وحولها دار حديث المنتديات والندوات وفيض من مقالات الصحف والكتب والأحاديث الصحفية والتلفزيونية.
ولم يكن الاهتمام عربيا فقط، بل إن الأمر امتد إلى مؤسسات أوروبية وأمريكية أنشأت فروعا لها في العالم العربي والإسلامي بحثا عن أسباب وجود ما سمي «بالاستثناء العربي» وأحيانا «الإسلامي» وجعل التربة في بلادنا عصية على الديمقراطية. ولم يكن الأمر بحثا فقط، ولكنه كان في كثير من الأحيان حثا على إقامة النظام الديمقراطي على أساس أن النظم الحالية لم تنجح في تحقيق أهداف مجتمعاتها، بل أكثر من ذلك أصبحت مولدة للحركات الإرهابية والجماعات الأصولية بأشكالها المتنوعة
. وبالنسبة لي شخصيا فقد قمت ومعي آخرون من خلال مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية بإنشاء ما بات معروفا بمبادرة الإصلاح العربي، وكانت مهمتها الإجابة عن ذات الأسئلة: لماذا لم تكن النظم السياسية العربية ديمقراطية، وكيف يمكن إقامة النظم الديمقراطية في الدول العربية؟
ولكن سؤالا مهما كان في معظم الأحوال غائبا عن أذهان الجميع، وهو ما الذي تفعله الدول والمجتمعات العربية بالديمقراطية حال الحصول عليها؟
فما كان معروفا في التاريخ العربي المعاصر بالحقبة الليبرالية، انهارت في الدول العربية الواحدة بعد الأخرى وبسهولة عجيبة ووسط احتفالات بوصول نخب وطنية إلى الحكم.
وربما لم تكن المفاجأة في الاحتفال الذي قامت به نظم عسكرية، ولكن المفاجأة التاريخية كانت أن الشعوب العربية لم تدافع عن هذه الحقبة دفاعا يذكر، بل جاءت فترات كانت اللعنة على الحقبة جزءا من التراث القومي العربي باعتبارها كانت عهودا بائدة.
ولكن المعضلة ليست لها علاقة تذكر بالتاريخ وإنما بالحاضر الذي نعيشه، وخلال الأيام القليلة الماضية تم حل البرلمان الكويتي بعد استقالة الوزارة، وكان ذلك تكرارا لنفس الموقف خلال السنوات القليلة الماضية ومنذ تحرير الكويت، فما أن يتم انتخاب البرلمان ويجري تشكيل الوزارة بعد صعوبات غير قليلة، تبدأ سلسلة من المشاكسات البرلمانية والاستجوابات تنتهي في العادة باستقالة الحكومة وحل البرلمان، ثم تدور الدورة دورتها مرة أخرى
. وفي لبنان حيث توجد تقاليد برلمانية وديمقراطية قديمة حتمتها توازنات تاريخية جرت عملية جراحية للمجتمع اللبناني سمحت بإعطاء معارضة مسلحة حق الفيتو في القرارات السيادية على رأي الأغلبية، وحدث ذلك وسط احتفال عربي بتجنب الحرب الأهلية في بلد شقيق.
وفي فلسطين حيث تباهى الجميع بالانتخابات الديمقراطية، ولم تترك منظمة حماس الفائزة في الانتخابات فرصة إلا وأكدت فيها على هذا الفوز الديمقراطي، ولكن المنظمة ذاتها كانت هي التي قامت «بالحسم العسكري» الذي فصل قطاع غزة عن الكيان الفلسطيني السياسي الناشئ على أساس أن ذلك كان استباقا لانقلاب كانت ستقوم به منظمة فتح.
وسواء كان ذلك صحيحا أم لا، فإنه لا يمثل القضية التي نحن بصددها وهي أن الديمقراطية الفلسطينية فشلت في حل معضلات سياسية بطريقة سلمية كما يجب الحال في الديمقراطيات التي نتحدث عنها.
وربما كان أكثر ما دعا إلى الاحتفال في العالم العربي، كان الانتخابات الموريتانية التي أقامت نظاما ديمقراطيا نظيفا، بحيث تم انتخاب الرئيس والمجلس التشريعي في عملية سياسية «شهد لها العالم بالنزاهة»، ومع ذلك فلم يمض وقت كثير حتى جرى انقلاب عسكري جاء لإنقاذ الوطن وساندته قوى سياسية؛ ولما وجد قادة الانقلاب أنهم يواجهون عزلة دولية دعوا لانتخابات جديدة يقومون بإجرائها، وبعد ذلك فإن نتائجها سوف تكون معروفة قبل إجرائها
. وربما لخص الرئيس معمر القذافي الذي قام بالوساطة لحل المأزق «الديمقراطي» بدعوة الشعب الموريتاني للموافقة على انتخابات العسكريين على أساس أن الانتخابات مثل الانقلابات تطيح بالرؤساء ولا تأتي بالاستقرار المطلوب
.ولم تكن موريتانيا هي المثال الوحيد، فقد عاشت السودان مثل هذه الحالة ما بين الحالة الديمقراطية والحالة العسكرية وبمتوالية مدهشة.
وربما لو تابعنا بدقة ما جرى في باكستان خلال الأيام القليلة الماضية لشاهدنا عملية اختمار الفشل الديمقراطي وهو في طريقه إلى منصة الانقلاب العسكري.
وكانت بذرة الفشل قائمة منذ تم اغتيال بنازير بوتو ولفظ النظام العسكري أنفاسه الأخيرة، بينما القوى المدنية عاجزة عن التآلف على برنامج ديمقراطي ينقذ البلاد من الفوضى ويعطيها نظاما ديمقراطيا مستداما لا ينتهي بانقلاب عسكري آخر.
والمدهش أنه رغم وجود الكثير من المقارنات بين الهند وباكستان، فإن أحدا لم يفهم أبدا لماذا استقرت الديمقراطية في الهند الأكثر تعقيدا وتركيبا بينما فشلت فشلا ذريعا في الجارة القريبة سواء كانت باكستان التي تجاذبتها سطوة الرجال، أو بنجلاديش التي لم يثبت فيها أن النساء كانوا أكثر حكمة.
ما هي المعضلة إذن عندما نصل إلى الديمقراطية، أو نوع منها، أو حتى شبيه لها، لا نجدها تعمل مثلما تعمل في البلدان الأخرى؟ ولا يمضي وقت طويل حتى نجدها تتكسر أو تخلق نوعا أو آخر من الفوضى أو حتى تفضي إلى ديكتاتورية عسكرية أو مدنية لا يعلم أحد متى تصل إلى نهاية وفي معظم الأحيان يكون لها ثمن فادح؟ نعلم ما قاله تشرشل من أن الديمقراطية هي أسوأ النظم السياسية ولكنه لا يوجد ما هو أفضل منها، ويبدو أن بلادنا أخذت ديمقراطيات سيئة مع كل النظم الأكثر سوءا منها.
وبالتأكيد فإننا نرفض تلك النظريات العنصرية التي تقول إن الجينات في بلادنا لا تتقبل الديمقراطية بسهولة حيث ثبت كما رأينا أن المحاولة نحو الديمقراطية دائما مستمرة رغم الفشل الدائم، أو أن في الدين الإسلامي إشكالية مع المثال الديمقراطي كله لأن هناك أمثلة في تركيا واندونيسيا الآن أن الديمقراطية ممكنة في بلاد إسلامية
. فهل بقي لنا فقط تفسير ابن خلدون أن السلطة في بلادنا تقوم على الغلبة والعصبية، ومن ثم فإن فكرة التداول السلمي للسلطة من خلال اختيارات فردية في صناديق انتخابات تبدو بعيدة ليس عن الثقافة السياسية أو الدين بقدر ارتباطها بواقع سياسي بعينه يفرض نفسه بإلحاح وكلما جرت عملية الخروج منه أو الحلحلة بعيدا عنه فإنه يعود من جديد
.بالنسبة لي تبدو المسألة أكثر تعقيدا وهي مرتبطة أكثر بحالة المجتمعات العربية والإسلامية ومدى تخلفها، وهو تخلف لا يمكن حسابه بالمؤشرات الاقتصادية والمادية بقدر ما ينبغي قياسه بقدرة أدوات التنشئة السياسية على توليد نخب ديمقراطية وهو ما لم يحدث حتى الآن في بلادنا على نطاق واسع بحيث يكون مؤثرا في تغيير التوازنات الاجتماعية بصورة مستدامة ومؤثرة.
وهكذا فإن المسألة لا يمكن تلخيصها فقط كما جرى العرف بالعصبية أو وجود نخب إستراتيجية مستبدة قادرة دوما على الإمساك بالسلطة السياسية بالقسوة والعنف والشرعية التاريخية أو الدينية أحيانا، بقدر مدى استعداد المجتمعات ومؤسساتها على تخطي هذا الاختبار والتعامل معه بنضج وفاعلية.
مثل هذا الاستعداد يجري من خلال النظام التعليمي، والتغيرات الجارية في النظام الاقتصادي، والثورة المتزايدة في المجالات الإعلامية، والتمدد غير العادي للمجتمع المدني في أبعاده التنموية والثقافية والسياسية. كل ذلك موجود في بلادنا ولكن بكم محدود، ونوعية رديئة، ولكن النظرة على التراكم الزمني تشير بتقدم من نوع ما سوف يكون له إفرازاته السياسية في مراحل متقدمة
.وهكذا فإن المهمة الديمقراطية لم تعد مناوئة النظم القائمة ودفعها في اتجاه ديمقراطية متقطعة أو منقوصة بقدر ما هي تجهيز المجتمعات العربية للتعامل مع نظام هو بطبيعته معقد ويركز على السياسات بقدر ما يعطي اهتماما للآليات، ويضع سلامة المجتمع واستقراره فوق كل اعتبار آخر، ويحافظ على كيان الدولة باعتبارها الحاضنة لنظام لا يمكن وجوده إلا في إطار الدولة كتعبير سياسي عن المجتمع وما فيه من تعقيدات وتركيبات. وببساطة فإن الديمقراطية حمل ثقيل لا يتحمله إلا من استعد له، وتدرب عليه، وكان عارفا أنه لا يوجد أمامه خيار آخر. تلك هي المسألة!
بقلم: عبد المنعم سعيد
نقلا عن جريدة الشرق الأوسط
No comments:
Post a Comment