Friday, March 18, 2011

الثقافة.. وشرعية الثورة


استقبل البعض خبر تعيين الدكتور عماد الدين أبوغازى وزيرا للثقافة فى الحكومة الانتقالية بترحات، وانتقد البعض هذا التعيين باعتباره مخيبا للآمال العريضة فى تغيير ثقافى جذرى وحقيقى.

فنقطة القوة الأساسية التى تبرر اختيار عمادالدين أبوغازى وزيرا للثقافة، وهى معرفته الواسعة بشئون الإدارة الثقافية وبخريطة الثقافة والمثقفين المصريين، بسبب عمله لأكثر من عشر سنوات فى المجلس الأعلى للثقافة، مديرا لإدارته المركزية، ثم أمينا عاما له، هى للمفارقة المؤسية نقطة ضعفه القاتلة فى الوقت نفسه.

لأن أكثر من عشر سنوات من العمل فى مؤسسة الثقافة الفاسدة التى حولها وزيرها الفاسد إلى حظيرة للاحتواء وشراء الذمم وإجهاض أى ثقافة حقيقية كافيه لتلويث أكثر المثقفين نزاهة ونقاء.

فلم يسلم أحد من الذين عملوا لسنوات طويلة مع الوزير «الفنان» بين قوسين، (هكذا كنت أشير إليه دوما فى عنفوان سلطته، وليس بعد أن كنسته هو ونظامه رياح الثورة) من أدران سياساته الثقافية الحمقاء التى حولت الثقافة إلى مهرجانات للفرجة يستمتع بها الرئيس المخلوع وزوجته التى كانت تحلى صورتها أغلفة جل الكتب التى تطبعها وزارة الثقافة كل موسم، وتتحول مكافآتها المجزية للبعض والمخزية للآخرين، إلى رشاوى مفضوحة لإدخال المثقفين إلى حظيرته سيئة السمعة.

كما أن السنوات القليلة التى انفرد فيها عماد أبوغازى بقيادة المجلس الأعلى للثقافة، لم تتح له أن يبلور أى قطيعة وظيفية أو معرفية مع النظام السابق فى المجلس، والذى أرساه جابر عصفور (وزير الثقافة فى الحكومة السقطة والساقطة التى أتى بها الرئيس المخلوع فى أيامه الأخيرة) وسار عليه خلفية: على أبوشادى ثم عماد أبوغازى.

صحيح أن جابر عصفور قد قفز كفئران السفن من سفينة تلك الحكومة قبل أن تغرق باستقالته منها لـ«أسباب صحية»، وليس لصحوة ضميرية، أو لعودة وعى زائفة، ولكن لأن أنس الفقى قد أهانه وأحرجه وعراه أمام زملائه الوزراء.

لا أريد هنا أن أرحب باختيار عمادالدين أبوغازى للوزارة كبعض من رحبوا باختياره، أو أن أنتقد هذا الاختيار كما فعل آخرون، ولكن ما أريد أن أطرحه عليه هنا راجع لسببين: أولهما الوفاء لذكرى علاقة قديمة وأنا فى شرخ الشباب مع والده النبيل بدر الدين أبوغازى الذى عرفته أثناء عملى مع أستاذنا الراحل الكبير يحيى حقى فى مجلة (المجلة)، حينما كان ينشر بها مقالاته، وشاءت الظروف بعدها أن أختبر معدنه بعد توليه لفترة وجيزة وزارة الثقافة، وفى ظروف لا تقل حرجا وحساسية عن تلك التى يتولاها فيها ابنه.

وثانيهما أننى ككثير من المثقفين الذين انتقدوا الوزير الفاسد السابق وسياسات وزارته الحمقاء، أجد أن الثورة تتطلب منى ومنا جميعا المساهمة فى بلورة قيمها الجديدة فى مجال عملنا الثقافى من ناحية، كما أننى أتوسم فيه، كابن لبدر أبوغازى وحفيد لمحمود مختار، قدرة على تقدير الظرف الصعب الذى يتولى فيه تلك الوزارة، ووعيا بعبء المهمة الكبيرة والفادحة التى ألقيت على عاتقه، وهو ما دفعه قبل أسبوع إلى تلبية الدعوة التى وجهها له الفنان محمد عبلة لحضور الاجتماع الذى نظمه أتيليه القاهرة لمناقشة الورقة المهمة التى طرحها الفنان عادل السيوى حول الدور المبتغى فى المرحلة القادمة للمجلس الأعلى للثقافة.

لهذا كله أريد أن أطرح عليه هنا مجموعة من الأفكار التى قد تتيح له أن يحدث قطيعته الثقافية والمعرفية والتنظيمية، وهى قطيعة ضرورية ومطلوبة، مع تراث الفاسدين: فاروق حسنى وجابر عصفور.

وأول ما أريد أن أطرحه عليه هو أن يعى أن ثمة شرعية جديدة هى شرعية الثورة، يجب أن تكون مصدر كل السياسات والخطط المستقبلية فى الثقافة كما فى غيرها من المجالات، بل قبل غيرها من المجالات.

فلا يحافظ شىء على الروح التى عادت لمصر مع ثورة 25 يناير أكثر من الانطلاق من شرعيتها لبناء نظام جديد. ويستطيع من تابع أحداث هذه الثورة أن يرى كيف كانت عودة الروح التدريجية تلك تمدها بزخم متنامٍ، يتجلى فى صمودها واستمرارها من ناحية، وفى التبلور العقلى الناضج والمتصاعد لمطالبها المشروعة من ناحية أخرى.

ولهذا لابد من الحفاظ على تلك العنقاء التى ولدت من رماد الهوان الذى مرغ فيه نظام مبارك المخلوع مصر كلها.

لابد من الحفاظ على ذلك الكائن الجميل المستحيل معا، ليس فقط من أجل مصر، ولا حتى من أجل العرب، بل من أجل العالم كله الذى بهرته ثورة مصر، وانحنى لها إجلالا وتقديرا، حيث يعتبرها معظم من كتبوا عنها فى الغرب أحد أهم ثورات التاريخ وأكبرها وأكثرها رقيا وتحضرا. فقد ظل تيار الثورة فى التصاعد، برغم كل مؤامرات النظام وإعلامه وخطاب مؤيديه وكلاب حراسته المفضوح.

وقد أثبت الشعب المصرى رقى معدنه، وعلّم العالم درسا فى معنى أن تكون متحضرا بحق، وليس متشحا بقشور الحضارة وطقوسها وأدوات بطشها، وراءك آلاف السنين من الحضارة والعراقة التى تحولت إلى حدوس عميقة ترود حركة المتظاهرين برغم بساطة الكثيرين منهم. واستطاعت الثورة بنبلها ورقيها واحتلالها للموقع الأخلاقى الأسمى أن تحقق الكثير. وظل الشعب المصرى على مد أيام الثورة المتتابعة واعيا بهدفه لايحيد عنه. فقد كان شعار الثورة الرئيسى هو «الشعب يريد إسقاط النظام»، وهو شعار محورى، لأنه يوشك أن يكون الشعار الوحيد، بين شعارات الثورة الكثيرة المصاغ بالفصحى، بينما جل الشعارات مصاغة بالعامية المصرية.

وهذه الصياغة اللغوية الفصيحة تكسبه ثقلا إضافيا دالا. وقد سقط رأس النظام، لكن لابد من إسقاط النظام بأكمله حتى يمكن بناء نظام جديد على أسس وقواعد جديدة. نظام ينطلق من الشرعية الجديدة التى أسستها هذه الثورة وأرست بتضحياتها ودمائها أركانها.

فقد كشفت ثورة 25 يناير وهى ترد الروح لمصر، عن معدن شعبها المتحضر الأصيل، وعن قيمه التى ظن الكثيرون أنها قد ضاعت، ومشاعر العزة والكبرياء والفداء التى توهم القهر والاستبداد أنه قد أجهز كلية عليها، وها هو الشعب المصرى يطرح عن نفسه مخاوفه التى عمل كلاب حراسة النظام البائد فى الثقافة والإعلام على تكريسها فيه.

وأهم من هذا كله يكشف عن وعى ناضج باهر، وإصرار قوى على التغيير الكامل للنظام دون مساومة أو تنازلات.

وهكذا تؤسس هذه الثورة شرعية جديدة، شرعية شعبية غير مسبوقة من حيث الحجم والاتساع وانضمام كل عاقل راشد لمظاهراتها المليونية.

فبعد عدة ملايين فى جمعة الغضب، تجاوز العدد العشرة ملايين فى جمعة الرحيل، ثم بلغ العشرين مليونا فى جمعة التحدى أو الطوفان، بمعنى أنه لم يمض على الثورة أكثر من أسبوعين حتى انضم إليها كل عاقل راشد فى الشعب المصري، وظلت الطغمة الحاكمة معزولة، ليس فقط أمام شعبها بل أمام العالم كله، وقد سقطت شرعيتها سقوطا مدويا أذهل حلفاءها وأصدقاءها قبل أعدائها.

من هذه الشرعية الجديدة، الشرعية المليونية الجارفة التى كنست فى طريقها كل ما يمثله النظام الذى أصرت على سقوطه من قيم وممارسات لابد أن ينطلق أى عمل ثقافى جديد. لابد الآن من الانطلاق من هذه الشرعية الجديدة لتأسيس نظام سياسى وثقافى جديد يلبى مطامح الثورة ويبلور حكما ينهض بحق على شرعية شعبية حرّة وعريضة.

ويعتمد نجاح الثورة فى تحويل شرعيتها تلك إلى واقع ونظام حكم على تغيير الثقافة فى المحل الأول. فقد كان فساد الثقافة وفساد القيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية هو الذى كرس كل سلبيات النظام المخلوع، وهو فساد لم تسلم منه كل قطاعات الثقافة من الصحافة حتى الكتاب وكل المنتجات الثقافية المرئية والمسموعة، وغيرها من الممارسات الثقافية المختلفة.

وحينما أتحدث عن الثقافة هنا فإننى اتحدث عنها باعتبارها منظومة من القيم والممارسات الفكرية والثقافية والأخلاقية معا.

لابد إذن أن يدرك عمادالدين أبوغازى بداءة أنه ينطلق من شرعية جديدة تتطلب رؤية جديدة، وبنية ثقافية جديدة، وممارسات تنظيمية جديدة.

تحدث قطيعتها الصارمة مع القديم بكل رموزه الفاسدة.

ولابد أيضا أن يعى أنه بالرغم من عفن كل الممارسات الثقافية التى تعامل معها عن قرب لأكثر من عشر سنوات، ظلت ثقافة الشعب المصرى، وبنية مشاعره (حسب مصطلح رايموند وليامز الشهير) سليمة برغم كل البطش الجهنمى الذى عانى منه الشعب المصرى لأكثر من نصف قرن. ليس فقط لأن معدنه نفيس، أو لأنه شعب وراءه آلاف السنين من الحضارة والإنسانية والرقى، ولكن أيضا لأنه وجد فى العالم الافتراضى وفضاءاته الحرة منابره البديلة لتلك التى استولت عليها ثقافة الفساد وانتهكتها مطبوعاتها المحلاة بصورة زوجة الرئيس المخلوع.

لابد إذا أن يحدث قطيعته الكاملة مع الماضى، وأن يعمل فى الوقت نفسه على إحداث تغيير حقيقى وجذرى فى الثقافة وللثقافة، لأن هذا هو أحد أهداف الثورة وضروراتها الأساسية. أقول: تغيير جذرى فى الثقافة بكل ممارستها ومؤسساتها الثقافية، وللثقافة التى تبلورها الممارسات والمؤسسات باعتبارها رؤية ومستودعا للقيم، لا أمل بدون تغيير جذرى فيهما معا لتحقيق ما تصبو إليه الثورة.

فكيف يكون ذلك؟ هذا ما سنطرحه عليه فى المقال المقبل
.

بقلم:صبرى حافظ - الشروق

No comments: