أكتب اليوم من القاهرة. وصلت مساء الجمعة وكل ما أفكر فيه انطباعى الأول حين أعود. كنت فى مصر آخر سبتمبر الماضى. وبالقطع الكثير قد حدث منذ هذا الحين. أولى البشائر الإيجابية كانت من نافذة الطائرة، حين رأيت سيارات تبدو غاية فى الصغر نظرا للمسافة: مازالت هناك سيارات فى الشوارع!
فالصورة التى فى مخيلة الكثيرين ممن لم يشهدوا الأحداث بأنفسهم هى انعدام الإحساس بالأمان لدى المصريين حاليا. سمعنا عن غياب الشرطة، عن اعتداءات على الأملاك، والتأريخ هنا ليس ليوم ٢٥ يناير نفسه ولكن لفجر ٢٦ يناير، وبداية ممارسات «إرهاب الدولة» ضد المتظاهرين بهدف نشر الفزع والخوف بين بقية المواطنين حتى يُخيّر الشعب المصرى بين التغيير بأيديه أو الفوضى المفروضة عليه.
ولكن قد يكون للبعد ميزة وحيدة، وهى رؤية الأمور كسلسلة من تتابع الأحداث، مما يسمح بمزيد من العملية و«البراجماتية» فى التفكير PragmaticThinking وليس الانفعال بالمشاعر كما هو الحال حين نعايش الموقف. «والعملية» فى التفكير هذه جعلت من ينظر من الخارج يدرك أن الأمور فى مصر ستسير على ما يرام مع مرور الوقت إذا ما ثابر الشعب المصرى والتزم بقراره أن يُولد من جديد فى صورة مواطن حر ذى حقوق وواجبات. فكان أسهل علىّ أن أرى أن الاضطرابات وقتية والإفزاع خطة يائسة لن تدوم طويلا.
الشك الوحيد كان فى مدى التحمل تحت الضغوط من انفلات أمنى إلى تلويح بأمور طائفية إلى ظرف تعجيز اقتصادى. الشك كان: من يتحمل كل هذا؟ وكما كان السؤال أثناء الثورة كل يوم: هل يظل المصريون فى التحرير؟ والفزع من أن نرى الميدان قد أخلى، فبعد ١١ فبراير كان القلق أن تتعاقب الأحداث بسرعة شديدة تفقدنا القدرة على رؤية الصورة كاملة.
ولكن هذا ما لم يحدث. رغم الضغوط نجح المصريون فى إسقاط وزارة غير شرعية، ومع التغيير جاء وزير داخلية جديد مهمته فى الوقت الحالى تعبئة قوات الشرطة للقيام بعملها الأمنى كما يجب، فى ظل احترام لحقوق المواطن، ولذلك حين أصبح «السبت» خرجت فى شوارع مصر ورأيت المواطنين فى سياراتهم يحيّون الضباط والعساكر الذين جاءوا عند الإشارات وتفارق الطرق. شعرت بروح جديدة تماما فى تلك العلاقة بين المواطن وممثلى الدولة: علاقة احترام متبادل، وهو الأمر الذى يجب أن تقوم عليه كل العلاقات.
ولذلك اليوم أعود لأسمع فقط ممن عايشوا الأحداث ويرونها من موقع الخبرة وليس التنظير، ولأنى أدرك تمام الإدراك أن «العدد» هو ما أنجح هذه الثورة، فإن تحيتى لكل فرد مصرى ومصرية من أهلى كانوا فعلياً هنا فى مصر. فوجودكم هو ما صنع الحدث، ومثابرتكم هى ما ستداوم إنجاحه. فالكلام النظرى قد يكون سهلاً ولكن من «يفعل» هو من يأخذ أكبر المخاطر. وفى اتخاذ المخاطر المحسوبة إمكانية قصوى لأن «نكون». من القاهرة اليوم، أشعر أننا بالفعل كائنون، ومتفائلة أننا سنظل.
ومن أسعد الأخبار التى قرأتها هو إعلان المبادئ «الذى يضمن حق العمال فى إنشاء نقابات عمال مستقلة، ويعترف بحقهم فى إدارة شؤونها، ووضع لوائحها، واختيار قياداتها، والتصرف فى أموالها».
أما ما قد يسعدنى أكثر فهو الخطوة التالية يوم ١٩ مارس، الذى نرفض فيه التعديلات الدستورية المقترحة بالذهاب للتصويت «لا»، رغم أن بعضها جيد. فالمشاكل عدة:
أولاً: الدستور رغم التعديلات يجعل رئيس الجمهورية يؤدى اليمين أمام مجلسى الشعب والشورى، موجباً بذلك إجراء الانتخابات البرلمانية قبل الرئاسية، مما يعوق إقامة أحزاب جديدة تعبر عن الحياة السياسية الحالية والمستقبلية، يتعرف المواطنون على برامجها ومرشحيها فى ممارسة حقيقية لـ«سوق الأفكار» والتنافس الصحى بينها. فالعنصران المنظمان حالياً والقادران على خوض الانتخابات والفوز فيها هما جماعة الإخوان المسلمين وأعضاء الحزب الوطنى. وهما وإن كان لهما كل الحق فى التواجد السياسى فى مصر «الجديدة» فيجب ألا يعنى هذا إعادة البنية السياسية التى تجعلهما «يحتكران» الحياة السياسية فى مصر.
ثانياً: حظر الترشح لرئاسة الجمهورية على حاملى جنسية أخرى أو المتزوج من غير مصرية أو أحد والديه يحمل جنسية أخرى، يمكن تبديله بإمكانية الترشح بشرط تنازل المرشح عن الجنسية الأخرى. فلا يجب إقصاء أو معاقبة من لم يخرق قانون البلاد القائم الذى يسمح بحمل جنسيتين.
ثالثاً: ربط التعديلات جميعاً، إما قبولها كلها أو رفضها كلها، ليس منطقياً.
رابعاً، وهو الأهم: المصريون المعاصرون بعد ثورتهم يستحقون دستوراً جديداً يلد مصر من جديد ويعكس تطلعها نحو المستقبل. فهكذا يعاد ميلاد الأمم فى مخيلة شعوبها لتكون شابة، عفية، واثقة.. أدعوكم لعدم مقاطعة الاستفتاء ولكن لنقل «لا».
مروى مزيد - Almasry Alyoum
■ زميل مركز دراسات الشرق الأوسط، جامعة واشنطن، سياتل، الولايات المتحدة الأمريكية
No comments:
Post a Comment