Friday, March 11, 2011

جيهان أبوزيد تكتب: «صنع الله».. راجل وست وخبز وورود

حين التقت «صنع الله» قالت له ضاحكة: أنا أيضا «صنع الله» لكن «ست». ربما كانت المرة الأولى التى أتأمل فيها مغزى الاسم حين التقيتها، سيدة أنيقة فى نهاية العقد السادس من العمر، أشعلت ميدان التحرير بحماسها، وأيقظت الإيمان بالثورة حين اعترى المتظاهرين اليأس عقب خطاب ما قبل «التنحى». فوجئت بسيدة كبيرة تتحرك برشاقة تتعارض مع العصا التى تحملها بيدها اليمنى، تنطلق وسط الجموع صائحة «لا تيأسوا، سيرحل سيرحل، الصبر يا شباب، الصبر يا أهل التحرير» التفت حولها بعض المتظاهرين وهرع آخرون حاملين هتافها إلى أرجاء الميدان ليسكنوا الدموع والأمل الذى أهدره الخطاب.

كانت «صنع الله» السيدة المصرية التى استقبلت قطارا كاملا قادما من مدن القناة عقب أيام ثلاثة فقط من نكسة ١٩٦٧ - وقودا للميدان، لم تربط «صنع الله» بين دورها وهى طالبة جامعية فى توفير مساكن آمنة للأسر الهاربة من جحيم مدن القناة آنذاك، ودورها فى ميدان التحرير. ردت قائلة: عملت المفروض علىَّ وأنا شابة، وعملت نفس الشىء يوم ٢٥ يناير.

لم تكن «صنع الله» نموذجا وحيدا بين نساء ميدان التحرير، ضم الميدان أجيالاً من النساء من الشرائح كافة ومن مختلف البقاع، اجتمعن على الثورة ضد «الفساد والتمييز والظلم». قدمت نساء التحرير مع رجاله مشهدا رائعا فى التعاون والاحترام، لم يجهض أى رجل محاولة سيدة ترغب فى العطاء، ولم تفلح التقاليد فى تكبيل دور النساء، وفى اعتصام النساء ليلا على مدى الأيام الثمانية عشر، لم ترهب قائمة المحظورات النساء والفتيات من المشاركة فى جميع تفاصيل العمل الميدانى، بدءا من الإذاعة إلى توزيع البيانات إلى تنظيف الميدان وعلاج الجرحى إلى حمل الأدوية وحمايتها وقت أن صار دخول الأدوية للميدان عملاً خطيراً أشبه بالعمل الفدائى.

تعترف «صنع الله» بدهشتها من جيل الشابات اللاتى لم ترهبهن الجمال والسياط قائلة: شاهدت الفتيات يقذفن راكبى الجمال بالطوب ردا على هجماتهم، بينما أخذت أخريات فى تكسير الحجارة الكبيرة وتوصيلها للمتظاهرين فى الخط الأول. وانتهت «موقعة الجمل» كما يحلو للمتظاهرين تسميتها، وتلتها مواقع أخرى مختلفة الأشكال والملامح، وفى الجميع لم تتوار النساء خلف أى حُجُب، بل كن حاضرات فى التخطيط وفى المواجهة وفى المتابعة.. لم تركن نساء التحرير للظلم، كما لم تركن النساء للظلم فى أى عصر من العصور رغم القيود التى تكبلهن، فقبل أكثر من مائة وخمسين عاماً، وفى عام ١٨٥٧ خرجت آلاف النساء للاحتجاج فى شوارع مدينة نيويورك على الظروف اللاإنسانية التى كن يجبرن على العمل فى ظلها، ورغم أن الشرطة تدخلت بطريقة وحشية لتفريق المتظاهرات إلا أن المسيرة نجحت فى دفع المسؤولين إلى طرح مشكلة المرأة العاملة على جداول الأعمال اليومية كما شُكلت أول نقابة نسائية لعاملات النسيج فى أمريكا بعد سنتين على تلك الثورة، التى تلتها ثورة أخرى بعد خمسين عاماً فى الثامن من مارس من سنة ١٩٠٨ حين عادت الآلاف من عاملات النسيج للتظاهر من جديد فى شوارع مدينة نيويورك لكنهن حملن هذه المرة قطعاً من الخبز اليابس وباقات من الورود فى خطوة رمزية ذات دلالة، حاملات شعار «خبز وورود»، حيث طالبت المسيرة هذه المرة بتخفيض ساعات العمل ووقف تشغيل الأطفال ومنح النساء حق الاقتراع.

وفى عام ١٩٧٧، وافقت الأمم المتحدة على اعتبار يوم ٨ مارس رمزاً لنضال النساء المطالبات بالعدل والحرية وخُصص بالفعل ليكون يوما عالميا يتذكر فيه شرفاء العالم وأحراره من سقطن موتا، طلبا للعدالة ورفع الظلم، كما أنه يوم لمراجعة قائمة العمل لاستكمال رفع الظلم الذى يواجه النساء تحت مسميات عدة فى كل بقاع الأرض.

أتصور أن يوم «٢٥ يناير المصرى» سيكون دوما، وعلى مدى التاريخ، يوم مراجعة الإنجازات وحصر المتبقى على طريق تحقيق العدالة ودرء الفساد ومواجهة التمييز بكل أشكاله ومسبباته، يوماً نتباهى فيه بـ«صنع الله» وهن كثر، وبكل «صنع الله» تركت وراءها أعمالا وصغارا وأوانى طبخ، لتستكمل نسيج التحرير الذى لم يصنعه ولن يصنعه إلا النساء والرجال معاً.. و«صنع الله» الرجل والمرأة

Almasry Alyoum

No comments: