Friday, March 11, 2011

الوطن (والدستور) للجميع

يتطلب التحليل السليم والتقييم العقلانى للتعديلات الدستورية المقترحة تحديد الاساس الذى يمكن الرجوع إليه لتقييم مدى شرعية هذه التعديلات فى ضوء النظام الجديد الذى فرض نفسه عقب ثورة ٢٥ يناير، التى دون أدنى شك أسقطت الشرعية الدستورية وأقامت محلها شرعية ثورية. ومما لا خلاف عليه أيضاً أن الشرعية الثورية تتركز الآن فى الشعب، والشعب وحده، وعليه فإن نقطة البداية فى تحديد الطريق الصحيح فيما يخص أى تحول أو تعديل أو خطوات إلى الأمام هى علو إرادة الشعب. فقد عانى المصريون فى الفترة السابقة من القمع وفقدان الحريات، وحيث إن الشعب استعاد الآن حقوقه بجميع أبعادها فقد وجب أن تصان هذه المكتسبات وألا تنتقص بأى شكلٍ من الأشكال، بقصد أو بغير قصد، فاليوم الوطن والدستور والإصلاح للجميع.

ويسرى هذا أول ما يسرى على مضمون التعديلات الدستورية المقترحة والأسلوب المتبع لتمريرها، وحيث قد علق الكثيرون على التعديلات الدستورية من الناحيتين الفنية والدستورية، نود هنا التعليق عليها من منظور آخر وهو منظور توافقها مع الإرادة الشعبية، وعليه نبدى الملاحظات التالية:

مشكلة التمثيل: الفكرة الأولى والأساسية، وهى للأسف غائبة عن العديد من أطراف الحوار، هى أن الديمقراطية أسلوب أو عملية ممارسة الحقوق السياسية وليست نتاج هذه العملية، وبالتالى فإن ما تستقر عليه الأغلبية فى إطار عملية اختيار حر هو منطقياً الأجدى بالاعتبار، ولكن تكمن الصعوبة فى كيفية تنفيذ هذا المنطق عملياً أثناء المرحلة الانتقالية، حيث إن هناك مشكلة وكالة حقيقية، فالشعب المصرى، كأى شعب، متعدد الفئات والاتجاهات والتيارات، وبالتالى يجد العديد أنفسهم غير قادرين على الإدلاء بدلوهم فى الحوار القائم أثناء الحقبة الانتقالية، بما فى ذلك إيصال رغباتهم إلى لجنة تعديل الدستور، التى لم يتم اختيارها من قبل الشعب، ولكن فى المقابل قام الشعب بتحديد معالم ولايتها من خلال المطالب التى تمخضت عن الثورة وبرزت أثناء هتافات التحرير.

من ثم فالحل الأمثل لمشكلة الوكالة هو أن نتفهم جميعاً أننا بصدد صورة من صور الديمقراطية المباشرة نادرة الحدوث فى وقتنا الحاضر، وحيث إن لجنة تعديل الدستور تستمد ولايتها مباشرة من مطالب الثورة، أى من الشعب، وجب عليها أن تستهدى فى القيام بوظيفتها بإرادة مجمل الشعب، ووجب عليها وعلى أولى الأمر ألا يتخذوا أى خطوات لا تعكس إجماعاً واسعاً أو يكون من شأنها أن تحد من نطاق حرية الشعب فى المرحلة المقبلة.

مسألة جنسية الرئيس وأقاربه من الدرجة الأولى: إن زيادة تقييد جنسية الرئيس وزوجته ووالديه مثلما ورد ضمن المادة ٧٥ من التعديلات المقترحة كشرط للحق فى الترشح لم تكن من المسائل التى أراد الشعب تناولها بصفة فورية فى التعديلات المطلوبة، وذلك لا يمنع بالطبع اللجنة من تناولها، ولكن مسألة تقييد حق المواطنين فى الترشح لمنصب الرئاسة هى مسألة بالغة الحساسية فى المرحلة الحالية لتعلقها بسلطان إرادة الشعب، وضرورة إطلاق يده إطلاقاً تاماً فى اختيار رئيسه خاصة على ضوء «مشكلة التمثيل» التى سبق التطرق إليها.

إن تقييد الحق فى الترشح لرئاسة الجمهورية بشروط تتعلق بالجنسية أمرٌ طبيعى إن لم يكن ضرورياً بخصوص المنصب الأعلى فى الدولة، وهو كذلك أمرٌ معتاد فى التجارب الدستورية المقارنة، غير أن شرط الجنسية- كما هو وارد فى التعديلات الدستورية المقترحة- ينطوى على تشدد مبالغ فيه. وعلى سبيل المثال لا يوجد أساس واضح لاستبعاد ترشح مواطن مصرى يكون قد قرر والده له وهو قاصر أن يمنحه جنسية أجنبية ثم تنازل عنها هذا المواطن فيما بعد بلوغه سن الرشد. ولعل الأجدى كان اشتراط أن يكون المرشح قد أمضى فترة زمنيه وافرة من عمره فى مصر لضمان إلمامه بالحياة المصرية وتقاليدها، بدلاً من إضافة التعديل الجديد الذى يستبعد كل من حظى فى الماضى على جنسية أجنبية (حتى ولو تنازل عنها) من الترشح لمنصب الرئاسة.

تستبعد المادة ٧٥ المصرى المتزوج من أجنبية، وهو شرط مفهوم ويسرى على بعض الجهات الأخرى الحساسة بالدولة كالسلك الدبلوماسى (وإن كان هناك بعض الاستثناءات للمتزوجين ممن يحملن جنسيات عربية)، ولكن يتعارض ذلك مع الحكم الصادر عن المحكمة الدستورية بأن اختيار الزوجة جزء من الحرية الشخصية للفرد ولا يجوز تقييده.

كما أن اشتراط ألا يكون والدا المرشح مزدوج الجنسية، (وهو أمر يخرج عن النطاق الطبيعى لتقييم مدى صلاحية المرشح للرئاسة) يستبعد أعداداً كبيرة من فئة مهمة من المصريين ويشكك دون داع فى وطنيتهم، مُبرزاً قدراً من التشدد يتعارض مع روح ما طالبنا به من ميدان التحرير بأن تكون المواطنة أساساً لحقوق وواجبات الفرد، فضلاً عن أن حرمان ابن مزدوجى الجنسية من الترشح يعد عقاباً له على أمر لم يقترفه. كما أن القانون المصرى يسمح بازدواج الجنسية، والمنطق يقتضى أنه لا يجوز أن يترتب على ممارسة حق قانونى إسقاط حق آخر.

وأخيراً يتعارض تقييد حرية الترشح بهذا الشكل مع مبدأ المساواة أمام القانون الذى يضمن للمواطن أن يحصل على الوظائف بناء على كفاءاته ومؤهلاته الشخصية، وهو من أهم المبادئ الدستورية -بل والمبادئ العامة للقانون الطبيعى- التى تقيد يد المشرع الدستورى عند وضعه أو تعديله الدستور، إضافة إلى أن هذا التمييز يتعارض فى جوهره مع التزامات مصر الدولية وفقاً للعهد الدولى للحقوق السياسية والمدنية.

السؤال الذى يفرض نفسه هو: لماذا شرعت اللجنة فى تعديل هذا الشرط وصياغة النصوص الخاصة بالجنسية بهذا الشكل التفصيلى المدقق؟ ولعله من الأجدى إتاحة الفرصة للشعب أن يختار رئيسه دون تلك العقبات المصطنعة، فالشعب هو الذى سيد قراره، والشعب لم يدع فى أى فترة من الفترات لتقييد شروط الجنسية على الرئيس. فضلاً عن أن الهدف الأول من التعديلات الفورية للدستور هو إسقاط وتبديل المواد الرديئة فى دستور ١٩٧١ التى كان هدفها الوحيد هو تمكين شخص بعينه من الترشح لمنصب الرئاسة واستبعاد من عاداه. وعليه كان يجب أن ينحصر دور اللجنة، فيما يخص تعديل شروط الترشح للرئاسة، فى تغيير هذا الوضع وفتح باب الترشح أمام كل من يصلح لهذا المنصب.

فليس الهدف هو الحد من حرية الشعب فى الاختيار بأى حال من الأحوال. فإذا قيدت اللجنة من نطاق هذه الحرية، تكون قد صادرت على المطلوب من الناحية السياسية، وتجاوزت حدود اختصاصها من الناحية القانونية. ولا يجوز الاحتجاج بالقول إن التعديلات الدستورية هى تعديلات مؤقتة بطبيعتها. فمما لاشك فيه أن هذه التعديلات فى غاية الأهمية، إذ يترتب عليها اختيار رئيس للجمهورية لمدة أربع سنوات على الأقل، هذا الرئيس المنتخب سوف يلعب دوراً مهماً للغاية فى تحديد أولويات التنمية، وهى أولى الأولويات، فى المرحلة المقبلة، بل سيلعب دوراً كبيراً فى صياغة العقد الاجتماعى (والدستور الدائم) الذى سوف يتم التفاوض عليه خلال فترة رئاسته.

صلاحيات الرئيس: فى المقابل، وبالرغم من العديد من المطالب الداعية لتقييد صلاحيات الرئيس، لم تطرح اللجنة أى تعديلات فى هذا الشأن نظراً- وفقاً لما تردد- لضيق الوقت وتفضيلها ترك تلك الأمور لحين إعداد دستور جديد من قبل جمعية تأسيسية منتخبة من الشعب ، وهو أمر يمكن تفهمه، ولكن لموازنة ذلك كان من المفترض أن تتضمن التعديلات نصاً صريحاً يجعل من الفترة الرئاسية الأولى (التى سيتم خلالها إعداد الدستور الجديد) فترة واحدة لا تُجدد.

فبدلاً من بذل الجهد فى تقييد شروط الترشح الخاصة بالجنسية كان الأولى سد تلك الثغرة حتى لا يقوم رئيس جديد بذات صلاحيات الرئيس السابق الواسعة بالدعوة لكتابة دستور جديد وهو يُفكر فى كيفية تأمين انتخابه لولاية ثانية ، مما يتنافى مع أساسيات مبادئ «تعارض المصالح» التى كان غيابها أحد الأسباب الرئيسية فى تفشى الفساد فى مصر.يضاف إلى ذلك أن نص المادة ١٣٩ يطلق سلطة رئيس الجمهورية فى تعيين نائبه إطلاقاً تاماً، فمن الممكن مثلاً أن يختار الرئيس ابنه نائباً له، ولا يقيده النص فى ذلك.

دستور جديد: لاشك فى أن الشعب قد أسقط شرعية دستور ١٩٧١، وهناك إجماع وطنى حول ضرورة كتابة دستور جديد يليق بمصر وشعبها ، ولكن النصوص الخاصة بهذا الأمر فى التعديلات المطروحة لم ترق لمستوى التوقعات، ولعل أبرز أوجه القصور التى شابت المادة ١٨٩ هو أن الجمعية التأسيسية المعنية بوضع الدستور الجديد سيحددها أعضاء مجلسى الشعب والشورى المنتخبون، وهو ما يعنى أن البرلمان الجديد، الذى من المنتظر أن يشوبه العديد من المشاكل المعروفة والطبيعية فى أعقاب ثورة بحجم ثورة ٢٥ يناير، سيلعب دوراً محورياً فى كتابة هذا الدستور، وكان من الأفضل النص على انتخاب الجمعية التأسيسية مباشرة من الشعب للابتعاد قدر المستطاع عن الصراعات الحزبية التى يجب أن يرقى فوقها الدستور، خاصة أنه من المحتمل أصلاً أن ينص الدستور الجديد على إلغاء مجلس الشورى برمته، فمن المستغرب أن يقوم بعض من أعضائه بكتابة الدستور الجديد.

استفتاء الشعب: عودةً إلى الفكرة الأولى والأساسية، وهى أن الديمقراطية أسلوب أو عملية وليست نتائج، يجب مراعاة سلطان إرادة الشعب ليس فقط فى مضمون التعديلات الدستورية، ولكن أيضاً، وبصفة أساسية، فى أسلوب تمريرها (وهنا نهبب باللجنة الدستورية أهمية نشر نصوص التعديلات رسمياً قبل الاستفتاء بفترة زمنية مناسبة) . فالاستفتاء لن يقوم بدوره كأداة اختيار شعبى مباشر إلا إذا أعطى الشعب اختياراً حقيقياً وليس صورياً.

الأمر الذى يتطلب بالتبعية عرض التعديلات الدستورية بشكل جماعى وليس كنصوص منفردة. ولن يكون رضاء الشعب بالتعديلات الدستورية رضاءً حقيقياً إلا إذا استبعدت اللجنة أى تعديلات لا تعكس إجماعاً واسعاً أو يكون من شأنها أن تحد من نطاق حرية الشعب فى اختيار رئيسه، ولن تعكس التعديلات المقترحة تعدد آراء فئات الشعب المختلفة إلا إذا عرضت التعديلات فى الاستفتاء كنصوص منفردة، قد توافق أغلبية الشعب على بعضها وترفض البعض الآخر. تلك هى المسؤولية التاريخية للجنة تعديل الدستور ولأولى الأمر فى المرحلة الانتقالية.

ختاماً.. هناك حاجة ماسة لاستمرار الحوار الوطنى الجارى حالياً حول التعديلات المطروحة وخلق آليات لتنظيمه، ونتطلع لأن تقوم اللجنة بتضمين المقترحات المفترض أن تتمخض عن هذا الحوار فى التعديلات قبل طرحها للاستفتاء لتفادى العديد من المشاكل التى قد تشوب الانتخابات والإجراءات المنتظر أن تتم على أساس تلك النصوص المُعدلة، خاصة أن الحوار الدائر أبرز حتى الآن عدة تحفظات حول النصوص المطروحة من قبل العديد، ومنهم خبراء دستوريون وقضاة مرموقون.

بقلم:

د. كريم أبويوسف

■ مدرس بحقوق جامعة القاهرة

■ دكتوراة فى القانون الخاص والدولى من جامعة ييل بالولايات المتحدة.

د. عبيدة الدندراوى

■ دبلوماسى بوزارة الخارجية

■ دكتوراة فى الدراسات الأمنية الدولية

■ ماجستير فى القانون الدولى والدبلوماسية من مدرسة فلتشر بالولايات المتحدة

Almasry Alyoum

No comments: