منذ ظهور «التاكسى» الأبيض الذى ساوى بينى وبين سائقى التاكسيات فى الحقوق والواجبات.. قررت أن أقلع تماما عن عادة قيادة السيارات.. وأصبحت من هواة ركوب «التاكسى الأبيض» حيث الدردشة مع السائقين متعة.. إذ تلمس بكلتا يديك نبض المواطن.. وليلة إلقاء القبض على جمال وعلاء مبارك.. والتحفظ على مبارك فى مستشفى شرم الشيخ.. وبدء التحقيق مع سوزان مبارك أمام إدارة الكسب غير المشروع.. فى هذه الليلة ركبت مع «سائق أبيض» واستمعنا معا إلى نشرة أخبار التاسعة.. وإذا به يقول لى:
«حد كان يصدق إن ولاد الريس يتقبض عليهم ويباتوا فى ليمان طرة.. ومبارك نفسه يتحبس ويتحقق معاه هو ومراته».. ثم نظر ناحيتى يتفحصنى بنظرة ذات مغزى، خوفا من أن أكون من فلول الحزب الوطنى.. أو لصوص المال العام.. أو أبطال موقعة الجمل..
ثم قال لى: «دنيا ملهاش أمان يا بيه.. والزمن غدار، بس الناس ما بتتعظش.. بالك أنت بكرة لما يعملوا رئيس جديد يقعد شوية أيام كده يعامل ضميره ويشتغل بما يرضى الله.. وبعد شوية الكرسى بيغير وتلاقيه قلب على الشعب.. وإيده تطول على فلوس البلد.. ويتلموا عليه الحاشية والنصابين ويطلع فى الآخر حرامى ويمشى بفضيحة وزفة».
تأملت حديث السائق الأبيض.. وتذكرت نص سعدالله ونوس المسرحى الرائع «الملك هو الملك».. ورحت أسأل نفسى:
- هل كان لابد أن تراق كل هذه الدماء.. حتى يستيقظ ضمير حسنى مبارك ليتنحى.. أو يحاصر بكل هذا الغضب والسخط ليجبر على ترك مقعد الرئاسة؟
- هل كان لابد من مرور ثلاثين عاما من الذل والهوان، ونهب المال العام، وتجريف ثروات مصر حتى يسقط نظام حسنى مبارك.. ثلاثون عاما لم يشبع خلالها كل رجال الرئيس والرئيس وعائلته؟
كيف لا يرى الحاكم إلا نفسه.. ولا يستمع إلا لبطانته.. ولا يستجيب إلا لنزوات النفس الأمارة بالسوء؟
لا شك أنهم لا يبصرون ولا يسمعون ولا يحسون.. فإن أبصروا لا يرون الحقيقة.. وإن سمعوا فلا يستمعون إلا لشياطينهم.. وإن أحسوا لا يشعرون بظلمهم الواقع على العباد.. فهم بلا بصيرة.. والبصر غير البصيرة.. فلو كانت لديهم بصيرة نافذة لما وصلوا وأوصلونا إلى ما نحن فيه الآن..
ماذا فعلت لهم المليارات التى سلبوها.. جاء عسكرى مصرى غلبان وجردهم من كل متعلقاتهم الشخصية وهو يدفعهم داخل الزنازين.. ماذا فعلت لهم القصور والفيلات عندما أغلقت على كل منهم زنزانة مساحتها متر ونصف المتر فى مترين.. كيف صور لهم غرورهم وجبروتهم أن هذا الملك باق.. إن كنوز العالم كلها لا تساوى الآن لحظة ذل ومهانة مما يتعرضون له.. والآن هل يحاسبون أنفسهم ويشعرون بالندم على ما اقترفوه من جرائم جسيمة وخطايا لا تغتفر فى حق الشعب المصرى وفى حق مصر.. أم أن جبروت الغرور مازال يركبهم غير مصدقين أن ما يحدث هو الحقيقة بعينها.. أم أنهم يظنون أنه مجرد كابوس بشع سيزول بمجرد أن يستيقظوا من النوم.. ألم يدركوا أن العالم قد تغير..
وإذا عجزت الشعوب المغلوبة على أمرها عن الثورة صارت هناك قوى عظمى تستقوى بها الشعوب على حكامها الظالمين.. وأن هذه القوى هى نفسها التى كان هؤلاء الحكام ينسحقون أمامها، ويقدمون لها فروض الولاء والطاعة على حساب كرامة وعزة شعوبهم.. ثم تأتى اللحظة التى يصبح فيها هؤلاء الحكام منتهى الصلاحية.. وتبدأ هذه القوى العظمى فى بيعهم والبحث عن طرق مبتكرة للتخلص منهم.. إنها دروس فى التاريخ تتكرر دائما بأشكال وسيناريوهات مختلفة..
ولكن الحكام لا يتعظون أبدا على مر العصور.. إنهم مصابون بمرض لعين اسمه جنون العظمة.. ولا أمان لأى حاكم مهما خلصت نيته لبلاده وشعبه.. ولا ضمان للشعوب إلا الديمقراطية الحقيقية والدستور الذى يتحول إلى عقد اجتماعى بين الحاكم والمحكوم، يحدد شكل العلاقة بين الطرفين.. عقد يؤكد للحاكم أنه جاء بأمر تكليف من الشعب لصيانة حقوقه وحماية أراضيه..
عقد يحدد الخطوط الفاصلة بين الحقوق والواجبات.. ويفصل بين مصالح الحاكم الخاصة ومصالح المواطن والوطن العليا.. لأننا ونحن نبحث بين الوجوه المرشحة لرئاسة مصر عن رئيس جديد علينا أولا أن نضع دستورا حقيقيا للبلاد، ونصيغ عقدا اجتماعيا بيننا وبين الحاكم تحدد فيه كل الأمور بوضوح شديد، ويطبع من هذا العقد أصل و٩٠ مليون صورة، وتسلم للحاكم صورة ولكل مواطن صورة، ويتم إيداع الأصل فى المحكمة الدستورية العليا، ويكتب فيه شرطا أساسى ينص على: «أن أى إخلال بأى بند من بنود هذا العقد من جانب الحاكم أو المحكوم يصبح هذا العقد مفسوخا من تلقاء نفسه دون الرجوع للطرف الثانى، وعلى المتضرر اللجوء للقضاء»..
لأنه لا أمان لأى حاكم مهما بلغت نزاهته، فهناك دائما صناع الفساد ومفسدو الحاكم، الذين يلتفون حوله ويضعونه فى علبة من الحرير شديدة النعومة ويحيطونه بكل مباهج الدنيا.. ويصنعون منه نصف نبى ونصف إله.. فيحجبون عنه حقيقة كل شىء، ويصبح هو كالخاتم فى أصبعهم يصنعون به ما يشاءون.. إنهم صناع الفساد.. فلا يهم من سيكون رئيس مصر غدا، ولكن المهم كتابة العقد الاجتماعى الملزم للطرفين الحاكم والمحكوم وعلى الوسطاء (صناع الفاسد) أن يمتنعوا.. فلا نريد طرفا ثالثا فى هذا العقد حتى وإن كان زوجة رئيس الجمهورية أو أبناءه أو بطانته.. فالعقد شريعة المتعاقدين والسماسرة يمتنعون
محمد بغدادى - المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment