من يدوس النعمة؟
أتت اللحظة بعد أربعين يوما من الحبس الكامل فى الزنزانات المعتمة فى ذروة شتاء عام 72 قاسى البرودة، فباستثناء بضع دقائق كانوا يسمحون لنا فيها كل صباح بالذهاب إلى دورة المياه فرادى وتحت الحراسة، لم نكن نرى الشمس، ولم نكن نعرف بعضنا بعضا نحن المعتقلين الثمانية والأربعين إلا كأصوات، من خلال تبادلنا الأحاديث والنداءات عبر قضبان النوافذ، ومن ثقوب المراقبة فى الأبواب المصفحة الثقيلة. وكانوا قد انتزعونا فى وقت واحد قبل الفجر، من بيوتنا المنتشرة على مساحة البلاد كلها تقريبا، من أسوان إلى الإسكندرية، ومن مدن القنال حتى مرسى مطروح. وها هى اللحظة الموعودة تجىء.
قرروا أن يفتحوا لنا أبواب الزنزانات جميعها، لنقضى معا ساعة فى ردهة العنبر العلوى المفتوحة على السماء فى معتقل القلعة، «طابور شمس» كما تدعوه مصطلحات السجون. ولم نطق الانتظار فى مهاجعنا داخل الزنزانات، ولا حتى القعود على عتبات النوافذ المحفورة فى الجدران السميكة والمصفحة بالقضبان المتقاطعة، فوقفنا جميعا وراء الأبواب غير مصدقين أن إدارة المعتقل قد رضخت لمطالبنا أخيرا بعد إضراب ممتد عن الطعام وإعلان التمرد بالخبط المستمر على الأبواب بصحون «الجراية»، فكنا وراء الأبواب متأهبين وكأننا لانريد إهدار ثانية واحدة إن حانت اللحظة المرتقبة للفتح ونحن بعيدون عن الأبواب ولو بخطوة.
سمعنا صوت المفاتيح تدور فى كوالين الزنزانات الأولى ناحية مدخل العنبر وكان يتبعها صوت الترابيس تُرفَع وصريف الأبواب تنفتح، ثم تعالى الصخب، وتتابعت أصوات دوران المفاتيح ورفع الترابيس وانفتاح الأبواب، ووجدنا أنفسنا وقد انطلقنا فى الردهة المرصوفة بالمولاط الأسمنتى بين صفَّى الزنزانات العتيقة الثقيلة فى هذا المعتقل الكئيب الرهيب.. أخيرا تحت السماء العارية، فى قمة القلعة، وحدث شىء بالغ الغرابة فى هذه اللحظة.
شىء تلقائى وشبه جماعى ولا إرادى تقريبا، وسيظل كل واحد منا نحن الثمانية والأربعين سجينا آنذاك، يتذكره بقية عمره، ويندهش! فمع انفتاح باب كل زنزانة لم يكن هناك من ينتظر ليتلفت على الأقل حوله، أو حتى يرفع رأسه لثانية متأملا زرقة السماء التى لم يرها طيلة أربعين يوما، ولا توقف واحد ليطيل التعرُّف على نزلاء زنزانة ينفتح لهم الباب إلى جواره، شىء غريزى وبدائى حدث بتلقائية وإجماع عجيبين فى هذه اللحظة: لقد تحولنا إلى خيول!
لا أستطيع أن أصف ما حدث لنا إلَّا بأننا تحولنا إلى خيول، خيول كانت حبيسة وانطلقت فطفقت ترمح، كنا طلبة جامعة فى عمر الشباب الباكر قبض علينا زبانية السادات ليلة خطب خطبته الشهيرة التى قال فيها «إن الطريق إلى الديمقراطية هو مزيد من الديمقراطية»! كان عمرى وأعمار معظم زملائى فى الحبسة تدور حول العشرين، وعندما تحرَّرت طاقة ذلك العمر الوهاج بعد أربعين يوما من الحبس الكامل فى الرطوبة والبرد والعتمة، انطلقنا نركض ركض الخيول فى الردهة الضنينة بين صفَّى الزنزانات، حتى أن الحراس وضباط المعتقل روعتهم الظاهرة فانسحبوا مبتعدين يراقبون ما يحدث فى استغراب وتأهب، وخشية!
كان ركضنا يومها مشبوبا عفيا، يوشك أن يكون جنونيا بشكل ما، جنون خيول استعادت حريتها وانطلقت فى البرية، فلم تكف عن الركض حتى هدَّها الإنهاك، وتوقفنا نلهث متوهجى البشرة غارقين فى العرَق، ورحنا أخيرا نتعرف على بعضنا البعض ونحاول مطابقة الأصوات التى نعرفها والأسماء المقترنة بها على صور أصحابها الذين كنا نرى معظمهم لأول مرة.
الذى عاد يدهشنى فى رد الفعل الراكض العجيب ذاك هو: كيف أننا كنا نجرى بكل عافيتنا وحرارة العمر فى تلك الردهة الضنينة دون أن نتصادم، شىء يجعلنى أفترض أن ما حدث هو رد فعل غريزى تماما، تتشارك فيه كل الكائنات، من الخيول إلى البشر، فرحا باستعادة الحرية ولو لدقائق مخطوفة من عمر الزمن، ومن ثم عدنا إلى موروث الحياة البكر فى كل كائن مفطور على الحرية فى برارى الوجود، واستدعت هذه العودة إيقاظ مكنون «الحس الفطرى الفائق» الذى جرَّدت المدنية إنساننا المعاصر منه واستبقته فى الخيول..
حس استشعار أدق دقائق الوسط المحيط بالكائن البرى، ومن ثم المروق بسلاسة خلاله دون ارتطام بأحد أو الاصطدام بشىء، براعة فى سلوك دروب كأنها مفتوحة أمام الكائن البرى وحده، بالرغم من أنها تقع فى شبكة تعج بالحواجز والعوائق والمباغتات، هكذا البعوضة والخفاش والعصفور والحصان البرى وسائر الكائنات الفطرية التى تبهرنا براعتها فى الاندفاع الطليق والانعطاف السلِس. ولعلها البراعة نفسها التى خرجت من كوامننا تلقائيا عندما قدحت زنادها الغريزى لحظة استعادة بعض الحرية فى معتقل القلعة!
الآن أرى ما حدث وما يحدث من اندفاعات شملت قطاعات عديدة من شعبنا بعد انزياح نظام القمع الساقط مطابقا لردة فعلنا تلك حين انفتحت لنا أبواب المعتقل بعد انغلاقها الطويل المرير. فما هذا الانتشار للإضرابات والاعتصامات والتظاهرات والفضائيات والصحف والبيانات، إلا مرادف لركض الخيول المتحررة كما ردَّة فعلنا عندما حولتنا لحظة الحرية إلى خيول رامحة تحت السماء المكشوفة فى ردهة ضنينة. لكن رد الفعل الطبيعى هذا فى انطلاقات كثيرين بعد انزياح نظام العصابة الساقط تسلل إليه عنصر شاذ وجانح يشوه براءة أى ركضٍ حرٍ أصيل جميل، ويهدد الثورة الآن بالخطر..
عندما انطلقنا نركض فى ردهة العنبر العلوى بمعتقل القلعة لم نكن نتصادم ولا نتلاطم ولا حتى نتقاطع، والخيول التى تهرب من آسريها هى كذلك، لكن شيئا مما حدث وما يحدث فى أعقاب ثورة يناير، وضمن ردات فعل البعض على سقوط حاجز الخوف وجدار المنع والقمع بات شيئا ممجوجا، غير مفهوم، وغير مُبرَّر، وغير مقبول استمراره، لأنه دليل سُعار مرضى فى التعبير عن الذات الأنانية قصيرة النظر على حساب الآخرين فى مضامير الحرية، وفيه تهديد للحرية!
ولعل كثيرين ممن قادهم الغرور وقِصر النظر والهوج والطمع إلى ممارسات يثبتون فيها وجودهم بالاعتداء على غيرهم بالقول والفعل والتبخيس يشعرون الآن بأنهم تعجلوا اقتناص الثمرة وقنص الفريسة. وما الأمر بثمرة ولا فريسة. بل مسئولية وطنية جماعية ثقيلة وخطيرة ولا يقوى على حملها فصيل واحد أو تيار أو اتجاه أو حزب أو جماعة! ومن ثم لاينبغى أن ينفرد بها أحد. وبالتالى لا يوجد مبرر لكل هذا العض والرفس والتدافع الذى يمارسه البعض بعدوانية وهوج فى خضم الانطلاق الجديد.
يمكننا أن نتفهم اندفاعات التعبير عن الذات دون اعتداء على الغير، فهذه الاندفاعات المقبولة والمفهومة تكاد تكون رد فعل غريزيا فى مطالع الثورات وانفتاح أبواب الحرية، أما العض والرفس والهبش والخمش والنهش لشركاء الثورة، فهى سلوكيات مثيرة للفتنة ومحرضة على الفرقة لا يصح أبدا أن ننسبها لجماعة ولا لفصيل أو تيار، لأنها نتاج أفراد مجبولين على الغرور والتغرير وعتامة النفوس والسِحن، وهم موجودون فى كل ألوان الطيف السياسى والفكرى فى مصر، لكنهم يكونون شديدى الخطر إذا ما تسربوا إلى مواقع التأثير الواسع، كقيادات أو مسئولين أو معبِّرين عن اتجاهات سياسية أو فكرية فى ظروف لا تسمح لكثيرين من بسطاء الناس أن يتحلوا بتفكير نقدى لم يكتسبوه أصلا عبر عقود السحق والتسطيح الطويلة، فمن الممكن أن يسوقهم الخداع فى عماء الزحام والمُزايدة والتهييج، فيكون التقاطع والتناطح والتناحر والتلاطم، وتصير الحرية معرضة للانكفاء.
لم تعد ضرورة الإتلاف والوفاق بين كل أطياف صانعى الثورة مجرد فضل وتنازل من طرف لطرف، بل هى الآن واجب أخلاقى وروحى لتدارك أخطاء وقعت ويمكن إصلاحها، وما من شىء لايمكن الاتفاق عليه بعيدا عن مصطنعى الفرقة والفتنة، مادامت الغاية هى إنهاض الأمة الجديرة بدستورٍ قويمٍ تعددى وجامع، ورئيس فاضل تحت رقابة عقد اجتماعى محكم وسوى، ومؤسسات حكم رشيد فى دولة مدنية وديمقراطية تتناغم مع العصر وتستلهم نفحات الروح.
والله، وبرغم كل ما حدث ويحدث من سلبيات مُحبِطة بعد انزياح النظام الغُمَّة، أرانا فى نِعمة، نعمة كُبرى، منحة تاريخية، تستحق أن نحافظ عليها، ونصونها، وننميها من أجل مستقبل هو أفضل بكل المقاييس مما كان ينتظرنا لو استمرت عصابة الاستبداد والفساد جاثمة على صدر مصر. ومجرم كل من لا يجاهد ذاته وجماعته وأيديولوجيته، ليُنحِّى طموحاته وتحيزاته الخاصة وأهواء نفسه، ليشارك كل الأمة فى الاجتهاد الواجب لصون هذه النعمة.
بقلم:
محمد المخزنجي - الشروق
No comments:
Post a Comment