Friday, March 18, 2011

أحمد السيد النجار لـ(الشروق): إصلاح الأجور بوابة خروج المصريين من نفق الفقر



بينما أتاح سقوط نظام مبارك للكثيرين فرصة لنقده بصراحة وتحميله المسئولية عما آلت إليه الأوضاع، فإن قليلين هم من امتلكوا شجاعة مواجهة نظام قمعى سيئ الأداء بحقيقة دوره فى تخريب مصر، فى أثناء حكمه. أحمد السيد النجار، رئيس الوحدة الاقتصادية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، كان ممن واجهوا بإصرار من خلال جهد علمى منظم لكشف فساد النظام، توّجَهُ بكتاب «الانهيار الاقتصادى فى عصر مبارك» الذى صدر فى 2005 فى أوج ازدهار مشروع توريث الحكم. «الشروق» حاورت صاحب الكتاب الذى كشف مبكرا عن الانهيار ليحكى خلاصة 30 عاما من التخريب الاقتصادى، ويساهم فى رسم خارطة طريق لبناء الاقتصاد المصرى بعد الثورة.

أردت أن أكتب كتابا فيه تقييم للوضع الاقتصادى بعد مرور ما يقرب من 25 عاما من حكم الرئيس السابق حسنى مبارك، على غرار كتاب على الجريتلى، (ربع قرن بعد ثورة يوليو)، ولم أكن أنوى فى البداية أن أسميه الانهيار الاقتصادى لكنى بعد الانتهاء من جزء كبير منه لم أجد وصفا آخر غير الانهيار يتفق مع ما جرى خلال تلك السنوات، التى شهدت حالة معاكسة تماما لحالة البناء التى تلت ثورة يوليو، تمثلت فى تراكم مذهل لسوء الأداء، والوصول بالبلد لمستوى مروع من الفساد». يحكى أحمد السيد النجار حكاية الكتاب الذى صدرت منه عدة طبعات خلال السنوات الأخيرة.

«كنت متصورا بعد الانتهاء من فصول هذا الكتاب أن الشرط الموضعى لقيام الثورة قد صار ناضجا بالفعل، وأنها تحتاج إلى فتيل الإشعال فقط، وهى مسألة يصعب التنبؤ بتوقيت حدوثها، «الشعوب تختار لحظات انفجارها».

أعاد حكم مبارك مجتمع النصف فى المائة السابق على ثورة يوليو 1952، لكنه جاء مترافقا هذه المرة مع مستوى من الفساد المالى والسياسى لم تشهد له مصر مثيلا، كما يوضح النجار، واقتصاد تراجعت مكانته العالمية، تحيط به مشكلات البطالة والعجز المالى والديون الداخلية والخارجية، وكانت «كارثتا الختام» فى 2005، كما أطلق عليهما فى كتابه، اتفاقية تصدير الغاز لإسرائيل واتفاقية الكويز «المناطق الصناعية المؤهلة»، باعتبار أن الأولى تمثل عقد إذعان تبيع بموجبه مصر ثروتها الطبيعية بأقل من سعرها العالمى، والثانية اتفاقية تعبر عن مصالح مجموعة ضيقة من رجال الأعمال وصلت إلى السلطة، تدخل بموجبها إسرائيل طرفا فى العلاقة التجارية بين مصر والولايات المتحدة دون سبب اقتصادى وجيه، ولكن لأسباب سياسية تتعلق بأن «إسرائيل صارت المدافع عن نظام مبارك عند الولايات المتحدة»، كما يرى أحمد النجار.

وكان مبارك، قد اتجه لأول مرة، فى 2005، لتبنى برنامج للانتخابات الرئاسية، فى محاولة لإضفاء مظهر من مظاهر الحياة الديمقراطية على انتخابات كانت نتائجها معروفة سلفا، وتضمن هذا البرنامج أهدافا يتم تحقيقها خلال ستة أعوام مثل بناء 1000 مصنع واستصلاح مليون فدان وخلق 4،5 مليون فرصة عمل، وأضاف النجار فصلا فى نهاية كتابه لتفنيد هذا البرنامج بشكل علمى أكد فيه عدم واقعية الأهداف فضلا عن تزييف البيانات، التى يستند إليها، كمساهمة فى إجلاء الحقائق أمام الناخبين قبل الانتخابات، ثم قدم كشف حساب حول ما تم إنجازه من البرنامج فى كل طبعة لاحقة من الكتاب، متمسكا فى دوره بالرقابة على الحكم.

«إن مستقبل مصر فى حاجة للانعتاق من أسر هذا المرشح وحزبه اللذين يصران على إبقاء مصر رهينة لنظام القمع والقهر والظلم الاقتصادى ــ الاجتماعى المروع. هذا الانعتاق هو مهمة شعبنا العظيم»، بهذه الكلمات ختم النجار كتابه الذى صدر قبل إجراء الانتخابات الرئاسية فى 2005. الآن وبعد أن تحقق الشرط السياسى لانطلاق مصر فى مسار التنمية، بقيام ثورة يناير، هناك عدة خطوات يراها النجار أساسية لإعادة الاقتصاد المصرى لمساره الصحيح.

ويرى النجار أن نظام ما بعد الثورة يجب أن يقوم على اقتصاد مختلط تلعب فيه كل من الدولة والقطاع الخاص أدوارا متوازنة، «لأن انسحاب الدولة بشكل كامل هو نوع من العبث»، وفى هذا الصدد يوضح النجار أن كثيرا من الدول الغربية الرأسمالية يصل حجم إنفاقها العام لضعف ما تنفقه مصر، مشيرا إلى أن هذا الإنفاق يوجه، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، لضمان مستوى لائق لمعيشة المواطن والخدمات التى يتلقاها.

تحويل مصر لورشة عمل كبيرة

تعتبر البطالة المتزايدة هى عنوان الإخفاق الكبير لعهد مبارك، كما يقول النجار، حيث ارتفعت معدلاتها خلاله من 3% فى بداية حكمه إلى نحو 30% بحسب التقديرات المستقلة، بينما تقول البيانات الرسمية أن هذا المعدل يدور حول الـ9% فى العامين الأخيرين. ويوضح رئيس الوحدة الاقتصادية بمركز الدراسات، أن هناك تلاعبا مستمرا فى البيانات الخاصة بالبطالة، فبمراجعة الأخطاء الحسابية الموجودة فى البيانات الرسمية الخاصة بالبطالة فى عام 2009 على سبيل المثال ترتفع النسبة من 9.4% إلى ‏12.4 %‏، هذا فضلا التغيير المتعمد لتعداد قوة العمل التى تحسب البطالة على أساسها.

كذلك فإن «تعريف الحكومة للمتعطل عن العمل يستبعد فئات كثيرة راغبة فى العمل عند مستويات الأجر السائدة، وقادرة عليه ولا تجده» كما يشير النجار. ويمثل الشباب نحو 99% من المتعطلين عن العمل فى مصر، كما تبلغ نسبة المتعلمين منهم نحو 93%، وهو ما يمثل «إهدارا للموارد».

حل مشكلة البطالة المتراكمة ممكن، وبدون تكديس جهاز الدولة بموظفين لا حاجة لهم، بشرط أن تضع الحكومة مسألة التشغيل على قمة أولوياتها، «فعندما تتخلى الدولة عن تعيين الخريجين فى إطار التحول للنظام الاقتصادى الرأسمالى الحر‏، لابد أن تعمل على تهيئة البيئة الاقتصادية لاستنهاض الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة والتعاونية والكبيرة التى تخلق فرص العمل»‏ كما يرى مؤلف «الانهيار الاقتصادى فى عصر مبارك»، خاصة أن تكلفة خلق فرصة عمل دائمة فى المشروعات الاستثمارية الكبيرة بلغت نحو 250 ألف جنيه خلال السنوات الماضية، وهى تكلفة تزيد بنحو 15 ضعف نظيرتها فى المشروعات الصغيرة.

لذلك يجب أن يتم تحويل مصر لورشة عمل كبيرة من المشروعات الصغيرة، التى تشرف عليها حضّانة قومية، تبدأ عملها بناء على إجراء مسح للمواد الخام الموجودة فى جميع المناطق داخل الجمهورية، ولكل الاحتياجات السلعية والخدمية القائمة فى كل قرية ومدينة، بما يجعل إنتاج هذه المشروعات معتمدا أولا على استغلال المواد الخام المتوافرة بالفعل، وموجها لتسديد احتياجات قائمة فعلا فى السوق.

وتتولى الحضّانة مهمة توجيه المشروعات وتوفير التمويل لها وتسويق منتجاتها، وضبط المواصفات القياسية للمنتجات بما يسمح بتسويقها فى الداخل والخارج. كما تضع الحضانة التى تشرف عليها الدولة طريقة واضحة لتقسيم العوائد من المشروعات بين الربح الذى يتم توزيعه، والمبالغ التى يعاد استثمارها وسداد الديون فى حالة اعتماد المشروع على القروض، وتتابع أداء المشروعات خطوة بخطوة لضمان نجاحها.

كما إن إعادة هيكلة الإنفاق العام وتوظيفه بصورة تساعد على خلق فرص عمل جديدة ودائمة فى الصناعة والزراعة والخدمات الحقيقية،‏ يعتبر ضروريا لمواجهة أزمة البطالة‏، «ولا يجب الخضوع فى هذا المجال لأى ابتزاز أيديولوجى، لأن الدولة فى البلدان النامية منوط بها القيام بدور أكبر فى دفع التقدم الاقتصادى»، خاصة إذا كان معدل الاستثمار فى مصر وفقا للبيانات الرسمية بلغ نحو 19.6% من الناتج المحلى الإجمالى فى المتوسط، مقارنة بـ30% فى مجموع الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، ويبلغ نحو 40% فى دول شرق آسيا والمحيط الهادئ، ويبلغ 44% فى الصين، «وهى البلدان التى لديها إرادة لتحقيق نمو قوى وحقيقى».

علاج الفقر يبدأ بإصلاح الأجور

أدت سياسات النظام المخلوع على مدى ثلاثين عاما لإفقار وتهميش أعداد متزايدة من المصريين، تصل نسبتهم إلى 40% على الأقل، ويتطلب علاج الفقر تمكين الناس من فرص عمل تكفل لهم كسب العيش، وتحويلات نقدية لمن يعانون من البطالة وللعجزة وكبار السن، على اعتبار أن «هذا حقهم فى إيراد الموارد الطبيعية لبلادهم»، بينما يوفر وضع نظام عادل للأجور آلية رئيسية للقضاء على الفقر فى مصر، كما يقول النجار.

ويختلف الفقر فى الحالة المصرية عنه فى معظم دول العالم، حيث يرتبط التهميش الاقتصادى عادة بالبطالة، ووجود الأفراد خارج الجهاز الإنتاجى للدولة، أما فى مصر فإن الإفقار تم بدرجة كبيرة للمنخرطين داخل عجلة الإنتاج، من خلال هيكل فاسد للأجور، كما يؤكد النجار، فـ«65% من المصريين الفقراء لديهم وظائف بالفعل، لكن أجورهم لا تنتشلهم من دائرة الفقر».

ويوضح النجار أن توزيع الناتج المحلى بين المصريين بشكل عام يصب بشكل متزايد لصالح الفئات المالكة على حساب العاملين على مدى السنوات الماضية، حيث بلغت حصة أصحاب حقوق العمل من الناتج نحو 30.3% فقط، مقابل نحو 69.7% لأصحاب حقوق الملكية، فى عام 2008/2009، علما بأن نصيب العاملين فى عام 1989 كان 48.5% من الناتج مقابل 51.5% للمالكين.

وفضلا عن هذا الاختلال على المستوى الكلى يوجد خلل واضح فى نظام الأجور والرواتب المتبع فى مصر، وبشكل خاص داخل الجهاز الإدارى للدولة وفى الهيئات العامة التابعة لها، يجعل الزيادة فى الأجور لا تتواكب إطلاقا مع الأسعار السائدة للسلع والخدمات، بحيث يمكن القول أن مستوى معيشة الموظف الحكومى فى بداية السلم الوظيفى قد تراجع بما يزيد على 80% بالمقارنة بين الفترة السابقة على حكم الرئيس السابق، بين السنوات الأخيرة من هذا الحكم، لأن القدرة الشرائية لأجره تراجعت رغم زيادته اسميا، كما يشير النجار فى كتابه، الانهيار الاقتصادى فى عصر مبارك.

ويرى النجار أن رفع الحد الأدنى للأجور يعتبر أولوية الآن، خاصة أن هناك حكما من محكمة القضاء الإدارى بوجوب تغيير الحد الأدنى للأجر، ويطالب العاملون ومنظمات المجتمع المدنى والنقابات المستقلة والمهنية بضرورة رفعه إلى ‏1200‏ جنيه شهريا على الأقل‏.‏ كما أن هناك ضرورة لتطبيق العدالة فى توزيع مخصصات الأجور وما فى حكمها من خلال وضع سقف للدخول الشاملة‏ (الأجر الأساسى مضافا إليه كل البدلات والعمولات والحوافز والأرباح والمكافآت‏)‏، لكل العاملين والموظفين فى القطاع العام والهيئات الاقتصادية والجهاز الحكومى، بحيث لا يتجاوز أعلى دخل شامل لأى مستوى وظيفى‏ 15‏ ضعفا للحد الأدنى لأجر العامل فى الدولة، وهو ما سيوفر الكثير من الأموال التى كانت تذهب بشكل غير عادل لفئة محدودة من القيادات العليا.

ويمكن استخدام الوفورات المتحققة من وضع حد أعلى للأجور الحكومية فى تمويل الزيادة المطلوبة فى الحد الأدنى للأجر، وفى وإصلاح نظام الأجور عموما‏، كما يقول النجار، بالإضافة للمبالغ التى يمكن توفيرها من تقليص المزايا، التى تقدم دون وجه حق للمستثمرين مثل دعم الطاقة الذى تقدمه الدولة للمصنعين.

مواجهة الفساد

يرى النجار أن هناك أولوية قصوى لمواجهة الفساد الذى استشرى على مدى حكم النظام السابق، وطال كل شىء من عمليات خصخصة القطاع العام بأسعار بالغة التدنى، وصلت إلى ‏5 %‏ من قيمته فى كثير من الحالات، إلى الفساد المروع فى منح الأراضى للأقارب والمحاسيب بأسعار رمزية‏، من خلال وجود رجال الأعمال فى السلطة.

ويعتبر مفتاح العلاج هو وضع نظام قانونى صارم لمنع الفساد ومكافحته، بالإضافة لضم كل الأجهزة الرقابية فى جهاز واحد لا يتبع رئيس الجمهورية أو غيره من أعضاء السلطة التنفيذية، بل يكون جهازا مستقلا يقدم قضاياه مباشرة للقضاء، ويعرضها على الرأى العام، ويكون تحت الرقابة الشعبية.

ويعتبر النجار أن وضع نظام عادل للضرائب، والجدية فى تحصيلها، ستكون إحدى آليات مكافحة الفساد فى المرحلة المقبلة، مشيرا إلى أن تطبيق نظام الضرائب التصاعدية ليس بدعة، بل هو المتبع فى معظم الدول الرأسمالية العتيدة، «نريد استنساخ قانون الضرائب البريطانى على سبيل المثال، حتى لا تكون هناك شبهة الترصد ضد رجال الأعمال».

«أعلى شرائح الدخل فى دولة مثل الدانمرك تصل الضرائب عليها إلى 62%، ونحن لا نريدها أن تصل لهذا المستوى، بل نسعى لنظام ضريبى عادل تكون فيه شرائح متعددة، خاصة فى الفئات الأعلى من الدخل (شريحة لـ100 مليون وشريحة لـ500 مليون وشريحة للمليار وهكذا) بدلا الضريبة الموحدة المتبعة الآن، التى تفرض 20% على جميع مستويات الدخل» يقول النجار. ومن جهة أخرى يجب ان يكون نظام الضرائب الذى سيتم تطبيقه مرنا، بحيث تتحرك حدوده الدنيا والعليا سنويا بالتوازى مع معدل التضخم، فيجب أن يتم رفع حد الإعفاء الضريبى على شرائح الدخل الأدنى، لأن القدرة الشرائية لهذا الدخل تتراجع، وبالتالى من المناسب الآن أن يكون حد الإعفاء حتى 20 ألف جنيه سنويا (نحو 1666 جنيها شهريا).

ويرى النجار أن هناك آليات عديدة ستقلص أبواب الفساد، منها فرض رسوم أكبر على استغلال الموارد الطبيعية للبلاد بما يتناسب مع الأرباح الكبيرة التى تدرها على المستثمرين، ووضع قانون صارم لمنع الاحتكار، «ويمكن أيضا نقله من إحدى الدول الرأسمالية، التى تضع ضوابط لضمان حرية السوق».

كما أن إلغاء الصناديق الخاصة، يعد ضرورة فى رأى النجار لإغلاق باب كبير للفساد، وهى الصناديق، التى تسمح بتحصيل أنواع مختلفة من الرسوم من المواطنين دون أن تدخل فى الخزانة العامة للدولة، بل توجه لتلك الصناديق لتكون تحت تصرف المسئولين عنها دون رقيب، مشيرا إلى أن أى رسوم عامة سيتم تحصيلها يجب أن تدخل إلى خزانة الدولة لتوزع بعد ذلك بحسب أولويات الموازنة.

وأكد رئيس الوحدة الاقتصادية بمركز الدراسات أن كثيرين من رجال الأعمال العاملين فى السوق المصرية لن يقاوموا التغيير فى النظم المتبعة، وفى إجراءات مكافحة الفساد، معتبرا أن من سيقاوم هم فقط الفاسدين، الذين تعودوا على الحصول على كل شىء، أما من يريدون أن يعملوا فعلا فإن تغير النظام سيكون مفيدا جدا لهم، لأنهم حينما يدفعون ضرائب أكبر على سبيل المثال، يعرفون أنه سيكون لها مردود حقيقى على تعليم وصحة العاملين لديها، وعلى البنية التحتية، التى يستخدمونها، بالإضافة لتخلص المستثمرين من المدفوعات غير المرئية الناتجة عن الفساد، والتى كانت توجه لرجال الدولة ورجال الأعمال النافذين وغيرهم.


مى قابيل - الشروق

No comments: