هذا الذى حدث بالضبط، ذهبت «شادية» إلى هذا المحل بالصدفة. فى العادة لا تذهب أبدا إلى تلك الأماكن، توكيل إحدى الماركات العالمية المُتخصصة فى أزياء النساء، لا تستطيع حتى أن تنطق اسمه، الأسعار تبدأ فى خانة الآلاف، لم تكن لدى شادية تطلعات طبقية حتى هذا الوقت، على العكس اشتهرت بين صديقاتها بأنها ترتدى الملابس البسيطة العملية، لا تكترث بالمال والمظاهر ولا تحاول ادعاء شىء، وهل ثمة دليل أقوى من أنها فضلت ممدوح على صلاح!، صلاح الذى تقطعت أنفاس بنات الدفعة عليه، بهندامه الأنيق وسيارته الفاخرة وثراء أسرته المعروف، لا أحد يدرى لماذا تعلّق بـ«شادية» بالذات؟ ربما لأنها أهملته!، وربما الكيمياء الغامضة التى لا ندرى عنها أى شىء. أثار احترامها له أنه دخل البيت مباشرة، لكنها لم تتردد فى الرفض.
صديقاتها كدن يقتلنها، أمها كادت تُصاب بالفالج، ممدوح الذى لا يملك إلا قوت يومه، ويأكل من اليد إلى الفم مباشرة، تفضله على صلاح!.
وكانت الإجابة «نعم»، إنها تحبه فعلا، يفهمها وتفهمه، ينتميان إلى عالم واحد، يبنيان عشهما الصغير معا، هى بطبيعتها لا تكترث بالمال، قانعة بحالها، وتعرف كيف تستمتع بأبسط الأشياء، تعرف كيف تجد سعادتها فى مطر منهمر، فى لحظة حزن شتائية، فى فنجان قهوة يفوح عبيره، فى خبز مغموس بالمحبة، فى ضحكة صادرة من القلب، فى موعد ولقاء.
تزوجته فى حفل بسيط، كادت تطير من الفرح رغم تواضع العُرس، أمها كانت تجتهد فى رسم ابتسامتها لكن كان واضحا أنها تفكر فى صلاح.
عاشا معا فى سعادة رغم الميزانية المحدودة، التى لا تكفل إلا شراء الضروريات، وفجأة تقاضت من عملها بضع مئات من الجنيهات، قررت أن تشترى بها فستانا من المحال التى تعرفها، لولا أن صديقتها قد أخبرتها- عرضا- بأن أحد التوكيلات العالمية يعرض بعض الثياب بتخفيضات مُذْهلة، لم تعبأ بالأمر فى حينه، لكنها اختزنت المعلومة التى طفت على السطح حين وجدت نفسها- بالمصادفة- هناك.
فليكن، ابتسمت فى مرح وكأنها مقبلة على مغامرة، دلفت من الباب الزجاجى فأحست بأنها تنتقل إلى عالم آخر، عالم من الهدوء والعطور والعناية بأدق التفاصيل، شعرت بعدم الارتياح لكنها استجمعت شجاعتها، ودلفت إلى الداخل، راحت تتأمل الثياب مبهورة، أنيقة رقيقة ناعمة رائعة تنتمى إلى عالم من البذخ والرخاء، عالم ربما ألمَّ صلاح بطرف منه، لكنه غريب عنها وعن ممدوح.
كانت توشك أن تنسحب حين شاهدت بطاقة تشير إلى خصم كبير، اصطدمت عيناها بالرقم فتوقفت، عادت تتأمل الرقم فى حيرة، أول رقم فى المحل كله يقع فى خانة المئات، أمسكت الفستان بأناملها فى رفق، وكأنها تخشى أن تخدشه، أذهلتها روعته، خامته الرقيقة، ألوانه الهادئة، خطوطه الراقية، أزراره البديعة، عنايته بأدق التفاصيل، لم يكن مجرد فستان، وإنما تحفة، عادت تنظر إلى السعر المسجل بالبطاقة، بالتأكيد هناك خطأ، مستحيل أن تُباع هذه التحفة بعدة مئات من الجنيهات.
اقتربت منها فتاة أنيقة تعمل بالمحل، أشارت إلى الفستان وتساءلت عن الثمن، فردت فى شبه دهشة: إنه الرقم المسجل على البطاقة، أبدت دهشتها من سعره، فأخبرتها البائعة بأنه القطعة الأخيرة من مقاس نحيف نوعا ما، غير معتاد فى أجساد المصريات.
وضعته على جسدها، إنه مقاسها بالضبط، اختطفته فى لهفة وكأنها تخشى أن تغير البائعة رأيها، ارتجفت أناملها وهى تعد النقود، خرجت من المحل، وقد تغير شىء فى داخلها إلى الأبد.
سارت فى الطريق المزدحم بالبشر، وأفكارها تزدحم فى رأسها، يشبه الأمر ثغرة أطلّت منها على عالم مسحور لم يكن يخطر من قبل على بالها، الآن تفهم لماذا يسرق اللصوص! الآن تفهم لماذا يتكالبون على المناصب المهمة! الآن تفهم لماذا يبيع الناس ضمائرهم! من أجل عالم من الترف، يرمز إليه هذا الفستان.
فتحت الكيس الأنيق، ونظرت إلى الفستان فى انبهار، ثم نظرت إلى حذائها فى امتعاض، مستحيل أن ينسجم هذا الفستان مع هذا الحذاء، ستنتظر بضعة شهور أخرى حتى تستطيع شراء حذاء لائق به، تحتاج أيضا حقيبة يد فاخرة بدلا من تلك المصيبة التى تحملها، نظرت فى ازدراء إلى حقيبتها، ولأول مرة تشعر بالحنق على ممدوح.
كانت تسير فى الطريق ذاهلة عن الطريق، هل ترتدى هذا الفستان فى بيتها الضيق البسيط؟ قالت: «لا» بصوت مرتفع، فنظر إليها أحد المارين فى دهشة، ولكنها لم تنتبه، هذا الفستان مصنوع حتما من أجل أن تخطو به صاحبته فى القصور، ولأول مرة تشعر بالضيق وهى تقترب من المنزل، تذكرت غرفه الضيقة فأحست بالاختناق، أخرجت طرف الفستان تتحسسه، وراحت تتذكر غرف البيت غرفة غرفة، ولأول مرة منذ زواجها تفكر فى صلاح!.
لم تنتبه شادية إلى أنها تكلم نفسها، إلا حين ابتسم صبى كان يمر جوارها، وسمعت تعليقا ساخرا من صديقه المراهق، انتبهت لنفسها فجأة، وكأنها أفاقت من نوم عميق، حقا لقد فاجأها ضعفها الذى لم تكن تتوقعه، وجدت نفسها أمام البيت مباشرة، المنزل ببوابته الكئيبة وسلالمه الضيقة، ورائحة الطعام التى تضايقها عند المدخل، كلها حقائق اختارتها بنفسها لأن معها الحب!، الحب الذى يجمّل الأشياء ويضفى عليها لمسة سحرية! ممدوح الذى فعل المستحيل كى يقترن بها، ضمّاته، قبلاته، دفئه، حنانه، قلبه الكبير، كل هذا توشك أن تضيق به من أجل فستان حقير.
نظرت إلى الفستان فى مقت، وكأنه شيطان يوشك أن يسرق روحها، وبسرعة اتخذت قرارها، تلفتت حولها فى حذر، حتى اطمأنت أن أحدا لا يراها، ثم رمت الفستان بجوار الحائط وكأنه جمرة فى يدها، ثم راحت تصعد السلالم فى سرعة وهى تشعر بأنها تخلصت من عبء كبير.
د. أيمن الجندى - المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment