يمكن وصف الروائي والقاص بهاء طاهر بأنه راهب الرواية المعاصرة. الذي ينقطع لعمله الروائي، بتجرد، وإخلاص، مراهنا علي محبة القارئ إيمانا بأن الإبداع فعل تنويري، ومعرفي، وإن كره الظلاميون.. يكتب بلا افتعال، ولا انفعال قابل للزوال.. يكتب بعشق، ورصانة وبقلق علي الوطن، والناس، والواقع، والمستقبل،..
فالكتابة لديه فعل مشوب بالقلق في إبداعاته. ونقف في صياغاته الروائية علي رصد للتحولات السياسية، والاجتماعية وتجلياتها علي علاقة المثقف بواقعه من جانب، وبالسلطة من جانب آخر، وأيضاً علي علاقتنا الملتبسة بالآخر، ويمكن القول إن الرواية لديه التزام، ورسالة، وفن ودور، ومراجعة للذات، والواقع، والضمير الجمعي.. الأهم أن بهاء طاهر واحد من أبرز المجددين في السرد العربي، وهو «ابن زمانه» ومكانه وخطابه وتاريخه، ورغم يقينه بمأزق النخبة، فإنه لم يفقد الثقة في الثقافة والإبداع كفعل تنويري، فالثقافة لديه مرادف للفعل والتغيير والحرية والوعي.
وكان قد تم إعلان فوز بهاء طاهر بجائزة بوكر «للرواية العربية»، أمس الأول الاثنين بروايته «واحة المغيب»، والمعروف أن هذه الجائزة قد تأسست في بريطانيا عام ١٩٦٨، لأدباء بريطانيا والدول الأسكندنافية وأيرلندا وقد تم تأسيس فرع عربي لها في الإمارات، لتشجيع الترجمة والإبداع العربي علي أن تقوم دور النشر بترشيح المتقدمين للجائزة وقد تقدم للجائزة في هذه الدورة ١٣١ عملاً من ١٨ دولة تم اختيار ستة عشر عملاً من سوريا ولبنان ومصر والأردن وفاز بهاء بالجائزة التي رأت في روايته «واحة المغيب»، عملاً روائياً نوعياً بالمعني الجمالي والقيمي وقد اعتمد المؤلف علي مجاز الرحلة التي ترصد الأزمة الروحية لإنسان مهزوم وتبلغ قيمة الجائزة خمسين ألف دولار، فيما حصل كل من المرشحين الستة علي عشرة آلاف دولار.
تدور أحداث الرواية الأحدث لبهاء طاهر «واحة المغيب» في نهايات القرن التاسع عشر في أعقاب فشل «هوجة عرابي» وكانت «واحة سيوة» هي مسرح أحداثها، حيث تم نقل محمود عبدالظاهر مأمورا للقسم هناك وهو ممتلئ بوهم بطولي لعبه في ثورة عرابي ولذلك فقد كان يري في نقله إلي سيوة عقابا علي هذا الدور البطولي، ويطرح العمل أسئلة تواجه الذات والواقع وتراجع القناعات السياسية والوجودية.
بهاء طاهر من مواليد ١٩٣٥ لأسرة صعيدية، لكنه لم يعش في الصعيد، ولذلك فهو لا يعتبر نفسه صعيديا خالصا فقد أمضي عاما واحدا في «الكتاب»، ثم التحق بالتعليم الإلزامي والتحق بعدها بالمدرسة السعيدية وحصل منها علي التوجيهية، ثم التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة وحصل علي ليسانس الآداب قسم التاريخ عام ١٩٥٦ وحصل بعدها علي دبلومة عليا في الدراسات الإعلامية، وعمل مخرجا ومعدا بالبرنامج الثقافي الذي كان من مؤسسيه عام ١٩٥٧ وشغل موقع نائب المدير حتي عام ١٩٧٥، إذ تم إيقافه عن العمل في عهد السادات وعمل في فرع الأمم المتحدة في جنيف في المدة من ١٩٨١ وحتي عام ١٩٩٥ وشغل موقعا في مجلس إدارة اتحاد الكتاب، ولكنه استقال منه، وأحدثت استقالته دويا كبيرا،
وهو عضو بالمجلس الأعلي للثقافة وحصل علي جائزة الدولة التقديرية عام ١٩٩٧ ومن أشهر أعماله «الخطوبة» و«بالأمس حلمت بك» و«أنا الملك جئت» و«خالتي صفية والدير» و«الحب في المنفي» و«نقطة النور» وحديثا «واحة المغيب»، كما كانت له بدايات مسرحية وترجمات كان من أشهرها «السيميائي» لباولو كويلهو والتي حملت عنوان «ساحر الصحراء»، فضلا عن كتاباته النقدية وكتابيه «في مديح الرواية» و«أبناء رفاعة».
* «واحة الغروب» هي التجربة الأولي لك التي تستلهم التاريخ؟
- هي تجربة جديدة علي مسيرتي، وهي تستلهم من التاريخ لأنني التزمت في كتابتها بالتاريخ حرفياً، عن حدث وقع في واحة سيوة عام ١٨٩٧، عن مأمور قسم الواحة واسمه «محمود عزمي»، وطوال أحداث الرواية أحاول أتلمس تحليلاً لهذه الشخصية الأساسية التي اسميتها «محمود عبدالظاهر»، بعد أن تم نقله للواحة بعد مشاركته في ثورة عرابي، وتأثير ذلك عليه وعلي زوجته الأجنبية، وكيف تطورت علاقته بالواحة وسكانها في ذلك الوقت، فهي رواية -كما قلت- جديدة بالنسبة لي، إذ لم أكتب رواية ذات طابع تاريخي في حياتي، خصوصاً أن كل جزء منها جاء مروياً علي لسان شخصية مختلفة، فضلاً عن محاولتي تلخيص الكثير من تجاربي التي عشتها في هذه الرواية، وكتابتها استغرقت مني أربع سنوات، والتاريخ فيها نقطة انطلاق، أما المتن فهو العمل الروائي نفسه والأفكار الحامل لها.
* كنت أول من قدم «باولو كويلهو» للقارئ العربي عبر ترجمتك «السيميائي» وما يلفت النظر وجود أوجه للشبه بين عمله «السيميائي» وعملك؟
ـ حين قرأت رواية كويلهو أعجبتني، وقلت في مقدمة الطبعة الثالثة للترجمة إن الأسئلة التي طرحتها في الطبعة الأولي مازالت مطروحة إلي الآن مثل لماذا أحدثت هذه الرواية ضجة، وكيف لاقت إقبالا مماثلا بين أكثر من بلد مثل إيران واليابان والهند وفرنسا ومصر، ولماذا لاقت نفس الاهتمام من هذه الثقافات المختلفة، بالرغم من اختلافها، فهي في الحقيقة رواية جيدة، لكنها ليست عظيمة ولا يمكن وضعها في نفس مصاف الروايات العالمية الخالدة مثل أعمال «ديكنز» أو «ديستويفسكي»، ولا أخفيك القول إنني لم أقف علي إجابة واضحة لهذا السؤال وربما غموض السبب هو سر هذا الرواج.
* لكن يدهشنا وجود أوجه للشبه بين هذه الرواية وبين «أنا الملك جئت»؟
ـ هذا أمر غريب أيضا، الروايتان تدوران حول فكرة البحث، لكن الفارق بينهما أن بطل روايته قادم من الغرب للشرق، وبطل روايتي ذاهب من الشرق للغرب، وأتفق معك بشأن وجود أوجه للشبه غريبة جداً وصلت إلي حد تشابه العبارات، ولكنني نشرت روايتي قبله بثلاث سنوات، وهذا أمر محير.
* ربما قرأ روايتك قبل أن يكتب؟
ـ هذا أمر مستبعد فلم تكن روايتي قد ترجمت بعد لأي لغة، لكن هذه الظاهرة نجدها في الأدب العربي، حيث الحافر علي الحافر، إذ تجد كاتبين يكتبان حول نفس الفكرة دون اتفاق.
* إلي أي حد أثرت النشأة الصعيدية فيما تناولته في «خالتي صفية والدير» ألم يكن البيت في هذه الرواية هو بيت العائلة؟
ـ أنا عمري ما عشت في الصعيد، إنما البيت هو بيت شقيقتي الكبري رحمة الله عليها، إذ كنت أداوم علي زيارتها في الإجازات الصيفية، والحديقة التي اشتراها والدي كانت تقع إلي جوار هذا البيت، وذكريات الطفولة في هذه القرية حاضرة في مخيلتي بكل وضوح، وأثناء كتابتي هذه الرواية كنت أفاجأ بأشياء غريبة جدا بما في ذلك بعض التعبيرات والمصطلحات الصعيدية، رغم أنني كتبتها وأنا في سويسرا، وفوجئت بهذه التعبيرات تقفز إلي الذاكرة بعد أربعين عاما، فهناك أشياء من الطفولة تظل محفورة بداخلك، وأنا مندهش جدا حينما أجد بعض النقاد يربطون بين بعض أعمالي، ونشأتي الصعيدية، رغم أنني لم أعش في الصعيد نهائيا.
* تلقيت تعليمك في المدرسة السعيدية التي تخرج فيها الكثير من المشاهير في كل المجالات، هل يمكن القول أن بذور الوعي السياسي تشكلت في هذه الفترة؟ وما الذي تعلمته في السعيدية؟ خصوصاً إن تلك الفترة شهدت غلياناً سياسياً في مصر؟
ـ تعلمت فيها كل شيء، وأنت تعيدني إلي سيرة والدي رحمة الله عليه، فقد كان عضواً في التنظيم السري لثورة ١٩١٩م، وعندما ألغي هذا التنظيم غضب والدي جدا من حزب الوفد، وكانت ميولي وفدية لكنني لم أكن أجرؤ علي أن أصرح بهذا أمامه.
* بمناسبة قمع المظاهرات وضرب المتظاهرين ما الفارق بين أساليب مواجهة النظام للمظاهرات قديماً وحديثاً؟
- ما كنا نتعرض له قديماً «مايجيش حاجة» بالمقارنة لما يحدث الآن، فقديماً كانت بلوكات النظام تحاصر المظاهرة، وهم مجموعة من الجنود الغلابة ومعهم شوم ودروع، وربما تتعرض للشومة أو لا تتعرض، أما الآن فهم يواجهون المظاهرات بالكاراتيه، وأفراد مندسين وسط المتظاهرين، كنا نشعر بطمأنينة في ظل حكومات الوفد، وحينما قامت الثورة، لم تكن هذه الروح سائدة، وأذكر أن أول مظاهرة خرجنا فيها كانت تهتف «يسقط حكم البكباشية» وكنا في السنة الجامعية الأولي وبدلاً من بلوكات النظام في مواجهة الطلبة، جاء البوليس الحربي وأذكر أننا اعتصمنا ذات مرة في القاعة الكبري لجامعة القاهرة عام ٥٣ أو ٥٤ فحوصرنا وتلقينا تهديدات عنيفة.
* معني هذا أن الناس لم يكونوا متحمسين للثورة في بداية عهدها؟
- بالنسبة لي شخصياً بدأ الحماس للثورة مع تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي، لم أكن أطيق أحداً يهاجم عبد الناصر في تلك الفترة، لكننا عدنا لانتقاده بعد العدوان، حيث كانت هناك ممارسات للثورة تدعو للانتقاد مثل المحاكمات العسكرية والممارسات الأمنية.
* منذ متي بالضبط وصف بهاء طاهر بأنه ناصري؟
- بعد وفاة عبد الناصر، لم أكن منضماً لأي من تنظيمات الثورة الاشتراكية، حتي إن بتوع التنظيم الطليعي كانوا يكتبون في التقارير.
* وكيف عرفت هذا؟
- اطلعني أحد الموظفين الإداريين في الإذاعة في ذلك الوقت، علي تقرير مكتوب ضدي.
* من كتبه؟
- لم يرني اسم كاتب التقرير.
* وكيف كان تأثير هذه التقارير علي موقفك الوظيفي في البرنامج الثقافي؟
- جاء شخص من جهاز أمني يحقق مع البرنامج الثقافي كله وليس معي فقط، وقال: إنه تلقي شكاوي ضدنا ولم يقل لنا من هم أصحاب هذه الشكاوي.
* قلت إنك أصبحت ناصرياً بعد وفاة عبد الناصر فهل لأنك قمت بمراجعة أفكارك المتعلقة بعهد عبد الناصر، وبعدها قدمت كشف حساب لعهده؟
- هذا صحيح فضلاً عن أنني أحسست أكثر بعبد الناصر حينما مررت بتجربة أخري، وهي عهد السادات، ورغم جو الخوف في العهد الناصري الذي عبرت عنه في قصة «شتاء الخوف»، لكن مع التقدم في السن والخبرة وتأمل تجارب أخري ومع القراءة المستفيضة، أصبحت لا أحكم علي زعيم سياسي من خلال عمل واحد قام به، وإنما بمجمل مواقف وأفعال، وعبد الناصر له الكثير من الايجابيات التي لايمكن انكارها، فهو الذي أنجز الإصلاح الزراعي، وهو الذي أخرج الإنجليز من مصر وهو الذي أسس القطاع العام وأيضاً السد العالي، وهذه انجازات لا يمكن إنكارها وكانت موضع حماس وترحيب منا جميعا، ولكن أيضاً كانت هناك اعتقالات غير مبررة، هذا غير الطامة الكبري المتمثلة في نكسة ١٩٦٧م.
* هل زعزعت النكسة إيمانك بعبد الناصر، وهل مثلت إجهاضاً للحلم الثوري بالنسبة للمثقفين والنخبة، ألم تحدث هزة وخللاً بداخلك؟
- احدثت هزة وخللاً نعم، لكنها لم تزعزع إيماننا بالحلم الثوري أو بعبد الناصر، بل كان الشعور العام أن البلد وقع ولابد أن يقف مرة أخري، فكان كل واحد يقوم بما يستطيع القيام به، ولم نفقد الأمل في البلد ولا في الثورة ولا في عبد الناصر، فلم يكن رد الفعل هو رفض عبد الناصر أو مرحلته، بل دفعتنا الهزيمة إلي الالتفاف حوله علي نحو أكثر مما سبق، وكأنما كان عبد الناصر ممثلاً ورمزاً لراية مصر، التي لا يمكن أن تسقط أو تنكس، حتي وإن لم ننس الأخطاء والخطايا، فلقد شعرت بأن كارثة حطت علي مصر ويتعين علينا إخراجها منها أولاً ثم «نتحاسب»، وحتي عبدالناصر نفسه كان يعلم ذلك وكانت لديه نفس القناعة.
* هل معني هذا أنك خرجت في المظاهرات التي طالبت عبد الناصر بعدم التنحي والبقاء في موقعه؟
- نعم.. وسأحكي لك قصة هذا اليوم المشهود، فقد كنت أسكن في وسط البلد في شارع سليمان، وكان معي راديو «ترانزستور»، وسمعته وهو يلقي بيانه الذي أعلن فيه تنحيه، فإذ بي أصرخ قائلاً «لا» ونزلت سلم العمارة بسرعة.. فإذا بي أجد العمارة كلها تفعل مثلما أفعل، وظللنا نمشي حتي باب الحديد، ووجدنا هناك «أمة لا إله إلا اللّه» ولم استطع استكمال المظاهرة، ولم تكن المسألة متعلقة بشخص عبد الناصر بقدر ما كانت متعلقة بالبلد الذي حطت عليه الكارثة، لكن عبد الناصر كان قد مات قبل الحساب، ومع ذلك لم نفقد إيماننا بالمنطلقات السياسية، بمكتسبات وتطلعات الثورة،وما حرصت علي تحقيقه من اقتصاد وطني وعدالة اجتماعية، وحق الفقراء في نصيب من ثروات البلد والتعليم المجاني لغير القادرين، فضلاً عن مقاومة الاستعمار ودعم حركات التحرر العربية، ولا أظن أنني فيما بقي لي من عمر سأفقد إيماني بهذه المعتقدات أو أتشكك أو أشكك فيها.
* هذه كانت ملامح إيجابية كثيرة تميزت بها الفترة الناصرية، وأنت قلت إنه عهد لم يكن خالياً تماماً من السلبيات، فماذا إذا قارنا هذه السلبيات بسلبيات العصر الحالي، أعني عصر مبارك، وكيف كنت تقيم العصر الذي نعيشه؟
ـ قيمته مائة مرة فيما كتبته من مقالات
* فلتذكر بعضاً منه؟
ـ أهم ملامح هذا العهد أننا فقدنا استقلالنا الوطني، وغرقنا في قضية التبعية، وتآكلت فكرة العدالة الاجتماعية وذابت، وأصبح هناك استقطاب من قلة تملك كل شيء، وأغلبية لا تملك أي شيء، ومجانية التعليم أصبحت وهماً، واستشري الفقر، وغابت فكرة التقرب بين الطبقات، فلم يعد هناك وجه للمقارنة بين عهد الثورة في نقائه الأول والعهد الذي نعيش فيه، وإذا زعم أحد أنه كان هناك «تكويش» من قبل بعض الضباط في عهد الثورة، فلا وجه للمقارنة مع ما يحدث الآن من فساد مستشر، وهذه الدرجة «من التغول» جعلتنا غير قادرين علي تصنيف النظام الحالي، إذا كان رأسمالياً أو اشتراكياً فهو نظام حكم الأثرياء.
* لكن هناك حرية بالمقارنة بما سبق، فلم يكن بإمكان أحد أن يهتف ضد حاكم ويقول له «كفاية» أو «يسقط» فلان أو تصل الصحافة إلي سقف غير مسبوق من حرية نقد النظام ذاته؟
- هي حرية «النباح»، وحتي هذه الحرية يواجهونها بـ«الكاراتيه» و«الكلاب البوليسية»، وكل هذه الحرية والهتاف «الضد» لا أهمية له عند النظام، بل يصب في مصلحة النظام، وعد إلي سؤالك وتأمله، إذ إنك وصفت هذا العهد بأنه عهد حرية، وهذا منتهي الخطورة، وأذكر مقولة لإسماعيل المهدوي، كتبها ذات يوم في «الأهال» إذ قال إن حرية الكلام بدون حرية فعل ستصيب الناس بالإحباط، حتي إنه سيكون ظاهرة عامة، يصاب شعب بأكمله بالإحباط.. النظام يقول: «اشتم زي ما انت عاوز»..
لكن حينما يخرج نحو عشرين شخصاً في مظاهرة لحركة كفاية في ميدان سليمان باشا تجدهم محاصرين بعشر سيارات أمن مركزي علي الأقل.. وهذا أخطر بكثير من حظر القول والفعل معاً، سأعدد جملة من الأمور، منها انهيار التعليم، واستشراء الفساد، واتجاه البلد للتوريث، والتبعية السياسية وغياب البحث العلمي، والتخطيط المستقبلي بعيد المهدي، وانهيار البنية الأساسية وتردي العلاج واستشراء الأمراض، والتخبط الاقتصادي، وغياب الرقابة، وانهيار الثقافة، وغياب دور مصر الريادي والمحوري، والحكم البوليسي، وغيره من التفاصيل الأخري التي لا نعرف أين ستؤدي بنا
.
* وأين النخبة من هذا، وأين دورهم التاريخي في التواصل مع الناس وتوعيتهم وقيادتهم باعتبار النخبة ممثلي الضمير الجماعي الوطني؟
- لا يستطيع المثقفون عمل شيء.. هم يرشدون إلي الطريق فقط، وأعتقد أن المثقفين يقومون بأدوارهم، واقرأ صحف المعارضة واقرأ مثلاً مقالات فهمي هويدي في صحيفة قومية.. وأنا شديد الإيمان بالشعب المصري، ودراساتي في التاريخ تقول إنه لا يمكن التكهن بردود فعل الشعب، وحين تبدو لك الأمور علي ما يرام، وأن الأمن مستتب يقوم الشعب المصري «بقومة» مفاجئة وعارمة، وارجع لثورة ١٩١٩، التي لم تسبقها أي إرهاصات واضحة، نحن شعب عاش ستة آلاف عام من المحن المتتالية لكنه تجاوزها.
* حينما كنت تعمل في الإذاعة ترجمت نصوصاً مسرحية، وأخرجت نصوصاً أخري، كما كتبت ثلاث مسرحيات قصيرة، وكان المسرح علي هذا هو الأسبق في مسيرتك الكتابية قبل القصة القصيرة والرواية، فلماذا لم تواصل العطاء في مجال المسرح؟
- كل ما كتبته هو مسرحيتان قصيرتان وغيرهما لم ينشر، لكن لماذا لم أستمر في كتابة المسرح؟ لم أفكر في هذا الأمر، كل ما أعرفه وأذكره أنني اتجهت لكتابة القصة القصيرة بفضل الزخم الذي حققه العظيم يوسف إدريس، وكانت القصة القصيرة آنذاك هي الفن الذي التقط ذبذبة العصر وكانت الأكثر تعبيراً. وكان يوسف إدريس قد حقق هيبة ومكانة للقصة القصيرة، وبسبب هذا اتجه معظم أبناء جيلي، وربما الأجيال التالية علي جيلنا، إلي كتابة القصة القصيرة، ذلك الجنس الأدبي الذي حقق له يوسف إدريس جاذبية كبيرة. وكانت القصص التي نكتبها تلقي صدي.
وأذكر مثلاً أن أول قصة نشرتها، كتب لها يوسف إدريس المقدمة في مجلة «الكاتب»، وكان يصدرها أحمد عباس صالح، وعلق عليها أكثر من شخص، من بينهم شخص لم ألتقه في حياتي اسمه «عاشور عليش»، إذ وصفها بأنها قصة جديدة، وحينما قرأتها في ندوة في الجمعية الأدبية المصرية، حضر عدد كبير من الناس مثل الناقد الكبير عبدالقادر القط، فكانت كل هذه «الدوشة» وهذا الاحتفاء لصدور قصة قصيرة، وقديماً كان هناك مناخ ثقافي شديد الخصوبة، الآن ممكن أن تصدر رواية ولا يكتب أحد عنها حرفاً.
* وأين يكمن الخلل في تصورك فيما يحدث الآن.. هل نعيش إحباطاً عاماً؟
- نعم.. جو الفساد في المنظومتين الإعلامية والثقافية معاً، اختلت فيه القيم وانقلبت المعايير، وأصبح أي «حد بيفك الخط» هو كاتب كبير، لقد انقلب سلم القيم رأساً علي عقب تماماً، مثلما انقلب في الاقتصاد والمجتمع والتعليم.. لقد انقلب الحال في كل شيء، ولم يعد من المأمول أن ينصلح حال الثقافة، إلا إذا انصلح حال المجتمع.
* بعد فترة انتعاش وإغواء القصة القصيرة جاء الانتعاش الروائي، فهل يمكن تفسير هذا وفقاً للمقولة النقدية للدكتور جابر عصفور بأن «هذا زمن الرواية لأنها استطاعت التقاط ذبذبة العصر، وأنها الفن الأقدر علي التعبير عن الكتل البشرية المتحركة التي لا يربط بينها رابط إنساني»؟
- قرأت هذا الكتاب للدكتور جابر، وهو الذي يحمل عنوان «زمن الرواية»، بل شاركت في مناقشته، وفي تصوري أن هناك جانباً غير صحيح وآخر صحيحاً، أما الجانب الصحيح فإن هناك إقبالاً كبيراً علي كتابة الرواية، حتي إنها شكلت إغواء لبعض الشعراء الشباب، ولكن الجانب غير الصحيح أنه لا يمكن للفن الروائي بمفرده أن يعبر عن عصر ما، حيث لا يمكن أن ينفرد فن بالطاقة التعبيرية عن عصر من العصور، فلابد أن يكون هناك حضور مماثل للمسرح والشعر والنقد، ولذلك أنا أتوقع أنه إذا لم ينصلح حال المجتمع، فسيصيب الرواية ما أصاب غيرها.
* نعم هناك زخم روائي، لكن ما الرواية أو الروايات الفارقة التي تميز بها عصرنا الحالي، وهل عدم شعورنا بوجود مثل هذه الروايات يعود لخلل نقدي أيضاً؟
- هناك روايات عظيمة جداً وروائيون كبار بالفعل، ولكن لم يعد هناك تلك النزاهة والمناخ الثقافي العام، الذي تواجد منذ الرافعي وحتي منتصف الستينيات. أما عن حركة النقد فهي مظلومة أيضاً، فلدينا نقاد ممتازون، لكن أين المنابر التي يمكنها استيعاب كتاباتهم، والإجابة: لا توجد منابر.
هذا جانب، أما عن الجانب الآخر فهل يتم منح الناقد الحيز الذي يتيح له أن يعبر عن رأيه، بصرف النظر عن مواقفه السياسية، وعلاقاته الاجتماعية بالمسؤولين عن الثقافة، لو كان هذا موجوداً سينصلح الخلل الموجود، فهناك من همش النقاد الحقيقيين، وأخرج نقاداً زائفين، وهمش الأدب الحقيقي في مقابل إبراز الأدب الموالي للسلطة، فهناك خلل عام.
* في منتصف السبعينيات أوقفت عن العمل في الإذاعة، وسافرت للعمل في الأمم المتحدة بـ«جنيف» وبعد زوال عهد المنع لماذا لم تعد لعملك في الإذاعة مرة أخري؟
- سأحكي لك حكاية ربما أحكيها للمرة الأولي، وهي أنني أثناء عملي في الأمم المتحدة كنت أعود للقاهرة في الإجازات، وألتقي أصدقائي في الإذاعة، فالتقيت فهمي عمر وكان آنذاك رئيساً للإذاعة، فقال لي: ألا تفكر في العودة للإذاعة؟ فرحت بالاقتراح، فإذا به يقول لي: أنا سألت خمسة أجهزة أمنية، إذا كان لها اعتراضات علي عودتك للعمل في الإذاعة فنفت، ولم يكن هناك اعتراض أمني علي هذا، فقلت له إنني سأقدم استقالتي في الأمم المتحدة لأعود للعمل في الإذاعة لكن يلزمني أن أخطر الأمم المتحدة قبل استقالتي بستة أشهر وفق المعمول به، فقال لي: «قوي قوي.. أنا حجزت لك موقع في الإذاعة».. وعند انتهاء إجازتي ذهبت لأودعه قبل السفر لجنيف فإذا به يقول لي: يا أخي إنت مش محتاج تعمل قرشين لولادك..
فاندهشت وسألته ما الذي استجد في الأمر؟ فقال لي: سأقول لك حينما أخرج علي المعاش، وبعد مرور الوقت أحيل فهمي عمر للمعاش، وقابلني في معرض الكتاب، فقلت له: يمكنك الآن أن تقول لي ما لم يمكنك قوله من قبل، فقال: هناك شخصية مهمة في الإعلام قال له: ده بيعمل إيه هناك.. يقعد في بيته ويقبض مرتبه.. ومايجيش الإذاعة، ففهمت أن المسألة أكبر من أن تكون مسألة أمن، ولن أقول لك من تكون هذه الشخصية، لكن ما أذكره أن سياسة التجويع هذه كانت متبعة آنذاك، وقد نجحوا في هذا مع كثيرين.. لكن أنا بقي صعيدي ومخي قفل.
* وما قصة إيقافك عن العمل في الإذاعة؟
- خطاب لنقل نائب مدير البرنامج الثاني - والذي هو أنا- رئيساً لمراقبة البرامج الأوروبية، في حين لا توجد وظيفة بهذا الاسم أساساً وهذا معناه «اقعد في بيتكم» وليس هذا فحسب، فقد كان نصف دخل كل موظف هو ما يكتبه للإذاعة، وهو الأمر الذي جعل من قرار النقل كارثة كبري، بالإضافة إلي منعي من الكتابة للخارج.
كتب ماهر حسن ١٢/٣/٢٠٠٨
المصرى اليوم