أتذكر يوم رأيت فى سوبر ماركت بمدينة سياتل ماركة خبز تحمل اسم Dave`s Killer Bread. وهنا كلمة Killer تقترب لاستخدامنا لكلمة «فظيع» بالعامية، فهى لا تعنى «قاتل» بالمعنى الحرفى، إنما تعنى شيئا «قاتل» من روعته! فالماركة إذن «خبز ديف القاتل الرائع الفظيع!!»
كم استغربت من اسم المنتج، وكذلك من شكل تغليفه البلاستيكى الخارجى، فكان مميزا فعلا وسط كل الأنواع من حوله، ملوناً وعليه رسم كارتونى كاريكاتورى مضحك لشخصية «ديف»، وقد ظهر مفتول العضلات، ممسكا بجيتار، وله شارب كبير ذكرنى بشكل المرحوم محمد رضا فى فيلم ٣٠ يوم فى السجن. كذلك على التغليف، كُتبت العناصر الغذائية من القمح الكامل، والحبوب والبذور المزروعة بشكل عضوى، أى خالية تماما من أى مبيدات أو كيماويات بشهادة وزارة الزراعة الأمريكية، التى لا تعطى ختمها على المنتجات دون مراجعة دقيقة.
قلت لنفسى: يبدو خبزاً عالى الجودة فعلا.
ولكن «ديف» ليس شخصا عاديا تماما، ببساطة قرر أن ينتج نوعا جديدا من الخبز، لكنه كما نقول فى مصر «رد سجون». وقد تجرأ بأن يعلن هذا صراحة على منتجه. فكتب ما يلى فى فقرة طويلة مفصّلة على الغلاف البلاستيكى:
«أخفقت أربع مرات قبل أن أدرك أننى ألعب لعبة خاسرة.. صحيح أن قضاء ١٥ عاما فى السجن لهو طريقة صعبة جدا لاكتشاف الذات، ولكنى لست نادما على ما فات . فحين قضيت المدة الأخيرة، قررت الاستفادة من تلك الأيام الطويلة التى أمضيتها منفردا ووحيدا، وذلك بالعزف على الجيتار، وممارسة الرياضة، والتعرف على نفسى - دون مخدرات. ولدهشتى الشديدة بدأ يروقنى ما أرى فى ذاتى.. لقد قيل من قبل إن (الشدائد تجعل الرجل يعثر على ذاته التائهة) وأنا تأكدت أن هذا بالفعل أمر حقيقى، فلو لم أعانِ ما كنتم لتقرأوا هذه القصة على خبزى (الفظيع).
تحت هذه الفقرة ومع كثير من الألوان والرسومات الكارتونية الأخرى، نقرأ مقولة ثانية. هذه المرة للمهاتما غاندى: «كن أنت التغيير الذى تريد أن تراه فى العالم».
اندهشت فعلا، فكم مرة من قبل قرأت مقولة لغاندى على منتج غذائى؟!
قررت اختبار ذاتى: هل أشترى «الخبز القاتل الفظيع» كى أدعم «ديف» فى محاولته العودة بسلام إلى المجتمع؟ هل عمله الصالح الآن سيشفع له «اجتماعيا» سنوات الجريمة والسجن؟ هل سيشترى آخرون خبز «ديف»؟
بالفعل أضفت الخبز إلى سلة مشترياتى فى خطوة كانت بمثابة اختبار لقيمى. بعدها قمت بتقييم ثقافى لجرأة «ديف» بأن ينتج منتجا غذائيا أساسيا كالخبز.
مفاهيم كثيرة تبادرت لذهنى: منها الإخفاق ثم دفع الثمن، سيادة روح القانون الذى يعاقب المذنب، ثم تقبل المجتمع الذى يسامح من يعود إليه بعد تأدية ما عليه، الصدق مع الذات والأمانة تجاه الآخرين، الإبداع الذى يضع الإنسان على طريق صحيح، بعد أن كاد يكون ماضيا فى طريق مسدود لن ينفرج.. فكرت فى روح التغيير والقدرة على خلق شىءٍ من لا شىء. قلت لنفسى «نعم، إن أخطأت فدفعت الثمن، فمن حقى العودة بسلام إلى المجتمع».
من خلال هذا التقييم، تعاطفت مع «ديف» واستحسنت خطوته لأن يكون عضوا منتجا فى المجتمع. اشتريت خبزه لأقف بجانب مشروعه الصغير الذى حاول أن يتغير من خلاله. ولكن ما زاد على كل تلك الأمور النظرية هو أننى عندما تذوقت خبزه، ومنذ هذا الحين، لم أستبدله بآخر.
سؤالى الآن لنا فى المجتمع المصرى: كيف نقوّم من أخطأ فصحح مساره؟
هل من سماتنا الثقافية كمجتمع ما يجعلنا نستطيع أن ندعم ماركة تحمل اسم أحد «السوابق»، إذا ما أمضى هذا العنصر الهدام اليوم مدة سجنه وخرج تائبا ذا مشروع، أم أننا سنظل «نجعل» من أمثاله «مجرمين» بنظرة تُصرّ على أن تَحبِسهم فى ماضيهم، أكثر من حبسِ السجون لهم؟
لعلنا فقط نتذكر «ديف» وقصته، إذا ما قابلنا مَنْ مثله وقد اختار التوقف ثم البدء من جديد.
مروى مزيد - المصرى اليوم
*زميل مركز دراسات الشرق الأوسط، جامعة واشنطن، سياتل،الولايات المتحدة الأمريكية
No comments:
Post a Comment