استطاع النظام السعودي ان يحكم قبضته على المجتمع بترسيخ مركزية ثالوث المحرمات المتكون من ثلاث زوايا هي السياسة والدين والجنس.
وكلها كانت تعتبر خلال فترة القرن العشرين من المحرمات والخطوط الحمراء التي لا يستطيع تجاوزها احد.
تحريم السياسة بقي وحده اليوم المحرم الاول والتابو الثابت الذي لا تتخطاه اطياف المجتمع بمختلف اتجاهاتها الفكرية.
وقد تبنى النظام مبدأ 'حرمت عليكم السياسة' خلال فترات حكم سابقة وحالية رغم الانفتاح الذي تشهده الساحة السعودية ودعوات الملك بتوجيه الانتقاد لسياسته وسياسة غيره من المسؤولين.
وفهم المجتمع هذه الدعوة على انها مقالات تنشر هنا وهناك ورسائل نصح للسلطان والبطانة وان كانت لغة النصيحة للسلطان تظل من النوع الخفيف الا انها اشتدت في مواجهة مسؤولي النظام الذين ينفذون اوامر عليا تأتي من فوق ولا يتركون بصماتهم على اروقة السياسة.
اذ يبقى هؤلاء منفذين لسياسة عامة وليس صانعيها.
ورغم ما يسمى بالانفتاح السعودي الجديد الا ان زاوية السياسة لا تزال مقيدة ومحرمة على الجميع وبينما يتعرض الناصح الذي يتطرق للشأن السياسي الى السجن وتقييد الحرية بسبب رسالة نصح وانتقاد نجد ان من ينتقد الاجنحة الضعيفة مثل وزارات الاعلام والثقافة والعمل وغيرها يبقى حرا طليقا وينطبق هذا المبدأ على منتقدي الامراء الصغار الهامشيين ولا يتجرأ احد على التعرض للسياسة الخارجية او النفطية او الداخلية او العسكرية فهي من المحظورات ناهيك عن المحظور الكبير وهو التعرض لشأن المال العام والخزينة التي تبقى خارج اطار الحوار والنقاش والنقد.
لذلك نعتبر رسائل النصح السلطانية التي تجتر اساليب سياسية قد عفّ عليها الزمن وتراجعت قدرتها على التأثير في مجرى سلوكيات المسؤول غير قادرة على اختراق المحظور والمحرم السياسي.
وكل من راودته نفسه وتجرأ على مثل هذا النقد المباشر لمرافق النظام المهمة سيجد نفسه مقادا الى زنزانات السجن المعروفة. ويبقى هذا هناك دون محاسبة او محاكمة او حتى تهمة توجه له ومن ثم قد يفرج عنه ان شاءت الارادة الملكية بذلك فتزداد التكهنات عن مغزى المكارم الملكية التي تعفو عن ابرياء يقتادون الى السجون دون سبب الا تجاوزهم خط السياسة الاحمر
.الركيزة الثانية في الثالوث السعودي كانت وما زالت الدين واستخدم النظام سابقا الحجر على الفكر والابداع والثقافة بالدين ليثبت دعائم المحظور.
وتحت ذريعة الدين الغى النظام الفكر والنقد والابداع بحجة انه حارس للفضيلة والقيم وحام للاسلام ورموزه وتاريخه فمنعت وزارة الاعلام سابقا المطبوعات التي تتجرأ على الدين وتبث الكفر والالحاد وتتجرأ على التاريخ الاسلامي والثقافة.
وتحت هذه الذريعة حجب النظام السعودي طيفا كبيرا من الكتب والمطبوعات ومعظمها لا يتطاول على الذات الاسلامية بل انها قدمت للقارئ نموذجا في الفكر الذي يمحص التاريخ ورموزه ويدعو القارئ لتفعيل منهجية دراسية جديدة لفهم الماضي بدلا من تقديسه وترديده، وعزل النظام المجتمع عن المعرفة المتكاملة لتاريخ الحضارة الاسلامية وتطورها.
فلم يدخل في سجالات شغلت المثقفين في العالم الاسلامي وخاصة اولئك الذين تمرسوا في مراجعة المصادر والثقافة وشيدوا عصرها الذهبي وكذلك انحطاطها في فترات تاريخية سابقة وحالية واكتفى النظام بتلك المصادر التي تحول الباحث الى ناقل ومردد لشعارات خلابة لا يقرأ الا ما يرسخ قناعاته تماما كببغاء يلقن الحروف والمفاهيم.
وأهم ما في عملية الحظر هذه هي كونها عباءة تتستر خلفها أنظمة الحجب والقمع الفكري لتحجب عن المجتمع انجازات غير الثقافية والسياسية والدينية ليبقى الدارس في قالب رسمه كهنوت النظام المساند لعملية الحجر هذه.
ولكن مع دخول السعودية عصر الانفتاح نجد ان المحظور الديني اصبح اليوم مباحا بل مروجا له في معارض الكتب وكرنفالات النظام الفولكلورية السنوية وخاصة المرتبطة بالجنادرية.
لقد اصبح من الممكن اليوم ان نجد في الساحة السعودية من يتجرأ على الدين ورموزه وهناك سياسة متعمدة لادخال المطبوعات التي تتجاوز الخطوط الحمراء الدينية والترويج لها من باب تخفيف حدة الديني المتطرف حسب السياسة الرسمية للنظام.
وقد اقتنع النظام ومستشاروه ان التجاوز على المقدس بالطريقة الفجة والوقحة التي تتصدر بعض المطبوعات السعودية والخارجية هو طريق الخلاص من كهنوت اصبح عبئا على النظام ذاته حيث ان هذا الكهنوت قد تجاوز الحدود المرسومة له على خارطة الساحة السعودية. ومن هنا بدأت عملية التحجيم الديني الذي ادى دوره المطلوب وسيؤدي ادوارا قادمة رغم انفه لانه فقد استقلاليته خلال عملية نموه كطفيليات ترعرعت في ظل السلطان وسبحت بحمده طيلة العقود الماضية.
لقد توترت العلاقة بين السلطان ومنظره الديني وحان الوقت لان تقلم السلطة اجنحة الديني حسب ما تراه السياسة السلطانية ولكنها اي السلطة لن تلغيه كليا لانها تظل محتاجة له في المستقبل خاصة ان كانت مصلحتها تتطلب انقضاضه على شرائح اخرى في المجتمع ربما هي اليوم تعيش احلى ايامها والمقصود هنا شريحة ما يسمى بالليبرالية السعودية الطفيلية.
اذ انها هي ايضا صنيعة السلطة او بعض الفاعلين في السلطة وقد اعطيت هذه الشريحة الضوء الأخضر لتنفش ريشها الذي يتطاير يمينا ويسارا وتصوب سهامها لمعضلة واحدة قد نذرت نفسها من اجل تفكيك سطوتها على المجتمع
. تنشغل الليبرالية السعودية اليوم بزلات هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وكأنها السبب الاول والرئيسي والمحرك الجوهري لمعضلات السعودية من البطالة النسائية الى العنف الى الارهاب مرورا بانقطاع الكهرباء وربما الرياح الخماسين
. لقد وجدت الليبرالية السعودية كبش الفداء وتجاوزت قدسية هذه المؤسسة مرحلة المراهقة وعبثية الشهوة ويعد هذا النوع اليوم من رموز التغيير الأدبي والاجتماعي وتقاس على صفحاته مدى التحضر والتطور للمجتمع السعودي.
ويعد هؤلاء الكتاب والروائيون من طيف المستشرقين المحليين الذين يشاطرون نظراءهم في الغرب الهوس الجنسي والرغبة في فضح المستور عند الآخر الذي آثر ان يحجب جسده وشهوته من الناظر المخترق لحرمة الانسان وجسده.
رفع النظام التابو عن مثل هذه المطبوعات والتي تعتبر ظاهرة انتجتها سياسة القمع وانتصار الاستبداد على الانسان
.لقد أصبح السعودي اليوم وخاصة الكاتب متخفياً خلف الجنس وما أدبيات المرحلة الحالية إلا رمزاً للهزيمة الجمعية لكثير من أطياف المجتمع الذين خصخصوا التمرد وحولوه إلى تمرد جسدي على قيود المجتمع وزنزانات النظام.
لقد تخفى السعودي من مواجهة القمع المستشري في الساحة العامة والحظر على العمل الجماعي السياسي ليكتب سيراً ذاتية تفوح منها رائحة الشهوة والجنس ويعتبر بذلك نفسه متحرراً من القيود وقافزاً على أسوار الهزيمة أمام نظام لا يزال يحرم عليه العمل الجمعي والتمرد على الظلم والاشمئزاز من الجور والتهميش
.الأدبيات الجنسية السعودية الجديدة تمثل تقوقع الروح البشرية واختفاءها خلف الشهوات لأنها لا تستطيع ان تتملص من الحجر على الفكر والعمل الجماعي.
انه الكبت السياسي وعملية السمع والطاعة للبشر المتسلطين والمستأثرين على الموارد والعباد والواسطة والمحسوبية الذي فجر الشهوات واعاد صياغة السيرة الذاتية المتمردة والتي لا تجد منفذاً لتمردها سوى الجنس والانغماس في تجارب تحت غطاء القمع وخنق المجتمع وكتم انفاسه
.لقد سقط تابو الجنس عن عمد وليس عن تطور طبيعي للمجتمع واسقاطه هو سياسة مركزية للنظام الذي يطمح إلى انغماس الفرد في متاهات جسده بدلاً من انخراطه في متاهات الساحة السياسية.
وقد أدى سقوط تابو الجنس إلى المعركة الحالية بين من يدعي الفضيلة ومن يعتبر مروجاً للرذيلة.
فدخل المجتمع في حقبة حرب أهلية غير معلنة بين طيفين طفيليين قد انتجتهما السلطة السياسية ذاتها. وهي اليوم تقف متفرجة على المعارك الطاحنة التي تدور في محلات ملابس النساء الداخلية واروقة المعارض والكرنفالات الفكرية حيث يشد البعض الرحال ليرابط على ثغور تمولها السلطة نفسها وبشنها حرباً على الآخر والذي هو أيضاً يحتمي بالسلطة ويعتاش على فتاتها.
لقد اسقطت القيادة السعودية محظور الدين والجنس ولكنها لا تزال تتمسك بالمحظور السياسي لأنها تعلم ان بسقوطه ستسقط هي من عليائها
بقلم: د. مضاوي الرشيد
كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
www.madawialrasheed.org*
نقلاً عن القدس العربي
No comments:
Post a Comment