Sunday, April 17, 2011

تحديات على الطريق

أنتمى إلى جيل تفتّح وعيه السياسى على أحلام وأمانى كبيرة فجَّرها مشروع وطنى وقومى تبنته ثورة يوليو بقيادة عبدالناصر، غير أن هذه البدايات الواعدة، التى صعدت بجيلى إلى سماوات أحلام وردية، سرعان ما هبطت به إلى واقع من كوابيس مرعبة راحت تطارده طوال الشطر الأعظم من حياته، لاحت قَسَماتها بوقوع هزيمة ٦٧ فى عهد الرئيس عبدالناصر نفسه، ثم راحت تكبر فى زمن السادات، خاصة عقب زيارته للقدس عام ١٩٧٧، إلى أن وصلت ذروتها فى عهد مبارك، خاصة مع مشروع لتوريث السلطة ونقلها بأساليب ملتوية وخسيسة من الأب إلى الابن. ولأن مشروع توريث السلطة هذا، الذى استفز جيلى إلى درجة مرعبة، كان قد بدأ يتسلل إلى أنسجة المجتمع المصرى منذ بداية الألفية وراح يكبر رويدا رويدا إلى أن نضج وأصبح - تحت وطأة إصرار عنيد وصلف متبجح - حقيقة واقعة تفرض نفسها بالقهر على الجميع، فقد كاد اليأس يودى تماما بهذا الجيل،

وأعترف بأن أخشى ما كنت أخشاه خلال السنوات القليلة الماضية أن ينجح مشروع التوريث بالفعل ويتحول إلى واقع فى حياتى، ثم أرحل عن دنيانا قبل أن أشهد نهايته وانكساره، وأظن أن هذا لم يكن شعورى وحدى وإنما كان هو الشعور السائد لدى معظم أبناء جيلى من المهتمين بالعمل العام والمعارضين لهذا المشروع الخسيس. ورغم أن كثيرين من شرفاء هذا الوطن لم ينقطع نضالهم ضد مشروع التوريث وسعوا لإسقاطه، فإننى لم أكن أتصور أن يمتد بى العمر لأشهد ولأشارك فى ثورة يناير العظمى، ولا دار بخلدى يوما أن أرى بأم عينى أبطال مشروع التوريث وهم يقبعون صاغرين وراء القضبان، ولا يعكس قولى هذا شعورا بالشماتة، التى أحمد الله أنها لم تتسرب إلى قلبى قط، بقدر ما يعكس شعورا بالانبهار والفخار بما حققته ثورة يناير حتى الآن.

غير أن الانبهار بما تحقق من إنجازات لا ينبغى أن ينسينا حقيقة أخرى، هى أن حجم التحديات التى لاتزال تعترض طريق الثورة وتهدد مسيرتها بالتوقف ما زال كبيرا وخطيرا.

ولأن الثورة لم تقم بغرض الانتقام أو التشفى من أحد، وإنما استهدفت أولاً وقبل كل شىء تأسيس نظام ديمقراطى بديل للنظام الذى جثم على صدر مصر لسنوات طويلة، وجسَّده تحالف قوى الفساد والاستبداد، وتزويده بما يحتاجه من مقومات وآليات للحيلولة دون إعادة إنتاج نظام يشبه النظام القديم - علينا أن نتسلح باليقظة والحذر اللازمين لحماية مسيرة الثورة إلى أن تتمكن من تحقيق كامل أهدافها المتمثلة فى:

١- إزاحة ما تبقّى من ركام النظام القديم الذى سقط رأسه، ورؤوس العديد من رموزه الكبار، لكن جذوره لاتزال ضاربة فى أحشاء المجتمع وفى مواقع التأثير والنفوذ وصنع القرار.

٢- بناء نظام جديد تتوافر فيه جميع مقومات الديمقراطية الحقة ويتسع للجميع دون أن يستبعد أحدا أو يسمح لأحد بالهيمنة عليه.

للتعرف على حجم وخطورة التحديات التى تواجه مسيرة الثورة المصرية، بعد الشوط الذى قطعته حتى الآن، علينا أن ندرك أن المشهد السياسى الراهن فى مصر تشكله تفاعلات تجرى بين ثلاث قوى رئيسية،

أولاها: القوى صاحبة المصلحة فى التغيير، التى استطاعت تفجير وصنع ثورة يناير بكل عظمتها وتجلياتها،

وثانيتها: قوى الثورة المضادة والراغبة فى عرقلة التغيير أو اختزاله فى أضيق نطاق ممكن تمهيدا للالتفاف على مطالب الثورة وإجهاضها متى استطاعت إلى ذلك سبيلا،

وثالثتها: المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذى يمسك الآن بمقاليد السلطة الفعلية وبالمفاتيح الحقيقية لعملية اتخاذ القرار. من المعروف أن لحظات التحول التاريخى فى الدول والمجتمعات، التى تقع عادة حين تنضج العوامل المحرضة على التغيير بوسائل غير تقليدية - تتسم بميل طبيعى نحو توحيد القوى صاحبة المصلحة فى إسقاط النظام القائم، ولأنه بتعذر ضمان استمرار وحدة هذه القوى فى مرحلة ما بعد إسقاط النظام، نظرا لتعدد رؤاها ومشاربها السياسية والفكرية، فمن الطبيعى أن تبرز فى اليوم التالى لنجاح الثورة اختلافات وخلافات عميقة حول شكل ومضمون وآليات النظام البديل.

وربما كان يمكن التغلب على هذه المعضلة لو أن القوى التى أشعلت الثورة المصرية كانت قد تمكنت من الاستيلاء بنفسها على السلطة عقب إسقاط النظام، وهو ما لم يحدث، لأن النظام القديم لم يسقط وإنما أطيح برأسه وببعض رموزه فقط، ولأنه لم يكن بمقدور الثوار أن يستولوا بأنفسهم على السطة بعد نزول الجيش إلى الساحة.

ولأن الملابسات التى أحاطت بحركة التفاعلات، قبيل وأثناء الثورة، دفعت بالجيش المصرى للتحرك والاكتفاء بالتضحية بالرأس، خوفا من أن يؤدى سقوط النظام بأكمله إلى انهيار الدولة، فقد أدى هذا التحرك، من الناحية العملية، إلى حماية الثورة وحماية النظام فى آن معا.

لذا بدا الجيش عقب إمساكه بزمام السلطة وكأنه تحول إلى عازل بين قوى الثورة الساعية للتغيير، من ناحية، وقوى الثورة المضادة الساعية لإجهاض التغيير، من ناحية أخرى.

ولأنه بدا مُمسكاً برمانة الميزان فى الحياة السياسية المصرية فى مرحلة ما بعد الثورة فقد بات عليه أن يتخذ قراراته فى ضوء إدراكه هو للمصالح العليا للبلاد على ضوء ما قد يتعرض له من ضغوط داخلية تقوم بها قوى الثورة أو قوى الثورة المضادة، أو من ضغوط خارجية تقوم بها القوى الإقليمية أو الدولية.

والواقع أنه كان يمكن لقوى الثورة، أى القوى صاحبة المصلحة فى التغيير وتأسيس نظام ديمقراطى، أن يكون لها نصيب أكبر فى صياغة أسس وقواعد النظام السياسى الجديد فى مرحلة ما بعد ١١ فبراير، غير أن انقسام هذه القوى على نفسها وتفتتها وتشرذمها بعد الثورة، وهو ما بدا واضحا أثناء الاستفتاء على التعديلات الدستورية فى ١٩ مارس الماضى، منح قوى الثورة المضادة قدرا أكبر من هامش وحرية المناورة وأتاح أمامها الفرصة للعمل على توسيع الهوة بينها وبين المجلس الأعلى للقوات المسلحة، لذا كادت هذه القوى تنجح فى دفع المجلس الأعلى للصدام مع قوى الثورة، وهو ما بدا واضحا فى الأحداث التى شهدها ميدان التحرير إبان «جمعة التطهير والمحاكمة».

ولحسن الحظ تكفل غباء النظام وأخطاؤه المتكررة، التى جسدت آخرها كلمة الرئيس المخلوع والمذاعة عبر فضائية «العربية»، بإعادة بعض التوازن المفقود للأوضاع المتردية، وربما تكون لعبت دورا فى التعجيل بقرار النائب العام حبس الرئيس المخلوع ونجليه على ذمة التحقيق فى الاتهامات الموجهة إليهم.


ولا جدال فى أن قرار النائب العام شكل خطوة هائلة للأمام وفتح فصلا جديدا ناصعا فى كتاب الثورة المصرية، خصوصا أن التحقيق مع الرئيس وولديه يجرى وفق إجراءات وقوانين عادية ودون اللجوء إلى أى إجراءات أو خطوات استثنائية، وهو توجه يستحق الإشادة.

غير أن ذلك لا يعنى أن الأمور أصبحت محسومة نهائيا لصالح قوى التغيير، أو أن الثورة حققت انتصارها النهائى، فالفحص المدقق لحركة تعيين المحافظين الجدد يقطع بأن المرحلة الانتقالية لاتزال تدار بنفس العقلية القديمة، وأن قوى الثورة المضادة لم تستسلم بعد ولاتزال حية ومنتشرة وفاعلة وجاهزة للانقضاض على الثورة فى أى وقت، لذا يبدو أن الباب الوحيد المتاح لإنقاذ الثورة يكمن فى قدرة القوى التى صنعتها على تأسيس نظام ديمقراطى فعال، وهو أمر لن يكون بوسع هذه القوى تحقيقه دون توافر حد أدنى من الوفاق فيما بينها.

لذا أظن أنه آن الأوان ليس فقط لطى صفحة الخلافات حول التعديلات الدستورية التى جرت مؤخرا، وإنما أيضا لاستخلاص الدروس المستفادة مما جرى والعمل على تلافيه فى المستقبل. ولأن الدورى فى مباريات الكرة لا يمكن أن يبدأ قبل اتفاق على قواعد اللعب وإعداد الملاعب والفرق وطاقم الحكام والجمهور وتهيئة أجواء نفسية وأمنية تسمح بإقامة مباريات حقيقية تقوم على المنافسة الحرة وتكافؤ الفرص، فكذلك الحال بالنسبة للدورى السياسى،

لذا أعتقد أنه يتعين على القوى صاحبة المصلحة فى تأسيس نظام ديمقراطى أن تنسق فيما بينها وتنزل الانتخابات البرلمانية القادمة بقائمة موحدة، وأن تتفق فور هذه الانتخابات على تشكيل لجنة المائة التى ستصوغ الدستور الجديد، بل على المبادئ والقواعد والتوجهات العامة لهذا الدستور، وربما أيضا على مرشح رئاسى لفترة رئاسية واحدة يدير البلاد خلالها وفق برنامج متفق عليه ولا يعيد ترشيح نفسه لفترة ثانية، ضماناً لأن يقوم بتركيز كل جهده على إرساء دعائم راسخة لنظام ديمقراطى حقيقى.


الانتخابات وحدها، حتى لو كانت حرة ونزيهة، لا تؤسس لنظام ديمقراطى حقيقى، فبدون أحزاب لها حضور على الساحة ومجتمع مدنى قوى ووسائل إعلام حرة، وشيوع ثقافة حاضنة لقيم الديمقراطية، لن نتمكن من تأسيس نظام ديمقراطى حقيقى، ولأن المراحل الانتقالية فى تاريخ الشعوب هى الأخطر فمن المؤكد أن يؤدى الفشل فى إدارة المرحلة الانتقالية الحالية فى مصر إلى تمهيد الطريق نحو قدوم فرعون جديد بدلاً من ربيع الديمقراطية الذى نحلم به جميعاً

د. حسن نافعة - المصرى اليوم

No comments: