الحلم أولا
نوستالجيا
هيمن على الميدان حالة لا يمكن أن يصفها حتى أقلنا التزاما إلا بأوصاف قدسية أو صوفية، عبقرية الفعل العفوى الجماعى جعلت القدر يستجيب. كيف تمكنا من اختراع آليات لاتخاذ القرار من لا شىء؟ كيف دافعنا عن أنفسنا يوم الجمل؟ من أول من بدأ بقرع الأسوار الحديدة لبث الرهبة فى نفوس أعدائنا؟ اكتشفنا قداسة فينا عندما وقفنا معا وكانت يد الله مع الجماعة.
هل ألهم القدر بوعزيزى إذن؟ هل كان يعرف أنه باستشهاده يشعل ثورة تعبر الحدود؟ أكيد كان يعرف.. لم أختر الانتحار بأكثر الوسائل ألما إن لم يكن لغرض ثورى؟ الانتحار ملاذ من تسلب إرادته، أما بوعزيزى فقد اختار أن يؤكد على إرادته، اختار أن يستشهد قبل أن يطلق أعداء الثورة الرصاص، فقد عرف أن الثورة تحتاج لبحار من دماء الشهداء، اختار أن يستشهد حتى تبدأ الثورة وقد دفعت أغلى ثمن فلا تقدر الجماهير على اختيار التراجع.
ما بين سقوط مخلوع تونس واندلاع ثورتنا فى مصر بضعة أيام، هل تذكرون شهداء تلك الأيام؟ نسيت أساميهم وصورهم فى خضم الأحداث التى تلت لكن ما نسيت بوعزيزيو مصر والشهادة تختارهم فيقطعوا الشك باليقين: مصر مثل تونس، مصر هى تونس، وإياكم وأى مطلب أقل من إسقاط النظام، إياكم الآن وأى تضحية أقل من الشهادة.
ولأن يد الله مع الجماعة يغيب عنا كل ما سيحدث فى الحياة الأخرى إلا مصير الشهداء، لدينا يقين أنهم شهداء، هم فى قلوبنا وعقولنا شهداء، ولن تكون رحمتنا أوسع أبدا من رحمة الله.
رمزية
الاستشهاد على طريقة بوعزيزى فعل استعراضى ورمزى. استعرضت الشرطية سلطتها بصفعه، وكان بإمكانه أن يحاول الانتقام إن كان قد تخلى عن رغبته فى الحياة، ولكنه رغب الحياة بشدة فاختار أن يذكرنا بقيمتها. كان عليه أن يقف فى طريق عام، كان عليه أن يتوهج لنتذكر أن الحياة بلا كرامة ليست حياة.
استعراض السلطة يواجهه استعراض ثورى. وعينا الدرس وكان الميدان مسرحا، مبهرا، ألوانا، موسيقى، أنتجنا وأخرجنا وشاركنا فى أكبر استعراض فى التاريخ، وتابعتنا جماهير العالم أجمع. حاولت السلطة مواجهة استعراضنا باستعراضها، لذا هاجمتنا بالجمال. لكن فاتها أننا آمنا بعرضنا المسرحى، وصدقنا رمزيتنا ولذا كنا على استعداد لدفع ثمن تحويل الرمز لحقيقة. أما السلطة فأى ثمن تدفع؟
وقف شباب أغلبهم تحت العشرين وحدهم بصدر عار فى مواجهة الرصاص أمام سفارة الصهاينة، هل ظنوا أنهم سيحرروا الأرض بفعلهم؟ لا.. بل كان استعراضا، حتى المطلب كان رمزيا: انزلوا العلم. لكنهم مثل بوعزيزى أدركوا ما لم ندرك، أن الثورة صراع على أفكار. جاءوا لينتصروا لفكرة أن السلطة للشعب، ولا تقرر أى قوة داخلية أو خارجية لنا، لا السياسات ولا الأولويات، حتى سياستنا الخارجية، حتى علاقاتنا بالقوى العظمى، وبالتأكيد علاقاتنا بأشقائنا.
الفكرة مزعجة جدا للسلطة، أى سلطة، حتى الانتقالية «الشريفة»، حتى المنتخبة القادمة (ولهذا غابت عن هذا المشهد كل القوى المرشحة وذلك للنيل منها)، العيال ستُملى علينا كيف ندير البلاد؟! ليسوا ثوارا إذن وإنما هم شباب متطرف مختل لا يفقه الأولويات. هكذا اتفقت السلطة والنخبة: استعرضت السلطة قوتها بلا رمزية وإنما بمباشرة فجة، وظنت أن سقوط الشباب برصاصها انتصار لها، أما النخبة فتجاهلت رمزية أن يوجه رصاص حماة حدودنا إلى صدورنا حماية لعلم الأعداء.
نسوا أن الواقع يتغير فى العقول أولا. حتى عندما تحاول السلطة الاستعراض لا تقدر على دفع الثمن، فالسيد اللواء لم يجد مفر من الاعتذار الأبوى عندما واجهته فتاة بحقيقة تعذيبها على يد جنوده. ربما كان يمكن له أن يجعل من استعراض أبوته واعتذاره واقع لو أنه آمن به وتحمل ثمنه، لكنه هاج وماج عندما خرج الاستعراض من جدران مكتبه لصفحات الجرائد. السلطة لا تدفع ثمن تحويل الاستعراض لواقع.
سرد
هل كان الميدان حقا مدينة فاضلة «ولا فى الأحلام» ذابت فيها فوارق الجنس والدين والثروة؟ أم أننا حلمنا به هكذا فصار الحلم واقعا لأننا آمننا؟
الميدان كان استعراضا كبيرا، والفعل الثورى من بوعزيزى للسفارة مشبع بالرمزية، لكن الاستعراض والرمز مجرد جزء من الثورة. الاستعراض يحتاج لجمهور، والجمهور فى عصرنا هذا يعتمد على كاميرات وفضائيات. بعيدا عن الكاميرات مجال الاستعراض محدود أكثر، وفرص الرمزية أقل.
بعيدا عن الكاميرات الصراع لم يكن استعراضيا. بعيدا عن الكاميرات خاض أهالينا حربا مع شرطة مبارك، حرب سقط فيها الشهداء بالمئات إن لم يكن الآلاف وانتصرت فيها الثورة برد العنف أحيانا، وأتمت انتصارها بحرق قلاع الداخلية.
تغيب عنا الآخرة لكننا نعرف مصير الشهداء، ولكن أغلب شهدائنا فقراء. أسوأ ما فى الفقر ليس الحاجة وإنما الإحساس بانعدام الإرادة، فمصيرى ليس بيدى. ألهمت الثورة فقراءنا وأقنعتهم أن مصائرهم بيدهم.
الثورة حتى فى أقل تجلياتها رمزية تظل صراعا على الأفكار. وكما أمام السفارة، الفكرة مزعجة جدا للسلطة، أى سلطة، فحتى فى الديمقراطيات نرى الفقراء منزوعى الإرادة.
ليسوا شهداء إذن، ما هم إلا بلطجية. والشرطة؟ صحيح من قتلوا الفنانين والمهندسين سفاحون، لكن فى الأحياء الشعبية أبطال بواسل، فى أمن الدولة سلخانات، لكن فى الأقسام رموز لهيبة الدولة طبعا. هيبة الدولة هى ما تَفرض على من لم ير ثمار الانصياع لقواعد الدولة ومن لن يرى فرصة فى تحديد مصير الدولة الالتزام بتلك القواعد (مع أنهم لن يروا منه خيرا) وتقبل ذلك المصير (مع أنهم لم يشاركوا فى صياغته). كيف يمكن لنا أن نسمح بسرد لقصة الثورة يهدد تلك الهيبة؟
قتلت الداخلية الشهداء مرتين، مرة على يد العادلى عندما أطلقوا الرصاص، ومرة على يد العيسوى عندما استكثر عليهم الشهادة. مرة بلا كاميرات، ومرة علنا على الهواء مباشرة.
خطاب
ربما لا يعرف من لا نصفهم بالمثقفين ما تعنيه كلمات مثل سرد ورمز وخطاب، لكنها تؤثر فيهم. الشعب أعلم مما يظن الكثيرون، الشعب يعرف أن التحرير لم يكن إلا استعراضا، يعرف أن الثورة انتصرت فى الحوارى والأزقة وفى المصانع، يفهم أن الاستعراض مهم لصراع الأفكار ويفهم أن الميدان يسقط لو سقط الحلم، الميدان أسطورة تخلق واقع طالما آمننا به، ولو أصررنا على تجاهل من ينكر على أهل إمبابة والمطرية الشهادة سيتخلى أهل المطرية وإمبابة عن حلم الميدان، وبدون الحلم أين نكون؟
تغيب عنا الآخرة لكننا نعلم علم اليقين مصير الشهداء، هل نتصور فعلا أن رحمة الله تعرف الطبقية؟ ألا يكفينا ذنب أننا عشنا ولم ننل الشهادة؟ هل نقدر على تحمل ذنب السكوت عن إنكارها؟ هل سنبيع دماء الشهداء مقابل نهاية انفلات أمنى مزعوم وعودة عجلة إنتاج ظالمة للدوران؟
لا يبحث أهل الشهداء عن العدالة فالعدالة لن تحى شهيد، يبحثون عن حلم يعطى معنى للتضحية، يبحثون عن نهاية سعيدة لحدوتة تشمل فاجعتهم. بعبقريتنا هتفنا «افرحى يا أم الشهيد كلنا خالد سعيد»، وأعطيناها النهاية السعيدة فى أول فصل من الحدوتة. ألا يحق لأم محمد عبدالحميد شهيد الزاوية الحمراء وأم مينا ملاك شهيد الطوابق أن تفرحا؟ العدالة مسرحية استعراضية، لن تصير واقعا إلا لو آمنا بها. العدالة فرصتنا، لو تمسكنا بها ربما تفرح أم الشهيد ولو فرحت ربما يُغفر ذنب شهادتنا التى لم ننلها.
والنخب؟ مشغولة بصراع على الأفكار أيضا، لكن بنفس درجة المباشرة والفجاجة التى يتمتع بها خطاب السلطة، بلا إبداع، بلا رمزية: مدنية أم دينية، دستور أولا أم برلمان أولا.. الخ. والمذهل أن بين كل سطر وسطر نذكر الشهداء. صاروا أرقاما وإحصاءات، بل وصلت الصفاقة بفصيل سياسى أن يدعى أن نسبة كذا منهم تنتمى إليه. هل كلفوا خاطرهم الدفاع عنهم؟ فأهاليهم تحكى حدوتة بطولتهم، والسلطة تحكى حدوتة بلطجتهم، والحق بيّن ولكننا لم نعتد أن نراه.. بعيدا عن الكاميرات.
اختار الشهداء محاربة النظام رغم إدراكهم أن اختزال مشكلتهم فى النظام أسطورة، لكنها أسطورة طعمت بالإيمان والتضحية، رهان على أن الواقع يمكن أن يتغير. لكنهم ليسوا أغبياء، مثلما أدرك شباب السفارة أن الديمقراطية وحدها لا تواجه ظلم الإمبريالية، يدرك الكادحون بالفطرة أن الديمقراطية وحدها لم ترفع فقرا أبدا، والمحاكم وحدها لم ترس عدالة للكادحين أبدا، ولنا فى تظاهرات عمال ويسكونسن وتلامذة مدارس إنجلترا عبرة.
ماذا بعد النظام؟ ليس لنا إلا الحلم. اخترنا الإيمان بحلم أن وحدتنا هى الحل وأن ثورتنا ستستمر، فما معنى إذن أن تحاضرنا نخبتنا عن مدى وضوح خارطة الطريق؟ هل يملك أحد على هذه الأرض خارطة طريق واضحة لإرساء العدالة؟ لجعل الحلم واقعا؟ لماذا لم تنفذ بعد إذن؟ إن كانوا جربوها من قبل وجاءت أقل مما طمحوا إليه، إن كنا دفعنا الثمن غاليا جدا من قبل أن نبدأ أصلا، لماذا لا نترك للحلم العنان، ننتصر معا لشهداء الميدان والحارة والسفارة، نستكمل معارك الاستعراض والرمز والسرد لآخرها. يعنى.. نكمل حدوتة الثورة ربما نجد نهاية سعيدة.
والاختيار لنا، ففى معارك الأفكار من يملك التأثير على وسائل الإعلام أقوى. كيف نحكى قصة ثورتنا؟ هل هى ثورة شباب الإنترنت الشريف الناصع الطاهر أم هى ثورة الشعب كله؟ هل هى زرع شيطانى ظهر فجأة فى يناير 2011 أم أن لها جذورا فى التضامن مع انتفاضة شعبنا فى فلسطين وأولى براعمها ظهرت فى المحلة فى أبريل 2008؟
الميدان أسطورة لو توقف أهل الشهداء عن الإيمان بها لسقطت. بديل النظام حلم لو تركناه لسجالات واقعية عقلانية ملتزمة بترتيب مضبوط للأولويات انقشع.
لو سقطت الأسطورة وانقشع الحلم انفضت الجماعة، وإن انفضت الجماعة لن يستجيب القدر، فما نعرفه عن يد الله أنها مع الجماعة.
تخلوا عن الخبراء واسمعوا الشعراء فنحن فى ثورة. دعوا العقل وتمسكوا بالحلم فنحن فى ثورة. احذروا الحذر واحتضنوا المجهول فنحن فى ثورة. احتفلوا بالشهداء، ففى وسط الأفكار والرموز والقصص والاستعراضات والأحلام لا شىء حقيقى إلا دمهم ولا شىء مضمونا إلا خلودهم
بقلم:
علاء عبد الفتاح - الشروق