لم أكن أحلم «على الإطلاق» بأن يأتى يوم أصارح فيه أهلى بحقيقة أمرهم!! لم أكن أحلم «على الإطلاق» بأن يأتى يوم أصارح فيه عموم «الشعب» بأمر لم أصارح به إلا أخلص أصدقائى.. إذ كيف لك أن تصرح لشعب بأكمله بأنهم شعب من العبيد؟ إلا أن هذا اليوم قد جاء أخيراً، والآن- فقط- يمكننى أن أقول للشعب المصرى بأنهم شعب من العبيد!!.. لم يكن إحجامى عن التصريح ناتجاً عن «خوف» وحسب، وإنما كان نتيجة إدراكى أن القيام بمثل هذا العمل هو «حماقة»، لأن التصريح بمثل هذا الأمر هو أمر يؤذينى ويؤذيهم.. يؤذينى لأن رد فعل «أولياء الأمور» سوف يكون عنيفاً حيث من غير المسموح به أن يكاشف العبيد العبيد.. كما أنه أمر يؤذى العبيد، لأنه سيكشف لهم عن أمر لا يستطيعون حياله شيئاً!!
اليوم فقط بعد أن تحرر العبيد أستطيع أن أصارحهم بحقيقة أمرهم- أى أنهم «كانوا» عبيداً، ويبقى السؤال: ماذا يفعل العبيد الآن وقد تحرروا؟! دعونى أذكركم بأنه فى منتصف القرن الماضى قام الملك فيصل، رحمه الله، بإصدار قرار بتحرير العبيد فى المملكة العربية السعودية.. خرج «الأحرار» إلى فضاء السعودية الواسع بل غيروا اسم «الحلة» التى كانوا يقيمون بها فى «بطحاء» الرياض من «حلة العبيد» إلى «حلة الأحرار».. ومع ذلك رفض الكثير من «الأحرار» أن يتركوا بيوت سادتهم وينطلقوا إلى أرض الله الواسعة، حيث لم يكن لديهم ما يمكن أن يقدموه إلى أى إنسان مقابل قوتهم سوى أن يكونوا عبيده وجواريه- وهو ما لم يعد مباحاً بل أصبح ممنوعاً ومحرماً، وبقى «الأحرار» فى بيوت سادتهم الذين شعروا- أى السادة- بأن عليهم التزاماً أخلاقياً برعاية عبيدهم السابقين غير المؤهلين لرعاية أنفسهم!!.. مات «الأحرار» «عبيداً» فى بيوت سادتهم. كان على السادة أن ينتظروا جيلاً وأحياناً جيلين، حتى يتم تأهيل «الأحرار» على مواجهة الحياة بأنفسهم من غير سادة «يرعونهم»!!
فى ٢٥ يناير ٢٠١١ خرجت مجموعة من الشبان والشابات فى شوارع القاهرة تطالب بحقها فى الكرامة، والحرية، والعدالة الاجتماعية.. كان المشهد عجيباً فى مدينة لم تسمع منذ أن أنشأها المعز لدين الله الفاطمى سوى صياح الجياع طلباً للخبز!
كان المشهد عجيباً فى الإسكندرية، والسويس، والمنصورة، والإسماعيلية، وعشرات المدن الأخرى فى مصر.. كيف للعبيد أن يطالبوا بالكرامة؟ كلنا كنا نتوقع ثورة «الجياع».. فى بلد العبيد يخرج العبيد يطالبون بالخبز. الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية لا تهم العبيد.. الأحرار فقط هم الذين تهمهم الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.. كان يوم ٢٥ يناير هو اليوم الذى أعلن ميلاد «المصريين الجدد»، وهو يوم استقبله «قدامى المصريين» بمشاعر مختلطة، حيث رأوا فيه وعدا بخبز أكثر فى قابل الأيام، كما رأوا فيه تهديداً لخبز يومهم.. خرج الجميع- أى الجميع من قدامى المصريين- كل يبحث عن رغيفه.. هناك من قبل على الفور برغيفين من الخبز وكيلو أو اثنين من «اللحمة» مقابل القضاء على «المصريين الجدد».. وهناك من «يتفاوض» من أجل عدد أكبر من الأرغفة مقابل خدماته كخبير دستورى، أو سياسى، أو إعلامى، أو عسكرى. كلهم عبيد لا يهمهم إلا عدد الأرغفة التى سيحصلون عليها فى نهاية الأمر!!
أما موقف الأغلبية العظمى الذين لم يعلنوا موقفهم- فالعبيد ليس لهم مواقف- فهو الانتظار حتى يسفر الأمر إما عن انتصار «المصريين الجدد» أو انتصار «أولياء أمورنا» وعندئذ سوف يخرجون لتأييد المنتصر أيا من كان.. كل ما يهم قدامى المصريين هو خبز يومهم!!
أشكر أبنائى الذين ضحوا بحياتهم من أجل حقهم فى العيش بكرامة..
أشكر كل شاب وشابة سارت أقدامهم الطاهرة فى شوارع وميادين مصر طلباً للكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.. أشكر الملائكة الذين ذهبوا إلى لقاء خالقهم..
لم أكن أتخيل فى يوم من الأيام أن أرى مصرية أو مصرياً يفضل أن يموت على أن يعيش عيشة الذل التى نحياها.. كنت أظن أن الأوروبيين فقط هم الذين تهمهم الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية..
أعتذر لمصر لأنى كنت أنظر إليها دوماً على أنها أرض الذل والاستبداد والخنوع!!
لم أكن أتصور، ولو للحظة، أن هذه الأرض يمكن أن تنجب نساء ورجالاً أحراراً.. كم أنا سعيد بأن الأيام أثبتت خطئى!!.. كم أحب شباب ٢٥ يناير.. كم أحب المصريين الجدد!!
أ.د. كمال شاهين
مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة- أبوظبى
No comments:
Post a Comment