فلما جاءها المخاض بعد ملحمة التحرير ولدت عجوزا يستند على معاونيه يتذكر بصعوبة ويفكر بغشاوة، لا يسمع سوى صوته، أذنيه اغتصبها الزمن، ونفسه تعشق كلمات البطانة، وتكره النقد وتفتتن بالتملق، وتظن أن التثاقل حكمة وأن الإرادة صبر، وأن المستقبل فى راحة اليد، وأن الطموح رفاهية، وأنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان وأن الثورة كسوق اجتمعت ثم انفضت.
إنها مصرنا التى كانت عقيما لم تلد منذ عشرات السنين، فلما حملت نكاحاً وليس سفاحا جاءتنا بهياكل إنسانية ماضوية تعيش وسط روشتات الأطباء ووصفات الصيادلة وصبغات الشعر، لتتوسد أمورنا وترسم خريطة حياتنا فى الحاضر وتخطط لمستقبل ما بعد الثورة، يبدو أن الطبيب لم يكن ماهرا بالقدر الذى يمنح الأم ولادة طبيعية لتأتى بطفل كامل النمو، فكان النتاج شيخا هرما ينظر إلى الحياة بوصفها حافة إلى القبر وليس بالحكمة الإلهية بالاستخلاف فى الأرض.
شخص يحمل تاريخه فوق ظهره، وينتظر محطته الأخيرة بتعجل الإنسان وقلق المصير والحساب الأخروى، يحسب أن الملذات قاربت على الأفول ومنطق الأشياء لديه «اغتنم اليوم فلم يبق على الغد كثير»، الاستيعاب ولى والعقل جامد مثل الصخر، والطائرة ستهبط قريباً فى مطارها الأخير وبدلاً من تخفيف الأحمال يكدس المسافر الحقائب.
عمرو موسى ويحيى الجمل والبرادعى ومجدى حتاتة والعيسوى ووزراء ومسؤولون، هؤلاء فقط من ولدتهم أمنا التى نتغنى بها لكنها تظلمنا بهم، فقسوتها التى تحملناها سنين لا يمكن بحال أن تستمر سنوات، فالصبر نفد والحياة قرار والمشهد مؤسف مقلق مربك، الشيوخ يحكموننا، إذن البطء طريق والانتقاد مؤامرة والديكتاتورية منهج والرأى الآخر مغرض والأمور لا تقبل القسمة على اثنين.
وإذا كان «الجمل» الرجل الثانى فى مجلس الوزراء يتغنى بعجوز مثله «أحمد شفيق» ويبكيه على الملأ ويدافع عن المناوى ويرفض اختيار غريم سابق من القيادات الصحفية لاختلافه معه، ويعود بزاهى حواس إلى وزارة الآثار ليمارس هوايته المعروفة، ويدعو للحوار الوطنى من يشاء ويستبعد من يشاء على طريقة برامج «التوك شو»، وباستخدام نفس شخوص أحمد نظيف ومركزه للنصب على الدقون المسمى بـ«العقد الاجتماعى»، يصيغ مع آخرين إعلانا دستوريا وتشريعات بمنهج مبارك التليد «طبخ القوانين فى الخفاء» ويعتمد أسلوب ماضوى فى التعاطى مع المشكلات.
ليس إساءة أدب بأن نتحدث عن شيوخنا ولكن الإساءة بعينها هى السكوت على حسنى مبارك جديد نخلقه يوما بعد يوم فى الإدارة المدنية للدولة، لنكتشف أن حسنى مبارك لم ينخلع واستنسخنا منه عشرات يسيرون أعمالنا ويحكموننا وهم عاجزون عن قراءة الأوراق واستقبال الأفكار ويستمعون فقط للهمهمات والوشايا ولتقرأوا كتب الطب لتعلموا كيف تتدهور صحة الإنسان وقدراته العقلية والبدنية والنفسية، ولتسألوا الأستاذ محمد حسنين هيكل عن وصفه الرائع «كراكيب الماضى» الواجب ابتعادهم عن المشهد، ولتحفظوا عن ظهر قلب ما قاله عالمنا الكبير الدكتور فاروق الباز عن جيله الذى فشل فى تغيير مصر، فكيف نصنع طواغيت تدارى آثار الزمن وتلتحف برداء مهترئ يسمونه الحكمة.
وقبل أن يتحفنا الجمل بأنه ياما كتب ونقد وهاجم واستفز الطاقات ضد ظلم مبارك، فعليه أن يجيب عن علاقته بصفوت الشريف ورجال مبارك، «الجمل» يستغل دماثة خلق «عصام شرف» ويحكم مقر مجلس الوزراء بصداقاته القديمة ونظرية «كان تلميذى» ومن ثم وجدنا مفيد شهاب يعود إلى المشهد مع احتفاء واحتفال بدلاً من حسابه على ما جنته يداه بدءا من جامعة القاهرة حتى التوزر.
أفسحوا وانتحوا جانبا لنرى مستقبلنا، فلقد فشلتم طوال عقود من الزمن وتكأكأت عليكم الحياة وقهرتم أنفسكم بالتملص والحرص والإمساك بالعصى من المنتصف، وسكتم عن الحق للبقاء فى نار حسبتموها جنة منحها الظالم لكل من يقول نعم مع فسحة للقائلين بـ«لا» بحساب وحبل سرى يمتد من قصور الحاكم.
إن الجمل والذين معه ممن تجاوزوا السبعين ليسوا إلا عجوز «أرنست هيمنجواى» فى رائعته «العجوز والبحر» الذى عانده القدر ٨٤ يوماً دون أن يصطاد سمكة واحدة وفى اليوم الخامس والثمانين ظفر بسمكة ضخمة وربطها فى مركبه وعند وصوله إلى شاطئ هافانا لم يتبق من السمكة الضخمة سوى الهيكل والعظام، ولن تكون مصر مثل سمكة «هيمنجواى» لأن النوايا الطيبة لا تصنع الأوطان، فالكفاءة والكفاية شرطان مهمان.
نحترم الجميع ونقدر الاستثناءات من القاعدة ولكن الزمان عدو متربص والتاريخ لا ينسى الأشقياء والمدلسين والعجائز المتصابين.
كلمة أخيرة: كيف نصنع دولة ديمقراطية عصرية من خلال أناس لم يتذوقوا طعم الحرية؟
علاء الغطريفى - المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment